ترأس بطريرك إنطاكية وسائر المشرق للروم الملكيين الكاثوليك يوسف العبسي، قداسا احتفاليا بمناسبة سنة اليوبيل، وذكرى 300 سنة على إعادة الوحدة مع الكرسي الرسولي، في كنيسة راهبات الخدمة الصالحة في دير جبولة في البقاع الشمالي، بحضور عضو كتلة "لبنان القوي" النائب سامر التوم، رئيس بلدية القاع بشير مطر، مختار جديدة الفاكهة يوسف خوري، المدبر البطريركي لابرشية بعلبك الهرمل المطران ادوار ضاهر، رئيس أساقفة الفرزل وزحلة المطران ابراهيم ابراهيم، راعي أبرشية بعلبك ودير الاحمر المارونية المطران حنا رحمة، مطران حمص وحماة ويبرود يوحنا عربش ، المطران الياس شكور، النائب العام لأبرشية بعلبك الكاثوليكية الإرشمندريت يوسف شاهين، رئيس جهاز مخابرات البقاع الشمالي العميد ملحم حدشيتي، قائد فوج اللواء التاسع في الجيش اللبناني العميد الركن سامر منصور، عضو المجلس الأعلى لطائفة الروم الملكيين الكاثوليك طلال مقدسي، منسق بعلبك الهرمل في "التيار الوطني الحر" جان بولس ولفيف من الكهنة وفاعليات البقاع الشمالي.



بداية كلمة ترحيبية لضاهر أكد فيها "محبة الناس ، وتآخي الأديان وطيبة إلانسان، وقد أتيت الى دير سيدة الخدمة الصالحة، لنبشر بالسلام المنشود بالصلاة والدعاء". وقال: "قيامة المسيح، أمدتنا بطاقة رجاء، ووثبة حياة، أمام المحن والصعاب والاضطهاد التي نعيشها اليوم، في وطننا الحبيب لبنان، وفي العالم العربي.  إنها طاقة نور، تتوهج في قلب كل محب: لكنيسته، ولعمله، ورسالته في هذا العالم.  إنها طاقة النعمة، التي تملأ حياة آبائنا وأمهاتنا، وأولادنا وشبابنا، وحياة كل فقير ومحتاج. ونحن في المئوية الثالثة للشراكة مع كنيسة روما، نطلب منكم يا صاحب الغبطة، أن تكرس كنيستنا الرومية الملكية للمعزي الروح القدس، كي تكون منارة للصلاة والحوار والتلاقي بين أبناء المسيح، في الكنيسة الجامعة، فتكون الصوت الصارخ في وجه الباطل والظلم، والقهر والحرمان. وكلنا على يقين، يا صاحب الغبطة، بأن الصعوبات والمشقات والصلبان، ولا بد منها في الحياة، لا ولن تثني من عزمكم ومضيكم في العمل والجهاد، بعونه تعالى، وبشفاعة أمنا العذراء مريم، سيدة الخدمة الصالحة".

أضاف: "نرفع صلاتنا بالشكر والحمد لله، من يفيض نعمه علينا غزيرة، ونتطلع، إلى أن يكون لنا في هذه الأبرشية المحروسة من الله، مطرانا أصيلا، في القريب العاجل، يظهر خادما وراعيا أمينا على قلب الله".

وختم: "باسمي، وباسم آباء وأبناء الأبرشية، وباسم العمدة الرهبانية وجميع الأخوات الراهبات، وباسم هذا الحفل الكريم، نرحب بكم، ونهنئ أنفسنا بقدومكم، راجيا غبطتكم أن ترفعوا يمينكم الطاهرة، وتباركوني مع إخوتي الكهنة وأخواتي الراهبات وجميع المشتركين معنا في هذا اللقاء العائلي التاريخي، فزيارتكم هذه، بركة وشرف، وعز وفخر لنا، وإنها صفحة ذهبية جديدة، تسجل في تاريخ هذا الدير".

 

العبسي

وألقى العبسي كلمة أكد فيها "وحدة الكنيسة". وقال: "بالصلاة والتأمل والتفكر نتذكر تاريخ استعادة كنيستنا الشركة مع الكرسي الرسولي الروماني في العام 1724، على أن نؤم هذا الدير المبارك الغالي على قلبنا، بصحبة لفيف كريم من الإخوة السادة الأساقفة ومن الأبناء الكهنة والرهبان والراهبات، بعد انتظار طال إنما من دون أن يخفف الشوق أو يضعف التمني. ثم الشكر لكن أيتها الأخوات الفاضلات على الاستقبال البنوي القلبي الصادق الذي صنعتنه لنا مع جميع من عاونكن ويسر لكن وشارككن وأظهر معكن ما في قلوبكن من محبة كبيرة نقية راهنة للكنيسة. هوذا نحن إذن الآن هنا في أرض طيبة مباركة لنقدم لكن أطيب الأماني وصادق المحبة ولنحتفل معكن بالسيد المسيح القائم من بين الأموات في التاريخ الذي تأسستن فيه، في هذا الأحد الثالث بعد القيامة حيث تذكرنا الكنيسة بالمعجزة الكبيرة التي صنعها لمخلع بيت حسدا، لمقعد كان ينتظر الشفاء منذ ثمان وثلاثين سنة من دون فائدة، فشفاه وأوقفه على رجليه وأرسله طليقا إلى بيته".

أضاف: "لا شك أن مشكلة هذا المخلع الأساسية كانت أنه كان مخلعا. بيد أننا من قراءتنا للحادثة نرى أنه كان لديه مشكلة أكبر هي غياب من يلقيه في البركة. كان في مستطاعه أن يشفى. يكفي لذلك أن ينزل إلى البركة. غير أنه لم يكن بقادر على الحصول على هذا الشفاء لأنه لم يجد أحدا في ثمانية وثلاثين عاما ليلقيه في البركة: "ليس لي أحد". كان الشفاء قريبا جدا منه. البركة على بعد سنتيمترات. لكن الناس من حوله كانوا على بعد كيلومترات منه. "ليس لي إنسان إذا تحرك الماء يلقيني في البركة".نتصور ما هي حالة المرء حين يتفوه بمثل هذه العبارة، حين تخرج هذه الصرخة، هذه الحسرة، من صدره. "ليس لي أحد": يعني أنه ليس معي أحد، ليس إلى جانبي أحد، ليس أحد ينصرني. "ليس لي أحد": إنها العزلة، آفة العصر التي غالبا ما تولد اليأس القاتل: ليس من يواسيني أو يفرح معي أو يشعر معي أو من يراني وكأنني غير موجود لا اعتبار لي ولا قيمة. كم يدل هذا الواقع على الأنانية البشرية، إذ كل إنسان يسعى إلى مصلحته أولا من غير أن يفكر بغيره. كثيرون من الذين كانوا يرتادون تلك البركة كانوا يشفون غير أنه ما فكر واحد منهم أن يساعد بعد شفائه المخلع لينزل إلى البركة، بل كان ينصرف مكتفيا بأنه نال هو الشفاء، وسواء عنده من بعد أنال غيره الشفاء أم لا".

وتابع: "نعاني اليوم من بين ما نعانيه أزمة ثقة. أبناؤنا يفقد بعضهم الثقة بنا ولكل سببه أو أسبابه وصاروا لذلك بعيدين عنا. إنجيل اليوم يعلمنا كيف يمكن أن نعيد الثقة إليهم أو بعضا من هذه الثقة وأن لا يبتعدوا بالتالي عنا. أن نكون نحن قريبين منهم، أن نذهب نحن إليهم، أن نبادرهم، كما فعل الرب يسوع مع المخلع: "أتريد أن تشفى؟". أشياء كثيرة قد تحول دون أن يأتي أبناؤنا إلينا، أن يتقربوا منا، من يسوع، أن يرتاحوا إلينا، وقد تكون هذه الأشياء ليست كلها وجيهة وصحيحة ومقنعة. بالرغم من ذلك علينا نحن نبادرهم أولا وأن نذهب إليهم وأن نكتشف شيئا فشيئا ما الذي يمنعهم من المجيء إلينا. ما نريد، ما يجب أن نقول لهم قبل كل شيء هو أن لهم من يفكر بهم ويريد الخير لهم والسعادة: إنه يسوع ونحن أيضا، نحن تلاميذ يسوع الذين اختارهم ليكونوا على مثاله".

وقال: "في الآحاد التي تلي أحد القيامة، ومن بينها أحد اليوم الذي نحن فيه، تتلو الكنيسة علينا أناجيل من يوحنا يظهر فيها يسوع آتيا بنفسه إلى الناس المعذبين المتألمين المضايقين اليائسين المخذولين الحائرين الضائعين: إلى المخلع، إلى السامرية، إلى الأعمى من مولده، إلى توما والرسل، إلى تلميذي عماوس... ذلك لكي ترينا الكنيسة أن الذي قام من بين الأموات وصعد إلى السماوات ما زال معنا بالقرب منا يتفقدنا كما وعد: "ها أنا معكم كل الأيام إلى انقضاء الدهر". الرسالة التي تقوم بها راهبات الخدمة الصالحة هي هذه: أن نخفف من وحدة الناس، من شعور الناس بأنهم مهمشون متروكون ليس من يكترث لهم لأنهم ضعفاء وفقراء. بالخدمة التي يخدمن بها يجعلن الناس يشعرون بأن لهم كرامة في عيوننا وفي عين يسوع. هكذا يعدن إليهم الثقة أو يمنحن لهم الثقة فيعود الناس إليهن، إلى يسوع".

أضاف: "في رسالة اليوم يقول سفر أعمال الرسل إن الصبية ظبية التي أقامها بطرس من بين الأموات "كانت غنية بالأعمال الصالحة". على مثالها، انطلقت هذه الرهبنة عام 1954 على يد المثلث الرحمة المطران يوسف المعلوف راعي أبرشية بعلبك للروم الملكيين الكاثوليك، للقيام بالأعمال الصالحة فسميت "رهبنة سيدة الخدمة الصالحة". ومنذ ذلك التاريخ إلى اليوم، على مدى سبعين عاما، انبرت الراهبات بتفان وتواضع وصمت وتعب لخدمة من طلب منهن الخدمة في الإكليريكيات والأديار والمطرانيات والبطريركية والمياتم والمدارس والمشافي، موجهات عنايتهن بنوع خاص للفقراء والمحرومين في لبنان وسورية من دون تمييز في الدين وفي المنشأ. على هذا النحو كانت خدمتهن أعمالا صالحة من تلك الأعمال الصالحة التي طلب السيد المسيح ومن بعده الرسل أن نتحلى بها نحن المسيحيين بنوع خاص: "هكذا فليضئ نوركم قدام الناس ليروا أعمالكم الصالحة. ويمجدوا أباكم الذي في السماوات" (متى 5: 16)، يقول لنا الرب يسوع في الإنجيل، ويضيف بولس قائلا إننا نحن المسيحيين قد "خلقنا في المسيح يسوع للأعمال الصالحة" (أف 2: 10) وإن يسوع قد "بذل نفسه لأجلنا ليفتدينا من كل إثم ويطهر لنفسه شعبا خاصا غيورا على الأعمال الصالحة" (تي 2: 14)، ويردف الرسول بطرس قائلا: "اسلكوا بين الأمم مسلكا حميدا، حتى إنهم فيما يفترون عليكم كأنكم أشرار، يلاحظون أعمالكم الصالحة فيمجدون الله في يوم الافتقاد" (1بط 2: 12).

وتابع: "أجل ما يميز بناتنا وأخواتنا الفاضلات اللواتي نحتفل معهن بهذا العيد المقدس هو أن خدمتهن هي صالحة، مستقاة من السيد المسيح الراعي الصالح والمعلم الصالح الذي علمنا كيف تكون الخدمة صالحة. في العالم خدمات كثيرة ومتنوعة وأناس كثيرون يعملون في هذه الخدمات. خدمات تقوم على تتميم الواجب، وفي أفضل الحالات على القيام بالعمل المطلوب خير قيام. غير أن الخدمة الصالحة التي وضع الرب يسوع أساسها مختلفة. إنها خدمة المحبة التي لا ترتبط بوظيفة أو بواجب بل تنبع رأسا من القلب وتأتي من الكبير إلى الصغير، من القوي إلى الضعيف، من الكامل إلى الناقص، من المكتفي إلى المحتاج. هذه هي الخدمة الصالحة التي تخدم بها راهبات هذا الدير المقدس منذ سبعين عاما، خدمة مخالفة للخدمة المعهودة في العالم من مرؤوس إلى رئيس، من ضعيف إلى قوي، من محتاج إلى غني، خدمة أوضحها المعلم الصالح بقوله: "لم يأت ابن الإنسان ليخدم بل ليخدم" (متى 20: 28)، "وإذا كنت أنا الرب والمعلم قد غسلت أقدامكم كان عليكم أنتم أيضا أن تغسلوا بعضكم أقدام بعض[...] ليس العبد أعظم من سيده [...] فإذا علمتم ذلك فطوبى لكم إذا عملتم به" (يوحنا 13: 14-17). وإلا يقول لنا السيد "فأي أجر لكم؟ أليس العشارون أنفسهم يفعلون ذلك؟ أليس الوثنيون أنفسهم يفعلون ذلك؟" (متى 5: 46-48). الخدمة الصالحة، خدمة المحبة، أجل، "فالإنسان الصالح من كنز قلبه الصالح يخرج الصالحات" (متى 6: 45)، يقول يسوع الراعي الصالح".

وختم: "بهذه الغاية، بهذه الرؤية، بهذه الفضيلة، أراد المؤسس أن تتميز الرهبنة الذي كان مزمعا أن يطلقها. ولكي تكون هذه الميزة مترسخة وحاضرة دوما في أذهان الراهبات لم يبن لهن الدير في مدينة أو بلدة أو حتى قرية، أو بالقرب منه أو من رعيته بل في مكان منعزل فقير يكاد يشبه المزرعة، كل شيء فيه وكل حي في حاجة إلى خدمة، إلى محبة، إلى حنان، فيه خصوصا أناس طيبون استطاعت الراهبات أن ينشئن معهم علاقات صافية نقية من الود والصداقة والأخلاق الدمثة والتعاون البناء، وأن يتقاسمن معهم ما في السراء وما في الضراء، فكن وكانوا مثالا في كيف يعيش المرء منفتحا متقبلا مفتخرا فرحا بمن يريه وجها آخر من الأشياء والحياة، وكن نموذجا حيا رائعا من نماذج كنيستنا الرومية الملكية الكاثوليكية التي لا تعرف الانكماش والفئوية والاستئثار والتقوقع وما إلى ذلك".

المصدر: لبنان ٢٤

كلمات دلالية: لی أحد لیس لی من بین غیر أن

إقرأ أيضاً:

نظرات في تاريخ الكبابيش الشفاهي لموسى مروّح 2 / 2

بقلم: خالد محمد فرح

تبدأ تغريبة الكبابيش من موطنهم السابق في شمال السودان، إلى مواطنهم الجديدة في كل من شمال كردفان وجنوب النيل الأبيض على التوالي، بيد أن ما صارت تعرف بدار الكبابيش في صحراء شمال كردفان، قد اضحت هي معقلهم الرئيسي بامتياز، وصارت الغالبية العظمى منهم تقطنها وتتجول في عرصاتها وراء قطعانهم الهائلة من الابل، تبدأ تلك التغريبة بحسب الرواية الشفهية التي أفضى بها الراوية الشيخ عوض الله ود محمد ود عوض الله الكبيشابي، بقتل فارسهم حمد ود شدهان لحاكم ظالم ومتسلط يلقب ب " راس الهام "، كان سلطانه يمتد على جميع سكان منطقة صحراء ابو حمد بمن فيهم الكبابيش في حوالي خواتيم القرن الثامن عشر الميلادي. وكان سبب قتل الفارس الكباشي لذلك الحاكم الملقب برأس الهام، هو ان هذا الأخير قد حاول اخذ ناقة من نياقه عنوة، فلما اراد ان يقاوم ذلك العدوان، ضربه ذلك الحاكم بسوط، فلم يرض تلك الاهانة فاشتبك معه وقتله في النهاية، فخافت القبيلة من مغبة تلك الفعلة، فقررت النزوح غربا إلى صحراء كردفان.
بالرجوع إلى تاريخ تلك الحادثة، اي العقد الأخير من القرن الثامن عشر الميلادي، فان الخريطة السياسية والاجتماعية التي تتكشف امام أعيننا في نظرة ارتدادية، توضح لنا ان تلك الفترة هي فترة سيادة حكم الهمج في سلطنة سنار، بعد الانقلاب الذي نفذته عليهم عشيرة الهمج بقيادة زعيمهم الشيخ محمد ابو لكيلك 1710 - 1776م، منذ ستينيات ذلك القرن، فصاروا منذ ذلك التاريخ وحتى نهاية دولة الفونج على يد قوات إسماعيل باشا في عام 1821، هم الحكام الحقيقيين، بينما كان سلاطين الفونج الاونساب مجرد بيادق في اياديهم، لا يمتلكون سلطة فعلية.
لقد كانت معظم المناطق في السودان شبه مستقلة عن سنار آنئذً، او في صراع معها مثل العبدلاب والشكرية وغيرهم، او في صراع فيما بين قبائلها المختلفة. انها الأوضاع المضطربة للغاية التي لخصها احسن تلخيص، البروفيسور جاي سبولدنق في كتابه الشهير الذي عربه المرحوم السفير احمد المعتصم الشيخ تحت عنوان: " عصر البطولة في سنار ".
ورغم ان الرواية المثبتة في هذا الكتاب، توشك ان تجعل من رأس الهام المذكور حاكما من الهمج بالتحديد ، لكننا لا نعتقد ان المصادر الخطية التي تناولت وقائع واحداث تلك الفترة ورموزها، قد اشارت إلى شخصية رأس الهام المذكور فيما نظن. ونود ان نشير في هذا السياق إلى تاريخ كاتب الشونة لاحمد الحاج ابو علي، وكذلك إلى كتاب طبقات ود ضيف الله.
اما كتاب الطبقات لمحمد النور ولد ضيف الله بالتحديد، فان فيه اشارة لافتة للنظر، قد يراها البعض ذات صلة على نحو ما، بتغريبة الكبابيش من السافل او البطانة إلى كردفان. فقد جاء في ذلك الكتاب في معرض الترجمة للشيخ صالح ود بانقا بن الشيخ عبد الرازق ابو قرون، ان حيرانه العطوية قد قتلوا رجلاً من السدارنة، والسدارنة هم قبيل من المحس الذين نزحوا إلى البطانة وخالطوا الشكرية والبطاحين وصاروا اهل بادية وانتجاع بمواشيهم مثلهم. فلما خشي العطوية من عاقبة تلك الحادثة، لجأوا إلى الشيخ صالح المذكور الملقب ب " جبل اللقمة " واستجاروا به فاجارهم. ويبدو انهم قد عنت لهم بعد ذلك فكرة التوغل بثروتهم المعتبرة من الابل غربا إلى موطنهم الحالي في كردفان، كما يذهب البعض إلى ذلك. والعطوبة بعد مكون اساسي من مكونات تجمع الكبابيش.
ويستدلون على وجاهة هذا التفسير، بحقيقة العلاقة والصلة الملحوظة والقوية للغاية، التي ظلت قائمة بين الكبابيش والفقرا الرازقية إلى يوم الناس هذا. فعلى سبيل المثال يكثر اسم صالح جدا بين الكبابيش باجيالهم المختلفة، ولعل اشهرهم الشيخ صالح ود فضل الله ود سالم الذي أعدمته المهدية. فالغالب ان سبب انتشار اسم صالح بين الكبابيش، هو انه تيمن باسم الشيخ صالح ود بانقا المذكور. فهل ننتظر مثلاً، مثقفا من عيال العطوية مثل موسى ود مروح الكبيشابي هذا، لكي يسوق لنا الرواية من وجهة نظر قومه ايضا ؟.
اما شخصية رأس الهام الغامضة هذه، فلربما كانت هي الأخرى من عقابيل الصراع بين المكونات الاجتماعية التي كان يمور بها سهل البطانة في تلك الفترة ايضا. ذلك بانني في معرض البحث من اجل اعداد هذا الجزء الثاني والاخير من هذا المقال الاستعراضي، قد وقفت في صفحة من صفحات فيسبوك ذات صلة بتراث قبيلة الشكرية، وقفت عرضا على اسم فارس من فرسانهم يدعى: " محمد أحمد ود راس الهام الجبورابي "، والشاهد هو بالطبع ورود هذا اللقب ذاته" راس الهام "، فلعله ان يكون قد لقبه اهله تبمناً برأس هام مشهور قبله من اسلافه غالبا.
هنالك طائفة الكبابيش الذين يبدو انهم قد بقوا في موطنهم القديم بغرب النيل على مقربة منه، ولم يبرحوه البتة، لاحظت ان المؤلف لم يأت لهم على ذكر. وتلك الفئة من الكبابيش النهريين إذا جاز التعبير يعرفون ب " أم متّو " الذين يقطنون بنواحي الدبة وكورتي ومروي والى نواحي دنقلة والقولد. وكنت قد وقعت على هذا الاسم لاول مرة، اثناء تعريبي لكتاب السير هارولد مكمايكل عن وسوم الابل في كردفان، الذي صدرت ترجمته عن دار المصورات للنشر بالخرطوم في عام 2021م.
أما وجود كبابيش من فرع الكبيشاب بالتحديد في دار محارب بجنوب النيل الأبيض، وحتى الضفاف الشمالية منه بولاية أعالي النيل بجنوب السودان، فقد اكدها لي زميلنا السفير حسن يوسف نقور الذي هو من ابناء تلك المنطقة وعليم بتاريخها وتراثها. وذلك لعمري ما يعضد ما جاء بخصوصهم في هذا الكتاب.
يذكر المؤلف ان ما اسماه ب " عقال أم الروس " متفق عليه في جميع روايات الكبابيش كما قال، على أنه آخر العقلات اي المعارك الكبرى، ذاكراً انه قد قتل فيه من فرسانهم الكبار كلاً من: علي ود كيناوي من الكبيشاب، وشطيطة ود عجور من دارسعيد، وأبو درق من النوراب وغيرهم.
ولعل عقال ام الروس المذكور، هي نفسها " دوسة العقال " كما في ادبيات حمر وحلفائهم المجانين في تلك المعركة الشهيرة التي جرت في ستينيات القرن التاسع عشر، التي وجدت حظها من التوثيق الجيد، وخصوصا على مستوى طرف من تجليها الادبي والإبداعي. وقد تمثل ذلك في نص الخطاب الذي أرسله الشيخ مكي ود منعم زعيم حمر، إلى نظيره الشيخ فضل الله ود سالم زعيم الكبابيش، على اثر تلك المعركة التي كانت الغلبة فيها لحمر ، ذلك الخطاب الذي نشر كاملا بنصه في احد اعداد مجلة السودان في رسائل ومدونات، مع ترجمة له إلى اللغة الإنجليزية. واللغة الأصلية لذلك الخطاب، يمثل نموذجا ساطعا للنثر في السودان في ذلك العهد، بخصائصه المميزة، والمتمثلة في الاسلوب الهجين، والطرافة وروح الدعابة.
يورد الكتاب ملمحا باذخا من ملامح الوفاء والخلق الرفيع والإنصاف واقرار الحق لاهله حتى لو كانوا من اهل الخصومة احياناً، وتلك لعمري هي اخلاق الفرسان التي تميز اهل البادية عموما. وقد تجلى ذلك في قصة " بدّي ابو سليمان الحمري "، الذي رثاه شاعر من الكبابيش يسمى " ربّاح ابو قنيجة " بأبيات حسان منها قوله:
تبكيك القبيلة ولا جبال قيسان
وتبكيك ام عقالاً دنقسوه محجان
تبكيك دار سعيد أهل الجواد وحُصان
وتبكيك القبايل وكدرسوا النسوان
يا ضو القبيلة الماك ضي دُلقان
ويا عاصي الادب ما طيّعك سلطان
البادي بنقاقيرها معاك جيران … الخ
وتأمّل يا رعاك الله قول هذا الشاعر الفصيح: تبكيك دار سعيد أهل الجواد وحصان، فليس في الأمر تكرارا كما قد يتوهم البعض، لان الجواد في عربية اهل السودان التراثية القديمة، تطلق عادة على الاناث من الخيل، بينما الحصان يطلق على الذكور منها فقط.
وانظر ايضاً إلى قول بنت ابو اصيبع النورابية في منافرتها وافتخارها امام ابنة خالتها من بني جرار:
ركبوا النوراب صليبة
جلبوا الرويميات ودرعوا الحقيبة .. الخ
فقولها: صليبة، هو غاية في الفصاحة، اذ ان معناه: انهم ركبوا صرفا ومحضا لم يخالطهم احد من غيرهم.
هذا يقودنا أخيرا إلى التعليق على بعض المسائل المتعلقة باللغة في النصوص التراثية الشعرية والنثرية التي اشتمل عليها هذا الكتاب. وهنا لعلنا نقرر ان من نافلة القول، الحديث عن فصاحة الكبابيش عموما، ونقاء لهجتهم في اطار عربية اهل السودان. والظاهر ان السبب الأساسي في ذلك انهم قد ظلوا منعزلين ومنكفئين على انفسهم في جيب داخل صحراء شمال كردفان، ولم يتأثروا كثيرا لغويا بالمجموعات السكانية الأخرى التي ليست العربية بلغة ام بالنسبة لهم.
لقد لاحظ الاستاذ حسن نجيلة في كتابه:،ذكرياتي في البادية، فصاحة الكبابيش تلك، وعبر عن دهشته لتطابق ألفاظها في كثير من الاحيان مع ألفاظ موغلة في الفصاحة، ربما لا توجد إلا في المعاجم والقواميس.
ومن ذلك قوله انهم يقولون للغدير او مسطح تجمع المياه في الارض المستوية " الأضاة " وهي كلمة فصيحة، كما ذكر انهم قد تاهوا من مضارب الحي ذات يوم ليلاً، فوجدوا فتاة تسير في الفلاة، فدلتهم عليه وهي تقول لهم ان الحي " عند ها الشواظ " اي اللهب من النار المتقدة، كما تعجب من امر فتاة اسمها " الغُفُل " لانه لم يكن يدرك معناه إلا بعد ان رجع إلى المعجم فوجد ان معناه الفتاة ذات الوجه السليم من الاشراط واللعوط اي الفتاة " السادة " او المرهاء كما يقال ايضا.
وبهذه المناسبة، اذكر انني كنت اتابع حلقة من برنامج " من البادية ؟ " الذي كان يقدمه الاستاذ محمد الفاتح ابو عاقلة بالتلفزيون قبل نحو عقدين من الزمان او تزيد. كانت الحلقة مصورة من بادية الكبابيش، وفيها سال مقدم البرنامج شيخا كبيرا من شيوخ الكبابيش عن انواع النباتات التي ترعاها الابل في مناطق الجزو النائية في جوف الصحراء، وشد ما كانت دهشتي عندما ذكر له ذاك الشيخ الذي ارجح انه كان اميا، الصليّان بصاد مكسورة بعدها لام مشددة مكسورة تليها ياء مثناة من بين تلك النباتات. وعلى الفور تذكرت ما سبق ان قراته في كتاب: أباطيل وأسمار للأستاذ محمود شاكر، من سخريته وتجهيله للدكتور لويس عوض عندما اخطأ في تفسير بيت لابي العلاء المعري يصف فيها ناقته بقوله:
صَليتْ جمرةَ الهجيرِ نهاراً
ثم باتتْ تُغصُ بالصلّيان
وهو اللفظ الذي صحفه لويس عوض لجهله به وبمدلوله ، فقرأه خطأ " الصُلبان " بالباء جمع صليب، فأسس على ذلك فهماً خاطئاً للبيت، لانه زعم بناءً على ذلك، ان ابا العلاء اراد بذلك بلدته المعرة، عشية الحروب الصليبية، وانها غصت بصلبان المحاربين الصليبيين الذين غزوها، وامتلأت بها على حد فهمه.
هذا، والشكر الجزيل في الختام، لصديقنا الاستاذ موسى مروح على إهدائنا هذا السفر الممتع والمفيد حقا.  

مقالات مشابهة

  • أمين الإفتاء يكشف كيف يستجاب الدعاء بالصلاة على النبي
  • السيسي وبوتين يشددان على أهمية استعادة الاستقرار في قطاع غزة
  • السيسي وبوتين: أهمية استعادة الاستقرار في الشرق الأوسط
  • نظرات في تاريخ الكبابيش الشفاهي لموسى مروّح 2 / 2
  • إتلاف لقاحات ومستلزمات بيطرية منتهية الصلاحية في صنعاء
  • منظمة دولية: أوكرانيا تحقق تقدما كبيرا في مكافحة الفساد
  • لجنة المال: لا ثقة ولا إصلاح من دون استعادة الودائع ومحاسبة شاملة
  •  توفير 477 طرفًا صناعيًا لفاقدي الأطراف في غزة 
  • الأردن يوفّر 477 طرفًا صناعيًا لفاقدي الأطراف في غزة
  • حلا شيحة داعية للتفكر والتأمل: كل شيء بالكون دليل على وجود الله