سودانايل:
2024-06-18@22:11:03 GMT

دراسة نقدية .. وقصة قصيرة

تاريخ النشر: 18th, May 2024 GMT

بقلم / عمر الحويج

الدراسة النقدية : الناقد البروف عبدالله على أبراهيم في تقديمه لمجموعتي القصصية "إليكم أعود وفي كفي القمر " .
***
يتمتع عمر الحويج بسليقة للحكي. ومن دلائل ذلك إنه كلما تغافل عنها عادت وأيقظته عن بياته القصصي.
فالقارئ سيجد أن الحويج ليس مقلاً فحسب، بل أنه يكتب على دورات متباعدة: منتصف الستينيات الثاني.


ثم بيات عن الإبداع ثم فورة كتابة في منتصف السبعينيات ثم بيات، إلى يقظة أخرى في منتصف التسعينيات.
من بدائع صنعته القصصية "عام الصوت". فهو فيها يتحسَّب لما لم يقع من أشياء. فقد جال بذهن الطفل، وهو الراوي، أنه لو حرن كحمار جده لما سامحه وربت على عنقه وأغلق عليه الزريبة. كان سيكون شأنه آخر. وتحسس حلمة أذنه لأنها كانت التي سيقرصها جده حتى تدمي من فرط العقوبة. لم يحرن الراوي ولم تقع العقوبة بالطبع ولكن القارئ اطلع على حادثة لم تحدث. ومن عجائب سليقة الحكي عند الحويج مشهد ركوبه من خلف جده على الحمار. فهو يرى القرية من على ظهره ويتعرف عليها فانوساً فانوساً ومنعطفاً منعطفاً حتى يركب جده فيحجب عنه القرية- الحاضر: فيقول: "وقبل مواصلة هذا العمل المسلي يكون جدي قد حجب عني ذلك العالم المضيء، وتركني للظلام، ولخيالي الذي يرهقني، والذي يحيرني، بما يجسمه في رأسي من أشباح وأشياء أخرى".
وتهجم هذه الأشباح على الراوي من الماضي. فالجد لا يكتفي بحجب الراوي عن الحاضر اللألاء الشعشعاني الذي هو القرية فحسب، بل يستل من الماضي أحاجيه التي ترهب الراوي وترهقه. ومن ذلك سؤاله له يوماً إن كان قد سمع الصوت. هكذا بغير رأفة بالطفل الذي يقبع من خلفه، وقد انقطع عن الحاضر-القرية بالكلية. فتصور فزع الصغير يباغته سؤال عن ماض مبهم. ولم يزد شرح حكاية الصوت الطفل إلا خبالاً. فالصوت قد سمعه كل من عاش في القرية، وسيسمعه الطفل عاجلاً أم آجلاً. وهو صوت لا مخافة منه بل يسعد من سمعه. واتضح من ما قاله الجد أن الصوت ارتفع في القرية لأول مرة في عام جديب لم يَفِضْ فيه النهر وساء حال الخلق. وكانت بالقرية امراة تربي يتيماً مما تتسقطه من أهل الفضل. فتدهورت صحة الطفل من فرط الجوع ومات. وما انشقت شمس اليوم التالي حتى أشرق البحر بالماء واحتفت به الضفتان. وبحثوا عن المرأة الأم فلم يجدوها وكأنها تبخرت. وغاض البحر في العام التالي لمصرع الطفل واختفاء أمه. ولكن القرية سمعت صوتاً يشق عنان السماء. وفاض البحر بعده مباشرة. وصار فيضان البحر قريناً بهذا الصوت مجهول الأصل. وأرعبت القصة الطفل الراوي. وهو رعب مركب. رعب حجب فيه الجد (الماضي) بظهره "القديم" -مرأى القرية- الحاضر. وزاد بأن رهن هذا الحاضر بصوت ينشق عن ماض مبهم ومأساوي.
ولكن أهم قسمات هذه السليقة هو كتابة الحويج للقصة عن القصة؛ أي الميتاقصة (وهي القصة التي مدارها فن القص نفسه). وهي كتابة يقول عنها أهل البلاغة إنها الأشف والأنكى. قصته "الزجاجة" من نوع القصة عن القصة. فهو هنا في حالة شجار مع النقاد والقراء معاً. فلعن النقاد لحرصهم على أن يأتيهم بحكي يجلله التكنيك الأوفى للقصة، بينما هو منشغل عن ذلك.
واسترعت انتباهي هذه القصة لخصلة أخرى. ففيها بداية لتحول الحويج إلى القصة شعراً التي تميزت بها كتاباته في عقد التسعينيات. ففيها يحجب الحويج الوقائع، عصب القصة، عن القراء والنقاد معاً: فهو لن يحدثنا عن ظروف اكتنفته لأنها مما يعنيه هو ولا داع لأحد أن يحشر أنفه فيها. ويحتال عن ذلك بالشعر: فتجده مثلاً يتمسك باللازمة الشعرية مثل القفلة "إنه يمشي، إنه يعود، إنه ينتظر، إنه يقف، إنه يريدها أن تنتهي"، تكررت عنده مرتين وكذلك حوار "هو وهي". وهذا أدنى للشعر منه للقصة.
كان هذا التحول إلى بعض الشعر في السبعينيات. وحين أفاق من بياتها في التسعينيات تخلص عمر من القصة القصيرة المعروفة، وكتب شعراً صرفاً كما في قصة "مشهد داخل ذاكرة تتلاشى".
و"أصابت" هذه الشاعرية الحويج في دورة منتصف التسعينيات قبل أن تستبد به في دورة بدء قرننا هذا. ففي "رحلة عبد الشافي الأخيرة" (1995) تكاد اللازمات الشعرية تكون عماد السرد. فانظر:
على الضفتين.. والناس تنتظر
على امتداد النهر.. والناس تنتظر
على أحر من الجمر.. والناس تنتظر
كررها ثلاث مرات. ثم بث مفردات منها على طول السرد. وفعل شيئاً شبيهاً بـ"الناس نيام" يراوح بها يدورها ويديرها بما يدني القصة من الشعر لا السرد. أما قصص بدء قرننا فشعر محض. انظر مطارات.
كنت التقيت في القاهرة بصديق قديم خلال شتاء 2008م هو الأستاذ فيصل مصطفى صاحب رواية "الخفاء ورائحة النهار". ووجدته يروج لمفهوم القصة الشاعرة أو نحوه. بل أنه أعاد كتابة الرواية على وتيرة الشعر. وفكرته، لو فهمتها جيداً، أن القصة بأسطرها الأفقية (السرد) لا بد أن نفسح المجال للقصة الشاعرة ذات السطر الرأسي. ولم يبلغ عمر مبلغ فيصل ولكنه قريب جداً منه. ولا يأذن لي تأهيلي الحالي بالحكم على الطريق الذي يشقه الحويج بغير كثير تنظير مثل فيصل. فقد انشغلت عن وعورة النقد الأدبي بوعورات أخرى أتثاقل بها عن الإدلاء برأي عن خطة الحويج أو فيصل. فهذه مقدمة لم أرد بها غير وضع اسمي على كتاب لصديق قديم عشقنا على عهد الباكر فن القصة وكتابتها في سياق حلم بأن نمتلك العالم. وأنا سعيد بعودته للَمّ شعثه الإبداعي بين دفتي كتاب. ويبدو أنه في الطريق لمخاطرة جديدة. فلتكن .
***
القصة القصيرة: عام الصَّوت .
***
كنت: أنا وجَدِّي، دائماً ما يتركنا أهل القرية وراءهم، فكنا آخر من يغادر حقله، ويتوجّه إلى بيته: الناس تقول عن جدي أن "حركتُه تقيلة": ولكنه يضحك منهم ساخراً، ويهمس في أذني قائلاً: إنهم لا يحبون الأرض، بما فيه الكفاية، فكنت أنا أحتفظ برأيي، لأني لو أخبرته به، لمنعني من الذهاب معه إلى الحقل، رغم أنه يعرف أن في هذا موتي كرجل مستقبلاً.. حسب آرائه في مثل هذه الأمور. فكنت أنا أكثر من يلاحظ جدي، فهو من النوع الذي يراجع عمله أكثر من مرة.. لدرجة التكرار الممل، بالنسبة لي: إذا دَقّ الطّوْرِيّة على الأرض، ليفتح مجرىً جديداً للمياه، فهو بعد مدّة وجيزة، يكون خلالها قد أنجز عملاً، ثم آخر، فيعود ليكفي طوريته ساحباً بها الطين الذي أزاحه في البداية ليسدّ به المجرى الجديد الذي فتحه. وهكذا تجده أيضاً يقوم بأعمال لا لزوم لها، دائماً.. في نظري.. يفتعلها افتعالاً.. فهو إمّا "يكبُر الأعشاب التي ماتت، قبل أوانها، حتى ولو لم توجد!!، أو يصرخ في جاره الذي يتحايل، لتصل المياه إلى حقلنا.. قطرة، قطرة.. "مثل تلك التي يسكبها -عبد القيوم- في عيون ابنتك، التي تستكثر عليها خطف مشوار إلى البندر من أجل العلاج"، يصرخ فيه جدي. مع ملاحظة أن الصراخ عند جدي عمل قائم بذاته.
والحق أقول: أن جدي يحبّ الأرض أكثر من الآخرين، لا يفوقه إلا حبه للنهر.. منبت تلك الأرض. هذه حقيقة، كنت دائماً مقتنعاً بها، ولكنه أبداً لم يكن مبرراً لتأخرنا حتى مغيب الشمس، حيث يلفّ الصمت كل ما حولنا. ورغم أن جدي يكون معي في تلك اللحظات، أكثر تلطُّفاً من عادته، ويحاول أن يسلّيني، فيحكي لي قصصاً وحكاوي نقطع بها وحشة الطريق من الحقل إلى البيت، إلا أنني -رغم ذلك- كنت أخاف. نعم: جدي حينما تكون الدنيا صباحاً، فهو في مواجهة الناس، خير من يحميني، أما وسط هذا المجهول، هذا الليل الذي أسمع فيه الكثير، وأرى فيه الأكثر، من التخيُّلات المرعبة.. فهو قطعاً لن يحميني -على الأقل- من خيالي.
و.. ذلك اليوم، تأخرنا فيه، أكثر من الأيام السابقة، ولماذا لا نتأخر، وبقرتنا -الوحيدة- حلفت برأس أبيها. الذي حتماً لم يكن من ممتلكات جدي.. ذلك لأن جدي، منذ أن ماتت عنه زوجته، وجئت أنا وأمي لنعيش معه، بعد أن تركنا أبي وسافر للصعيد، ولم نعد نعرف عنه شيئاً: قلت، جدي.. لم يملك غير ثلاث بقرات على التوالي، باع الأولى.. لعجزها، واشترى بثمنها الثانية.. التي ماتت. ثم عشنا زمنا طويلاً، قاسيا حتى استطاع جدي أن يشتري هذه الأخيرة. وذلك واضح، لأن ثمن البقرة الذي أصلاً هو ثابت.. يتحول إلى عدم في حالة الموت.. موت البقرة أو الثمن. قلت، إن البقرة حلفت أن لا تقوم من رقدتها، وظلّ جدي بجانبها، يمسك بها تارة من رأسها، غارزاً أصابعه العشر في فجوة حنكها، وتارة يرفعها من مؤخرتها.. وهي مع كل ذلك ثابتة، ثبوت حجر الطاحون المكوّم أمام بيت العمدة، لا تريد حراكاً، ما بَرَاهَا الليلة.. كنت أسمعه يردّد ذلك في ضعف، وخوف..جعلاني أحاول -بيدي الصغيرتين- أن أساعده، ولكن دون جدوى. فلجأت إلى التخفيف عنه بقولي.. إنها ربما، أكلت كثيراً، فرمقني بنظرة قاسية، وكأنه يلومني على فشلي في المساعدة اليدوية. ولكن رغم ذلك رأيته خفية يبحث عن بطنها، للتأكد عما إذا كانت فعلا ممتلئة. وأخيراً وكأنها كانت تغيظنا، وقفت بقوة، يحسدها عليها تور ود الجليل الذي يؤجره صاحبه ليدير سواقي الآخرين. بعدها أقفل جدي عليها الزريبة، وهو يبتسم مربتاً عليها.. راضياً على ما يبدو عن مداعبتها الخشنة، مما جعلني أعقد مقارنة: لو كنت أنا فاعل تلك المداعبة حتى لو لم تكن خشنة.. ودون شعور، تحسست أذني وكأنه فعلاً، قد تمت معاقبتي. وهكذا وجدنا أنفسنا وحدنا، والليل قد دخل علينا، لا نرى شيئاً. ولكن قد ترانا الأشياء الأخرى!!، هكذا يبدأ خوفي. وقبل أن أذهب بعيداً في مثل هذا التفكير. جاء جدي بالحمار، وحملني أنا أولاً، وأجلسني في مؤخرته العارية، مما كان يسبب لي دائماً شعوراً بالاضطهاد، يجعلني أبكي داخلي. واعتلى جدي السرج المملوء بربطة كبيرة من القش (عليقة) للحمار يتسلى بها طيلة الليل، أو هكذا المفروض، ولكني أشك في ذلك، لأنني أبداً، لم يحدث أن وجدت لها بقايا في الصباح، مما يجعلني أميل إلى أنه يلتهمها في سويعات قليلة.. وحجب عني، ظهر جدي البقية الباقية من مظاهر العالم المرئي الذي كنت أتعلق به، ذلك حينما يركبني ظهر الحمار، ويكون هو لم يركب بعد، أرى وقد أصبحتُ عالياً، أضواء فوانيس الحلة من البعيد متفرّقة على بعد المسافات.. التي تكون بين البيت والحقل، فكنت أبدأ في تحديد مواقعها، تلك لناس بت الشورة.. والأخرى لناس أحمد ود الدهب، ومما يساعدني على تحديد المواقع.. الرتينة، ذات الضوء الأبيض الناصع، واللامع التي تتوسط حلتنا، وكنت أعرف أن هذا دكان الكتيابي، وقبل مواصلة هذا العمل المسلّي، يكون جدي قد حجب عني ذلك العالم المضيء، وتركني للظلام، ولخيالي الذي يرهقني.. والذي يحيرني، بما يجسمه في رأسي من أشباح.. وأشياء أخرى، والتي لا وجود لها في هذا المكان فقط -لأن هذا ما أتأكد منه في النهار- وإنما هي ليست موجودةً أصلاً إلا في الحجاوي والقصص، التي كنت أسمعها من جدي. وعلى ذكر جدي، الذي أكون قد نسيته تماماً وأنا أعيش ذلك الخوف، وكعادته حينما يريد أن يبدأ معي الحديث سائلاً، عما إذا كنت قد صليت الأوقات الخمسة. وكنت دائماً ما ابتسم، وهذا ما يخفف عني بعض الشيء.. فأولاً كنت أصلي معه الأوقات الأربعة، ويكون هو عارفاً لهذه الحقيقة، وثانياً يكون الوقت الخامس.. هو نفسه لم يؤديه.. لأن العشاء، لم يحن بعد.. ولكنني كنت أصارح نفسي بأنني أحبه.. أحب جدي غاية الحب.. بدءاً من تلك اللحظة.. والتفت إليّ دون أن ينتظر إجابتي، وعادته أن يبدأ في حجوته أو حكايته رأساً، ويظلّ يتكلم ويتكلم، أو منتقلاً إلى غيرها، إذا ما انتهت ولم نصل بيوتنا بعد . ولكن في ذلك اليوم بالذات، خالف جدي عادته تلك، وسألني مرة أخرى.. ولكنه، سؤال جعلني أرتعد خوفاً.. هل حدث أن سمعت الصوت؟؟.. وتصوّروا، خوفي.. فأنا كنت في النهار، أظن -بل متأكد- من أن الأشياء والأشباح والأصوات، هي مجرد تخيلات يعكسها لي خيالي المتعب، من تلك الحجاوى التي كنت متأكداً، أنها حدثت في زمان غير زماننا هذا. ولكن سؤال جدي أكد لي أنها ربما تكون حقيقية.. ولم أجبه، بل شبكت يدَيّ حول خصره، واحتضنته بقوة، دافناً رأسي في ظهره، وكأنى أحاول أن أغوص داخله، بحثاً عن الأمان.. ولكنه واصل: إن لم تسمعه حتى الآن -وهذا ما لن يُغفَر لك- فسوف تسمعه من بعد ذلك. فهذا الصوت، سمعه كل من عاش في هذه "القرية" ولكن لا أحد يخاف منه.. كل الناس هنا، تحب هذا الصوت. قال هذا، بعد أن أزاح قليلاً قبضة يدي من على بطنه، وكأني أحسستُ به يقول لي : أن لا تخاف أنت أيضاً، ولكنني فكرت، ربما ضايقته فعلاً، قبضتي التي كانت حتماً قوية.. ترون، أني قد استبعدت الفرض الأول، لأني، كنت أعرف أنه لا يفترض خوفي.. أو هذا ما أعتقده أنا، حيث دائماً ما يضعني في مواقف يقول إنها تجعل مني رجلاً لا يخاف أبداً.. كان ذلك قبل أن تولد أنت.. جدي يواصل.. وقبل أن تولد أمك.. وربما حتى قبل أن أولد أنا.. يواصل أيضاً.. لا أحد يعرف متى، ولكن الكل يقول قبل أن يولد هو : كانت هنا امرأة، ترك لها زوجها طفلاً واحداً بعد موته.. فكانت تزرع حقلها وحدها، وترفض المساعدة من الجميع، كانت صابرة، متحملة لكل المعاناة.. ممنِّية النفس بأن الابن غداً يصير رجلاً يحمل عنها عبء مشقة الحياة، لترتاح هي بقية عمرها. كانت تحبه كثيراً، تحمله معها الحقل، وتأتي به آخر النهار لا يراها الناس إلا وهو على كتفها: حتى وهي تعمل. ثم جاء عام لم يَفِض فيه "البَحَر" بل بدأت مياهه تجف، حتى أصبح الناس يقطعون شاطئيه، سيراً على الأقدام دون أن تبتل حتى.. ركبهم. وحتى قواديس السواقي، كانت تعود من دورتها فارغة، إلا من بعض حبات الرمل. فركب الناسَ هَمٌّ ثقيل.. وانتظر الناس طويلاً، ولكن "البَحَر" ظلّ في عناده.. وبدأ المخزون يَشِحّ، قليلاً.. قليلاً، حتى تلاشى تماماً. وبدأ الجوع، يفعل فعله في الناس، وأكثرهم تأثُّراً به، تلك المرأة وابنها.. حيث لم يكن لديها مخزون أصلاً.. فعاشت، وابنها على عطايا الناس.. ولكنهم لم يستطيعوا مواصلة العطاء، فهم مثلها، فقد جاء اليوم الذي يحتاجون فيه لمن يعطيهم.. وبدأ ابنها يضمر، حتى غدا عظاماً، لا يسترها جلد، إلى أن مات بين يديها.. ولكن حينما تفرق الناس بعد دفنه، ولم تشرق شمس اليوم التالي.. حتى وجد الناس أن "البَحَر" قد امتلأ وفاض.. ولم تغب شمس ذات اليوم، حتى كانت البيوت تعوم في مياهه الوفيرة. ولم تستطع، بعضها ثباتاً أمام جريانه الكاسح، حتى تهدمت وترك الناس يومها "القرية" وابتنوا عششا فوق الجبل، خوفاً من ملاحقته لهم. ولم يعودوا إلى بيوتهم، إلا بعد أن جفت الأرض. عادوا وهم كلهم بِشْر وسعادة، بخيرات هذا العام، الذي عوضهم حرمان الزمن الأليم. ولكن حين أفاق الناس من دهشتهم، وفرحتهم.. افتقدوا "تلك المرأة" وتوجهوا للبحث عنها، وطال بحثهم... دون جدوى.. وحينما يئسوا، قالوا.. ربما حملها "البَحَر" معه.. أو حملت نفسها إلى "البَحَر" حزناً على وليدها الوحيد.. ، ثم مع مرور الأيام تناسوا أمْرها.. وأمْر وجودها معهم، رغم أنهم لم يستطيعوا نسيان، عدم وجودها.. حتى جاء العام الجديد، وكانوا يتخوّفون من حدوث مأساة العام السابق، وبدأت الأيام تَمُرّ و"البَحَر ".. ساكن لا يريد حراكاً.. فانطبع على وجوههم، الألم.. والذعر.. بل هاجر بعضهم هرباً من الموت.. القادم، وبقي الذين لم يستطيعوا الهرب.. والذين لا يرغبونه، حتى استيقظ الناس ذات ليلة.. على صوت يشقّ صمت القرية.. فأُضيئت الفوانيس، وأرهف الناس السمع.. وبدأ بعضهم يتبيّن الصوت.. بل أكّد أكثرهم أنه لتلك المرأة، التي مات وحيدها وضاعت هي، ولم يجدوا لها أثراً.. وظلوا هكذا حتى الصباح.. يحاولون معرفة، ما تردده المرأة.. دون جدوى.
وما إن أشرقت شمس اليوم الثاني، حتى فوجئوا بـ"البَحَر" على بعد خطوات منهم. وكان يومها عيداً عظيماً في القرية. وبدأ يتردد بين الناس أن ذلك الصوت، هو الذي أتى لهم بالبَحَر. وتأكد الناس من هذا، في الأعوام التي تلت عام الصوت. كما سمّاه الناس.. فقد أصبح لا يأتي -وهو أصلاً لا يتأخر عن المجيء منذ ذلك العام- إلا في الليلة التي تعقب سماعهم، لذلك الصوت. ولكن الشيء الذي لم يتبينه الناس حتى الآن، هو ما تردده تلك المرأة. فالناس تعرف أن المرأة، تصيح بكلمات متقطعة.. سريعة.. ولكن ما هي هذه الكلمات؟، و.. ماذا تعنى؟؟.. هذا ما لا يعرفه أحد.. وفي كل عام، يأتي أحدهم ليقول للناس، أنه عرف ما تقوله المرأة.. وما هي إلا بضعة أيام، حتى يحمل "البَحَر" هذا القائل.. ولا يجدون له أثراً.. وهكذا، يظل "البَحَر" يحمل واحداً منهم كل عام.. ورغم ذلك يظل الناس يحبون ذلك الصوت.. ويظلون، يحاولون تفسيره.. دون جدوى .
وفي ذلك اليوم، أنهى جدي قصته أو حجوته.. لا أدري ما أسميها، قبل أن نصل بيوتنا، وانتظرته أن يبدأ واحدة جديدة، ولكنه صمت، صمتاً ثقيلاً.. فازددت خوفا على خوفي.. ولا شيء غير وقع أقدام حمارنا على الأرض المزروعة.. وتضخّم، في أذني صوت وقع أقدام الحمار.. وملأ الصوت رأسي.. وبدأ زخيالي المتعب يعمل من جديد، وتخيلت أن وقع الأقدام تردد كلاماً، فجدي لم يقل لي من أين يأتي الصوت.. وبدأت تَتَرَاصّ في ذهني، معاني الصوت.. "يا بَحَر النِّيل.. يا بَحَر النّيل" وكنت حينها أعرف اسم "بَحَرْنا" ولكن ليس من جدي، وإنما.. من السنة الوحيدة في المدرسة. التي أخرجني منها جدي، لعدم جدواها.. كما قال.. ونسيت نفسي، وبدأت أوقع تلك الكلمات، مع ضربات الأقدام، على الأرض المزروعة. وفجأة صرخت، وقد ملأت رأسي فكرة الموت.. وصحت، جدي: لقد سمعت الصوت!!.. وقبل أن أسمع رد جدي.. تذكرت أن هذا العام، زرعنا أرضنا، حتى حيشان البيوت. وشعرت بالخجل من خوفي.. ولدهشتي ضحك جدي.. وقال: ولكن رغم ذلك ستحبه.
***

omeralhiwaig441@gmail.com  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: تلک المرأة دون جدوى رغم ذلک أکثر من الب ح ر قبل أن هذا ما

إقرأ أيضاً:

عودٌ إلى علم الجمال بعد غياب خمسين عامًا

"في العمل الفنيّ لا يوجد صح وخطأ، يوجد فنّ فقط"، كانت هذه عبارة في علم الجمال سمعتها من كاتبة وناقدة أدبيّة، فأعادتني إلى خمسينيّات القرن العشرين، حيث كانت المعركة محتدمة بين المدرسة، التي تشدّدُ على ضرورة التزام الأديب أو الشاعر أو الفنان، بأن يكون العمل الفني ملتزمًا، وله هدف، وبين المدرسة التي سُميّت مدرسة "الفن من أجل الفن"، والتي لا يجوز فيها أن يُحكم على الفنّ بناءً على ما يحمله الفنان من فلسفة ومواقف سياسيّة، كما لا ينبغي أن يكون الفنّ خاضعًا للسياسة، أو مسخّرًا لتحقيق أهداف سياسيّة.

"الفنّ من أجل الحياة"

كان الماركسيون والثّوريون من ناقدي مدرسة "الفنّ من أجل الفنّ"، وقد جهدوا لإبعاد هذه المدرسة – وما تحمله من رؤى كالفنّ في خِدمة الشعب، أو الطّبقات الكادحة – عن المباشرة والتقريرية والتحريض الأيديولوجي، وذلك بالدعوة إلى أن يتضمن العمل الفني هدفًا، وأن يحافظ على أعلى درجات الشاعرية والجمالية والإبداع.

ولكن، مع ذلك ندرت الأعمال الفنية التي أبدعت فنًا خالصًا – وليس بيانًا سياسيًا أو تقريريًا – من جانب المدرسة المعارضة لمدرسة "الفنّ من أجل الفن".

وبالرغم من ذلك، ظلّت مدرسة الفنّ الهادف والملتزم في فلسطين والبلاد العربية ذات تأثير كبير، فهي المدرسة التي تخرّج فيها شعراء وأدباء تربّعوا على عرشها، أو نهلت تجاربُهم الأولى من نبعها، مثلًا في فلسطين: عبد الكريم الكرمي (أبو سلمى)، وتوفيق زياد، ومحمود درويش، ومعين بسيسو، وسميح القاسم، وعدد من الشعراء العرب الكبار، مثل: محمد مهدي الجواهري، وبدر شاكر السياب، وفي القصة: يوسف إدريس، وربما غسّان كنفاني.

مقولة في علم الجمال سمعتها من كاتبة وناقدة أدبية، تقول: "في العمل الفني لا يوجد صح وخطأ، يوجد فنّ فقط"

إن العمل الفني يتألّف أساسًا من شكل ومحتوى، ومن ثَمّ فاجتماع الشكل والمحتوى في العمل الفني، يولّد  نتيجة واتجاهًا، دون أن يكون الفنان فكّر سلفًا بالنتيجة التي ستخرج، أو الاتجاه الذي يصبّ فيه، فهو يقدم عملًا فنيًا، مثلًا من خلال التقاط لحظة من حركة الإنسان، أو المجتمع، أو الطبيعة، أو لحظة خيال، تجرّد تلك اللحظة المثقلة من الحياة، أو الواقع الاجتماعي، أو الحدث المركب.

صحيح أن المبدع قد لا يفكّر، بما سينقله إلى المتلقي في لوحته أو قصيدته أو قصته، قبل أن يكون قد شرع فيها، وأخرجها بحُلتها النهائية. ولكنه عندما يسلّمها للمتلقي أو لعالم الفن، تنفصل علاقتها عن شخصه، أو رأيه السياسي، أو التزامه، عند الحكم على عمله الفني، حيث يحاسب على شكله ومحتواه، وحركته الداخلية غير المرئيّة في الغالب.

ومن ثم فإن العمل المبدَع لا بد أن يحمل في جوهره هدفًا ما، أو توجّهًا ما، يمكن أن يتناوله المتلقي، ويحاول التفاعل معه وأن يتفهّمه، أو يتلقّفه الناقد الفني أو الأدبي، ليناقشه ويكشف ما استطاع من خفاياه وأسراره، وما يريد أن يقوله ويُبلغه، حتى لو كان صاحبه، لم يقصد التأويل الذي سيذهب إليه المتلقّي أو الناقد.

الشكل والمحتوى

إنّ تقييم العمل الفنّي لا ينبغي أن يشترط على المبدع، أن يلتزم أو لا يلتزم بموقف من الحياة، أو من الصراعات والتناقضات، والتعقيدات النّاجمة عن حراك المجتمع، ومعاناة الأفراد وصراعاتِهم.

فقد يدّعي أو يحاول المبدع، أن يعلو فوق كل ما هو صراعات ومجتمعات وفلسفات وأفكار ورؤى، لإخراج عمل فنّي لا تحكمه أفكار أو سياسات مسبقة. ولكن حين يصبح إنتاجه عملًا فنيًا سيجد نفسه منخرطًا، أراد أو لم يرد، في عراك الحياة والموت، والخير والشر، والصحيح والخطأ، أو قلْ أمام مسؤوليته الضميرية والأخلاقية.

إن الإبداع حين يكتمل، ويبرز للناس بحُلته التي فصّلها له مبدعه، يخرج ليتحدى، ويصبح جزءًا من صراع الإنسان اليومي، وصراع المجتمع والشعب، والأفكار والمواقف، منفصلًا عن الذات التي أبدعته. وليس ذلك فحسب بل إن هنالك من الأعمال الفنية التي انتهى مبدعها، بأن يكون في وادٍ، وتكون هي في وادٍ آخر.

وعلى هذا المنوال تبدو قصص بلزاك في وادٍ، وبلزاك في السياسة والفكر في وادٍ آخر، وكذلك كان حال سرفانتس. ومن يدقّق أكثر فسيجد حالة هذا الانفصام، سمة غالبة في كثير من الكبار، وأعمالهم الاستثنائيّة.

فمثلًا كان بلزاك محافظًا وملكيًا، ولكن عمله الفنّي، أظهر تفسّخ الطبقة التي ينتسب إليها، وطريقها إلى الزوال. وهو يتعاطى مع شخوصه، وحركتهم في العمل الفنّي. كذلك كان دون كيشوت، وهو يصارع طواحين الهواء، يحكم على نهاية طبقة الإقطاع التي كان سرفانتس من أنصارها في السياسة. وكذلك محمود درويش، وهو يبدع قصيدة "عابرون في كلام عابر"، غير محمود درويش عضو اللجنة التنفيذية التي كانت ذاهبة لحلّ توافقي مع الكيان الصهيوني.

لذا، فإن الحكم الفني على الإبداع، لا علاقة له بأفكار وسياسات والتزام مؤلّفه. ومن ثمّ ينظر إلى العمل الفني، ككائن مستقل عن كل ما عداه. ولكن ما من عمل فني مستقل بذاته، ولذاته إلا ويعبر عن قراءة ما، ومحتوى ما، وحتى شكل ما، وإلا كيف يقوَّم نقدًا، إذا لم يقرأ شكلًا ومحتوى، وما هدف له، وما قاله.

رؤية ورسالة

إنّ الأعمال الشعرية والفنية المختلفة، يعدّ الانتباه لما تحمله من سياسة وأيديولوجية، ومعرفة ورؤية، وما توصِّل إليه من هدف وإيحاء، مسألةً ضروريةً، سواء حدث ذلك عن وعي، أم كان عفويًا.

فعند النظر إلى عالم قصيدة "عابرون في كلام عابر"، سنجدها غير عالم قصيدة "حالة حصار".. وهكذا، إذ إن القصائد في المرحلة الأولى لدرويش مثل "سجّل أنا عربي"، تنتظم في عِقد واحد، وكذلك المرحلة الثانية مثل قصيدة "أحمد الزعتر"، خصوصًا، من الناحية الشعرية الفنية، أما ديوانه الأخير "لا أريد لهذه القصيدة أن تنتهي"، فلكل واحدة عالمها، وبين عالم وآخر جدار، سميك أو شفيف.

صحيح أنّ الفن لا يحاكم بمعيار "صح أو خطأ"، لكنه يقوّم على أساس ما أراد قوله، وما موقعه في صراعات وتناقضات عالم الإنسان، والمُجتمعات والشعوب والأُمم.

فإذا لم نستخدم عبارة "يحاكم" التي قد تذهب إلى "محاكم التفتيش"، فهناك عبارة يقوّم ويحدّد اتجاهه، وما يقول، وما يريد، سواء قصده المبدع أم لم يقصده، فهو أطروحة أو قضية قائمة بذاتها، ولكن لا يحكمه القضاء، وإنما ما عبّرت عنه، وهي مستقلة تمام الاستقلال حتى عن مبدعها.

أما الأعمال الفنية التي تحمل سمة الفن حتى من أجل الفن؛ أي دون أن يكون لمبدعها هدف مسبق، أو سياسة يريد أن يوصلها، أو موقف فلسفي من الكون والحياة، ففي هذا السياق تبرز أفلام هوليود كمثال لإجلاء هذه الفكرة:

الفن ليس معرفة محضة

فعندما تتابع فيلمًا تجده قد وصل القمة من الناحية الفنية، ولا يتضمن موقفًا مباشرًا يروضك لقبوله. بيد أنه لا مفرّ من أن يرمز أبطاله إلى نماذج إنسانية، وفي الغالب ذات هوية عرقية ووطنية وطبقية، وانتساب لدين، أو مذهب، ولكن مع اكتمال القصة أو الرواية، خطوة بعد خطوة، وصولًا إلى خاتمتها، وبتعدد النهايات، هنا لا بد للعمل الفني أن يقدم لك معرفة ما. ولكن الفن ليس معرفة محضة، بيدَ أنه يتضمن مستوى ما، من المعرفة حول الإنسان والحياة، والانتماء لفئة عرقيّة أو دين أو لغة.

المهم ثمة رسالة ما متضمنة، ورؤية ما للعالم، مثلًا قد تنتهي به إلى أن تصبح الحياة عبثًا، وبلا معنى، أو تكرارًا بليدًا لمصير ما، وهكذا دواليك من دون تحديد لإحدى نهايتين، أو رؤيتين، أو مصيرين، لنعتبر أن الاحتمالات متعدّدة، ولكنها ستأخذنا إلى واحدة منها، أو إلى عماء وضباب وغياب.

لذلك ليس من الصّواب أن يقال إن الفن لا يحاسب ولا يقوّم، إن لم يكن بالسياسة، فبالفلسفة، والنظرة إلى الحياة، والمعنى والوجود والمصير.

إن الفن مثل الفكر، والسياسة، حتى وإن لم يُعامل كما الفكر والسياسة، فمن حيث كونه فنًا، فلا بد لكل عمل فني من شكل ومحتوى، وأن يحمل معنى ما، واتجاهًا ما، وإيحاء ما، وذلك بالرغم مما فيه من مكرٍ ودهاء، وتلك خاصيّة الفنّ بامتياز.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

aj-logo

aj-logo

aj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2024 شبكة الجزيرة الاعلامية

مقالات مشابهة

  • تكثيف نشاط حملتي الصوت المسلم والعربي ببريطانيا مع اقتراب الانتخابات
  • سبب العطس عند الخروج في مكان مشمس|دراسة تكشف التفاصيل
  • ما بعد الحوبان
  • عودٌ إلى علم الجمال بعد غياب خمسين عامًا
  • الصوت الأكثر رعبا في تاريخ البشرية…صَفّارة وجدت بيد هيكل عظمي قديم
  • 3 روايات قصيرة لأشرف العشماوي.. سخرية مريرة وتأثير مذهل
  • 3 روايات قصيرة لأشرف العشماوي
  • يخرب بيت أم "السيلفي".. في مصر أم العجايب الناس بتحب تتصور مع أي حاجة أو أي حد.. صحيح أصحاب "العجول" في نعيم
  • الطماطم علاج لسرطان المعدة.. دراسة تكشف التفاصيل
  • الليلة.. ضربة البداية لمنتخب هولندا أمام بولندا في يورو 2024