سودانايل:
2024-05-23@17:34:02 GMT

ذكرياتي مع الشيخ على بيتاي

تاريخ النشر: 13th, May 2024 GMT

بقلم: حسن ابوزينب

الشمس زهرتنا التي انسكبت على جسد الجنوب
وأنت زهرتنا التي انسكبت على أرواحنا
فأدفع شراعك صوبنا
كي لا تضيع
وأفرد جناحك في قوافلنا
إذا اشتد الصقيع
وأحذر بكاء الراكعين الساجدين
فالله في فرح الجموع

محمد مفتاح الفيتوري

بقلم : حسن أبوزينب عمر
ما أكثر كؤوس الذكريات التي تجرعتها عبر محطات الزمن ولكن تظل وحدها اتي جمعتني بالشيخ الجليل على بيتاي أكثرها اشتهاء وأكثرها بقاءا متقدة وشما في طوايا الذاكرة .

.أحداثها جرت بحي الأملاك في الخرطوم بحري ..كان ذلك في منتصف السبعينات من القرن الماضي حينما كنا وقتها نكافح لبقاء الروح في نادي البحر الأحمر الذي وضعتني الأقدار رئيسا له فقد كان جمع الاشتراكات لتوفير الايجار الشهري (أم المشاكل) التي كانت تواجهنا كما ان ارتياد النادي لم يكن بالمطلوب حيث كان الكثيرون من الأعضاء يتعللون ببعد المكان وأزمة المواصلات وظللنا فترة ونحن في حالة صراع البقاء على قيد الحياة حتى حل علينا ذلك الرجل ورهطه مع قطيع من الضأن عرفت فيما بعد أسباب حرصه على نقلها من همشكوريب ..أذكره جيدا كان رجلا ربعة لا بالطويل ولا بالقصير .. شعر ذقنه لم يكن مسترسلا ولكن كانت هناك شعيرات بيضاء كانت تتخلل حلكة السواد .

(2)
كان رجلا اذا رأيته تقع في حبائله من الوهلة الأولى فلا تود مفارقته ..لم أشاهده وطوال فترة اقامته التي استطالت شهرا في النادي يوما مكدر الوجه فقد كانت تكسو وجهه دائما ابتسامة محببة بتأشيرة إقامة دائمة ..ولكن ليس هذا فقط السبب الذي جعل أفئدة من الناس تأوي اليه ..كان الطيبة وحب الناس والكرم الحاتمي الفياض يمشي على قدمين وقد انعكس ذلك على نادينا الذي تحول في غمضة عين وانتباهيها الى خلية نحل لا تعرف السكون منذ أن وطأت قدميه أرض النادي فأصبح قبلة للقاصي والداني حتى انتهى الأمر به وقد دبت في شرايينه الروح بزيارة وزير الري الذي لم نكن نعرفه من قبل ليلقي على الحضور الذي اكتظ بهم المكان ندوة عن أزمة مياه بورتسودان .. تعرفنا لأول مرة على وجوه من البشر هاجروا من ولايات الشرق منذ عشرات السنين واستوطنوا العاصمة .. بعضهم ينحدرون من أصول حضرمية وشامية وكان ولائهم الأول والأخير لمدن الشرق بورتسودان وكسلا وطوكر وربما أروما .

(3)
هؤلاء يشكلون رصيدا لكل قضايا الشرق اذا حرصت الناس على الحفاظ على خطوط التواصل معهم حية ونشطة .قناعات توصلت عليها بحكم التجارب التي خضناها معهم وبالذات على صعيد المساهمات المادية لتسيير دولاب العمل . وجبات الغداء التي كانت تقدم لزوار النادي وقتها كانت تتكون من الأرز تتوهط فوقه قطع اللحم (الطازة) من الخراف التي أتي بها الشيخ الجليل من همشكوريب والتي تتلوها فناجين القهوة تضاف الى كرم الشيخ في عطاياه المادية للنادي وطلاب جامعة الخرطوم بمبالغ مقدرة دسها ذات مرة في جيبي وحينما سألته عنها قال لي انها مساهمة بسيطة لطلاب جامعة الخرطوم وحينما اعترضت على استلامها وحجتي وقتها أن الجامعة كانت في أوج تأريخها وانها كانت توفر الأكل والايواء وحتى المنح المادية طلب منى الشيخ استلامها وتسليمها حتى لا نوصف بالبخل ..الطلاب الذين كان يستهدفهم الشيخ وقتها كانوا الراحل عثمان شيبة والأخوان عبد الله شنقراي والأمين طاهر وآخرين لم تسعفني الذاكرة الخربة بذكر أسمائهم أمد الله في أعمارهم .

(4)
كان اذا جلست على مائدة طعام لا يتركك وشأنك بل كان يحلق فوق رأسك راسما ابتسامته العريضة على وجهه وأصابعه تحمل قطعة لحم يضعها أمامك ويقول (تون تما .. تون نفركاتو) وترجمتها كل هذه فهي أحلى.. صاحب هذا الكرم والطيبة والتواضع هو المريض الذي اعتذر للنميري بالسفر للعلاج في القاهرة على حساب الحكومة ورفض أيضا الاستجابة للرئيس السادات بجاهزية المستشفي العسكري لاستقباله في الجيزة ..كان رجلا قوي الايمان زاهدا في الدنيا أن جسده ينبغي أن لا يبتعد عن تربة همشكوريب .. ذكرني الانتعاش الذي أصاب نادينا بعد أقامته فيه بقصة عاتكة بنت خالد بن منقذ بن ربيعة الملقبة بأم معبد الخزاعية وهي المرأة التي استضافت الرسول عليه الصلاة والسلام أثناء هجرته من مكة الى يثرب ومعه صديقه ابوبكر الصديق ومولاه عامر بن فهيرة وكيف ان ثدي الشاة العجفاء العاجزة عن الحركة درت من الحليب ما أشبع الجميع بعد أن حلبها بيده الشريفة ..أقول أن شيئا أشبه بمعزة (أم معبد) حدث لنادينا الذي كان يصارع سكرات الموت .

(5)
كان الرجل مصلحا اجتماعيا فقد لعب دورا محوريا في انتشال المنطقة وانسانها من براثن الجريمة والضياع ليس بتشييد الخلاوي فحسب بل قام بتوظيف سواعد كانت تحترف القتل والسلب والقتل لأعمار أرض بلقع لا تطرح سوى أشجار الشوك والدوم والزقوم (طعام الكفار) في الآخرة وحولها الى بساتين خضراء غطت ولبت كل احتياجات الاستهلاك المحلية وفاضت للمساهمة في بناء الخلاوي والمساجد حتى خارج همشكوريب الى مناطق الجزيرة فقد رأيت بأم عيني رجلا من أحد قرى الجزيرة العامرة بالتربة الخصبة والمياه الغزيرة يطلب من الشيخ مساعدة فطلب على الفور من مساعديه تزويده بلوري مشحون ذرة تبرعا منه .

(6)
أجريت معه حوارا صحفيا أعتبره الأصدق والاجمل في مشواري الصحفي لأن المتحدث لم يكن من الذين رزئت بهم والذين كان هدفهم الوحيد استخدامك بوقا لتسليط أضواء على انجازات لهم هي بكل المقاييس وهمية بل كان شخصا آخر ..فحينما طلبت منه الحديث عن تجربته التي لفتت أنظار الكثيرين وعلى رأسهم الرئيس نميري طلب باستدعاء طاهر وهو أحد مريديه ..كان طاهر رجلا ملتحيا لحية خفيفة أنيقة ويرتدي ملابس بيضاء ونظيفة وكان ينظر الى أسفل أثناء الكلام ربما خجلا من جرائم كان قد ارتكبها هو مع أصحابه الذين أجبروا حكومة كسلا بمنع سفر العربات ليلا خوفا من قطاع طرق همشكوريب..وكان يسرد بصوت هامس ماضيه الذي كان يغلفه الضلال راجيا من الله أن يغفر له ..خاض الشيخ على بيتاي تجربة فريدة في بيئة جافة طاردة سامة أشبه بمثلث برمودا الداخل فيه مفقود والخارج منه مولود مسلحا بايمان راسخ وإرادة صلبة فقد لفت نظر حكومة نميرى بنيران القرآن ليلا ثم العمل الدؤوب في الحقول نهارا.. كنت أشاهد اللوحات الزجاجية على أسوار وزارة الاعلام وهي تحمل صور نساء المنطقة يتلون كتاب الله وهن يرتدين الفوط بألوان قوز قزح (أحمر أزرق أصفر أخضر زي شفق المغارب ) كما يقول عبد العزيز المبارك .. وكانت المنطقة قبلها مستنقعا للجريمة فأذا اشتكى أحد الأعراب القادمين من مدن الساحل الباحثين عن الماء والكلأ وطلب اعانته في البحث عن بعير فقده يأتيه الجواب أنه اذا دخل البعير أرض الجميلاب وهي أرض شيخنا على بيتاي فعليه أن لا يهدر وقته بحثا عنه بل يضرب عليه مأتما وعويلا .

(7)
أحداث المحطة الثانية في السيرة العطرة للراحل المقيم الشيخ على بيتاي كانت في حي المرسلات أحد أحياء شمال شرق العاصمة السعودية الرياض ..في منزل زميلنا على وجدت والده الشيخ محمود رحمه الله وقد جاء لتوه في زيارة الى السعودية .كان الرجل يحدثني خلال (الونسة) عن قصة امتلكت كل جوارحه وحينما يسرد تفاصيلها كنت أحس بأنفاسه الحرى وكأنها تضطرب في صدره ..ملخصها أن أحد منسوبي قبيلتهم (الأشراف) كان يقيم معه أسرته في منطقة نائية في خاصرة خور بركة المتاخمة للحدود مع أريتريا ..استقبل ذات مرة ضيفا ينتمي الى قبيلة الجميلاب وبعد السلام وتقديم ما يلزم من كرم الضيافة دار حوار قصير لا يخرج عادة عن أخبار المرعى والمطر التي تعتبر الروح في هذه المناطق القاحلة وبعدها سأل المضيف ضيفه أن كان يبحث عن حيوان مفقود فأجاب الضيف انه لا يبحث عن حيوان وحينما سأله المضيف عن ماذا يبحث اذن كان رد الضيف صادما صاعقا وعدوانيا بأنه يريد أحد السيدتين اللتين تقيمان معه وكانتا زوجته وابنته ..هنا تأكد انه أمام رجل تأبط شرا فأسرع بإخراج سيفه من غمده دفاعا عن العرض فكان الضيف أسرع منه أذا عاجلة بضربة من سيفه أطارت رقبته ..وهنا تقدمت أحد النساء وشقت رأسه بفأس كانت تحمله وأردته قتيلا في الحال .

(8)
خلال ثوان كانت هناك جثتان ملطختان بالدم وخبر انتشر انتشار النار في الهشيم وعم القرى والحضر كما يقول شاعر(حبيببة عمري) الحسين الحسن ..الخبر أثار موجة عارمة وحرائق من الغضب لدي قبائل الأشراف التي دعت لاجتماع في كسلا هدفه تصفية الحسابات مع قبيلة الجميلاب ..وفي الاجتماع الحاشد قرر المؤتمرون الغاضبون عل اختيار شخصيتين لتمثيل القبيلة في اجتماع همشكوريب أحداها شخصية سليطة اللسان سامة الكلمات والثانية شخصية هادئة متصالحة ناعمة الحديث وكان الاتفاق أن يكون ممثل الجميلاب أول من يبدأ الكلام فاذا كانت اللغة متصالحة والنبرة ناعمة يعلق أخونا الطيب المسكين واذا كان استفزازيا من زارعي الفتن يرد عليه راس الهوس ..ولكن شيئا من هذا لم يحدث فقد حشد الشيخ على بيتاي مريديه قبل اللقاء على حافة الطريق الى همشكوريب وهم يلهجون بالشكر لله أنه بعث لهم هؤلاء الأشراف وكان صدى كلمات الترحاب و(ايتانينا) يتردد في الآفاق وذلك ضمن خطوة ذكية لامتصاص حالة الغضب ..,كانت المفاجأة التي لم تكن في الحسبان انه لم يبدأ الحديث أحدا بخلاف الشيخ على بيتاي الذي رحب بهم ولخص الحل في كلمتين قائلا ( ان قبيلته جاهزة لدفع دية قتيل الأشراف وجاهزة لمسامحة قاتل الأشراف اذ يرفضون قبول أية تعويض أو دية لقتيلهم . فارتفعت في السماء عبارات الله أكبر ..الله أكبر والقوم يهللون ويكبرون ويتبادلون الأحضان .

(9)
هكذا وبنفس سامية وعقل كبير ومعالجة واعية تمكن الشيخ على بيتاى من حقن الدماء .. النتيجة ان هذا الرجل البسيط لم يضع أسسا لكيفية إيجاد مخارج لصراع قبلي معقد كان كفيلا بارتفاع منسوب الدماء الى الركب فحسب بل تطاول بتجربته الإنسانية وقدم دروسا مجانية لعلماء ومتخصصي إدارة الأزمات في العالم crisis managment الذين يهدرون الجهد والمال ويلفون ويدورون دوي جدوى حول أنفسهم كالأسطوانة المشروخة ..لكن يبقى السؤال هنا هل تصلح التجربة عظة وعبرة لنافخي الكير في السودان وهل يأتي سلام أو تتم مصالحات في غياب الإرادة واعلاء التضحيات وتقديم التنازلات بالعزيمة المطلوبة وفوق هذا وذاك تقوى الله في المشردين والتائهين ممن نهبت ممتلكاتهم واغتصبت أمامهم بناتهم وزوجاتهم حين المثول أمام المنتقم الجبار؟

oabuzinap@gmail.com  

المصدر: سودانايل

إقرأ أيضاً:

أمية جحا تكتب: يوميات فنانة تشكيلية من غزة نزحت قسرا إلى عنبر الولادة القيصرية (8)

وثقت رسامة الكاريكاتير الفلسطينية أمية جحا في يومياتها ذات الأجزاء العشرة، التي تنشرها الجزيرة نت، الأوضاع الإنسانية القاسية التي تدور أحداثها خلال الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، لا سيما في محيط مستشفى الشفاء، الذي وصفته منظمة الصحة العالمية في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي في تقريرها الدوري بأنه "منطقة موت".

بين يديك عزيزي القارئ الحلقة الثامنة من اليوميات، التي تنشر تباعا على مدى الأيام المقبلة وتروي فيها سيدة فلسطينية من حي النصر، برج زغبر بمدينة غزة، ما شاهدته من أحداث، وقد نزحت إلى مستشفى الشفاء بغزة (حتى آخر تواصل معها قبل اقتحام المستشفى للمرة الثانية يوم 18 مارس/آذار 2024)، وافترشت بلاط المستشفى البارد في انتظار النجاة.

الأحد الخامس من نوفمبر/تشرين الثاني 2023

صبيحة يوم الأحد، قررت تناول التمر والماء فقط، حتى انتهاء الحرب، لـ3 أسباب: أولها شح الخبز، وثانيها لتقليل الحاجة لحمامات المشفى، وثالثها لأغتنم الفرصة في تقليل وزني.

أغلب النازحين لم يتناولوا أي طعام اليوم، بسبب عدم وجود الخبز، وقيام الاحتلال بقصف أغلب المخابز القريبة من المشفى، وحتى البعيدة عنه، ومنها ما تم تهديد أصحابها، فآثروا الإغلاق بدلا من خسارة مخابزهم وحياتهم.

قام كثير من النازحين بشراء البسكويت الرديء المتوفر، بديلا عن الخبز لسد رمق أطفالهم الجوعى. إحدى الأمهات ضربت بعنف طفلها، لأنه تمرد على هذا الطعام. نام الولد بعدما بكى طويلا. أيقظته أمه، بعدما دبرت له رغيفا صغيرا من نازحين آخرين محشوا بشوكولاتة النوتيلا، كان سعيدا جدا وهو يأكله بنهم. إنه قلب الأم العامر بالحنان، حتى وإن قسا لحظات.

ماهر ورؤى وطه، أطفال جارتي التي تنام يميني، ينتظرون أباهم منذ الصباح، ليحضر لهم طعاما. امتد الانتظار حتى العصر. عاد أبوهم يحمل كرتونة صغيرة من التمر فقط. هذا ما استطاع توفيره، ليكون بديلا عن الخبز. أكلوا بصمت، ولم يظهروا تذمرهم، إلا بعد أن غادر أبوهم.

لقد اعتدت أن أتجه برأسي نحو هؤلاء الأطفال عند النوم، وانقطاع الكهرباء. كانوا لا يخشون صوت القصف. كنت أستمع لحديثهم الشائق عن بيتهم، وغرفة نومهم، وألعابهم، ومزروعات حديقتهم، ومدرستهم ومعلميهم وأصدقائهم وهواياتهم. ماهر في الصف الثالث الأساسي، متفوق في دراسته، وتبدو عليه علامات الذكاء الحاد، كنت أحب حديثه الأكبر من عمره.

ماهر يتمنى أن يصبح طبيبا عندما يكبر، حتى يعالج كل الجرحى، الذين يستهدفهم الاحتلال. قلت له إنني سآتي لعيادته إن مرضت. أجابني: "ستكونين عجوزا حينها، ولن آخذ منك أجرا". كنت بدوري أحدثهم عن بيتي وعملي وابنتي، وأريهم بعض الصور في جهاز الٱيباد الخاص بي.

كانوا سعداء جدا، وهم يرون عشرات الصور الشخصية المحفوظة فيه. تقوم أم ماهر بجعل أولادها متجاورين في نومهم. لم تكن تملك سوى غطاءين: واحد تضعه على البلاط ليناموا فوقه، والآخر تغطي به أولادها، وتبقى هي دون غطاء طوال الليل البارد.

إنه قلب الأم العامر بالتضحية والإيثار. قبيل المغرب، تأتي أم حسن يوميا للمبيت في المشفى، بينما تقضى ساعات النهار كله تقريبا في بيتها القريب من المشفى، تتفقد بيتها، وتنجز أعمالها اليومية، وتجهز طعامها الذي تأتي به لأحفادها النازحين في المشفى. أم حسن لها حيز معروف وسط النازحين في العنبر.

كانت دائمة الابتسامة، وصمتها وهدوؤها يغلب على حديثها مع من حولها. النازحون القريبون في سكناهم من المشفى، يفعلون مثل أم حسن. هم يعتقدون أن المشفى هو الأكثر أمانا في الليل، لأنه لا يمكن أن يتعرض للقصف، الذي يصيب البيوت بشكل دائم. في هذا المساء، جاءت أم حسن برفقة سيدة أخرى في منتصف الثلاثينيات من عمرها تقريبا، وعلى غير عادتها، كانت أم حسن حزينة جدا، وهي تسند على كتفها السيدة التي معها، والتي كانت واجمة الوجه، و كلتا يديها ترتجفان، بينما تحتفظ عيناها بدموع مشلولة، تقف على أعتاب مقلتيها، لا حراك فيها.

كانت نظرات الفضول تتجه إليهما، الكل يريد أن يعرف سر الوافدة الحزينة. بدأ قصف عنيف بعد هذا المشهد، لمنطقة أنصار ومخيم الشاطئ، بدءا من الساعة 06:30 مساء، إلى ما بعد منتصف الليل.

تنوع القصف ما بين أحزمة نارية، وقصف عشوائي يضرب في كل مكان، مما أثار حالة من الذعر الشديد بين النازحين، فكان اللجوء للدعاء هو الوسيلة الوحيدة، لبث الطمأنينة في القلوب التي انفطرت ألما بين تهجيرها من بيوتها، وملاحقة الصواريخ لها، حتى في أماكن نزوحها.

العجيب أن الكل كان يرتجف مع صوت كل قصف، إلا تلك السيدة التي جاءت رفقة أم حسن، لم تتأثر مطلقا، بل كانت تنظر فيمن حولها بكل ذهول. وكأنها اعتادت هذه الأصوات قبل الجميع. والأعجب من ذلك أن كل النازحين ناموا بعد انتهاء جولة القصف العنيفة، إلا هي. لقد بقيت ملتصقة بأم حسن، شاخصة البصر حتى أذان الفجر. إذ قامت رفقة أم حسن، وصلّت معها، ثم جلست من جديد، تتمتم بشفتيها في صمت.

تبين لي فيما بعد أنها أخت أم حسن الصغرى، قصف الاحتلال بيتها، بعد عصر أمس السبت في حي النصر، وخرجت بفضل الله سالمة من تحت الردم، بينما استشهد أبناؤها الثلاثة، بنتان وولد، أكبرهم بنت في السنة الجامعية الأولى. الأبناء الثلاثة ما زالوا تحت الأنقاض. الأب لا يعلم ماذا حدث لأسرته، إذ كان يعمل داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948، ولم تتسن له العودة، بسبب إغلاق الاحتلال المعابر، عقب إعلانه الحرب على القطاع.

عرفت حينها لماذا لم يغمض جفن لهذه الأم المكلومة طيلة الليل. إنه قلب الأم الذي لا ينام، إن مس فلذة الكبد أذى. فكيف وقد تفتت فلذات الكبد، ودُفنت تحت ركام بيتها بغير وداع. أم حسن ذاتها فقدت الاتصال منذ 10 أيام مع أصغر أبنائها، وهو متزوج منذ عام، وله طفل. ابنها مواطن عادي لا ينتمي لأي فصيل مقاوم. خرج من البيت ولم يعد.

تقول لي وهي تبتسم ابتسامة الرضا: "إن كان قد قُتل، أرجو أن يتقبله الله شهيدا، ويكون لنا شفيعا، وإن كان غائبا، أسأل الله أن يرده إلينا سالما غانما"، وتتابع " في كلتا الحالتين أنا راضية بقضاء الله وقدره".

إنه قلب الأم العامر بالإيمان، استشهد كثيرون في الشوارع، من دون أن تُعرف أسماؤهم، ولا يستطيع ذووهم الوصول إليهم. كثير من شواهد القبور المؤقتة، كان يُكتب عليها عبارة "مجهول الهوية". اكتوت قلوب الأمهات النازحات في هذه الحرب، فمنهن من فقدت بيتها، ومنهن من فقدت بعضا من أولادها، ومنهن من فقدت زوجها، ومنهن من تفرق أولادها بين شمال وجنوب القطاع. أمُ صديقتي نزحت بما تبقى من أولادها وأحفادها إلى إحدى مدارس اللاجئين، في حين دُفن من استُشهد من أولادها وأحفادها في الساحة الخلفية الخارجية للمدرسة.

تقول صديقتي إن أمها لا تغادر شباك الصف الذي نزحت فيه، وهي تطل على المقبرة التي تحوي رُفاتهم، وتبكيهم ليل نهار، بينما تردد بصوت حزين أغاني التراث التي تنعى فراق الأحباب.

مقالات مشابهة

  • نجاة 18 طفلًا من غارة لطيران الاحتلال.. كواليس استهداف سيارة بجنوب لبنان
  • أمية جحا تكتب: يوميات فنانة تشكيلية من غزة نزحت قسرا إلى عنبر الولادة القيصرية (8)
  • سياسة وأقليات زمن صراع العالم الإسلامي مع الصليبيين.. حوار مع الشنقيطي (1)
  • وداعًا رئيسي ومرافقيه
  • كانت بيد سليماني ورئيسي عند موتهم.. ما قصة الخواتم المقدمة من المرشد الإيراني؟
  • في الذكرى الـ34 لإعادة تحقيق وحدته.. إلى أين سيذهب اليمن؟
  • في غياب الدولة تضيع الشعوب
  • 22 مايو.. الحلم التائه..!!
  • أحزان فاشر السلطان.. طوبي لنساءٍ شموس يغبن من سماوات بنت أبو زكريا
  • على حافة الغابة البدائية: الحلقة (1)