في الذكرى الـ34 لإعادة تحقيق وحدته.. إلى أين سيذهب اليمن؟
تاريخ النشر: 22nd, May 2024 GMT
تحلُّ اليوم الأربعاء الذكرى الرابعة والثلاثين لإعادة تحقيق الوحدة اليمنية بين شطري البلد الأفقر في شبه الجزيرة العربية، وهي الذكرى التي تمر وقد شهد هذا البلد منعطفات خطيرة في العقد الأخير، ومن أبرز تلك المنعطفات هي تلك التي شهدت ولادة مشاريع تتهدد وحدته، ولا نقصد بوحدته تلك القائمة بين شطريه السابقين، بل صارت هذه المشاريع تهدد تمزيق البلد إلى أكثر من شطرين، بل قد يكون التهديد الأخطر هو بقاء اليمن في مرحلة اللادولة حتى يذهب تدريجيًا باتجاه التمزق إلى كنتونات، التي يفقد معها كل سيطرة على مقدراته وإمكاناته الجيوسياسية.
السؤال الذي يطرح نفسه: هل الوحدة اليمنية هي المدانة بما آل إليه حال البلد أم إن أزمة البلد هي أقدم من عمر الوحدة ومرتبطة بدرجة رئيسية بغياب دولة المؤسسات، وظلت تداعيات ذلك الغياب تتفاقم، حتى وصل بحال الدولة إلى التشظي تحت مظلة الاستغلال الخارجي، الذي أمعن في الذهاب بالتداعيات إلى محطات بعيدة عن الواقع، وصارت معه هوية البلد مهددة أيضًا؟
وحدة إندماجية
التأم شطرا البلد (الجمهورية العربية اليمنية وجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية) في وحدة اندماجية في 22 مايو/ أيار من العام 1990، في لحظة تاريخية استثنائية كانت تمثل محطة عربية فارقة في تاريخ اليمن لو أُحسن استغلال تلك اللحظة واستثمارها في تأسيس دولة مؤسسات، والتخلص من تراكمات النفوذ الخارجي والقبلي والعسكري في شؤون الدولة المدنية، وهي التراكمات التي ورثها الشطران، وقد كانت الوحدة ملاذًا حقيقيًا لإعادة بناء دولة استوفت عناصرها في دستور دولة الوحدة، إلا أن نزعة الانفراد بالسلطة سرعان ما سولت للبعض الانقضاض على قيمة الوحدة كوسيلة، وتحويلها إلى غاية للاستبداد بالقرار للأسف الشديد، وهنا كانت بداية الخلل الذي أصاب دولة الوحدة في اليمن.
بدأت نزعة الانفراد بالسلطة تطل برأسها عقب إعلان قيام الجمهورية اليمنية عام 1990، وهو ما تولد عنه أزمة سياسية شهدتها السنوات الأولى من عمر دولة الوحدة، وتوجت تلك الأزمة باندلاع حرب صيف 1994، والتي انتهت بانفراد علي عبدالله صالح بالحكم، ممثلاً في حزب المؤتمر الشعبي العام، ومعه حزب التجمع اليمني للإصلاح (شريكا الحرب وشريكا السلطة)، لكن علي عبدالله صالح ورغبة منه في الانفراد بالسلطة تحت تأثير زهوة النصر سرعان ما تخلص من شريكه حزب التجمع اليمني للإصلاح، وانفرد بالحكومة (بأغلبية ساحقة)، وتدريجيًا تصاعدت أزمة سياسية داخل النظام وخارجه، فالإحساس بزهوة النصر دفع صالح ونظامه لاتخاذ قرارات دفعت ثمنها الدولة اليمنية.
من أبرز الإشكالات التي تجاهلها نظام صالح كانت الحركة الجنوبية الحقوقية المطالبة بالإنصاف، ممثلة في مطالب جمعية المتقاعدين العسكريين والأمنيين المسرحين من أعمالهم، ومن ثم مطالب الحراك الجنوبي بالإنصاف وإعادة المسرحين العسكريين والمدنيين إلى أعمالهم، وهو الحراك الذي تحول إلى حركة سياسية تطالب انفصال جنوب اليمن عن شماله، وتحديدًا منذ عام 2007. عقب عملية نقل السلطة التي آلت، وفق المبادرة الخليجية، إلى نائب صالح، عبدربه منصور هادي، الذي اُستفتي بشأنه رئيسًا للبلاد في فبراير/ شباط 2012، ارتكبت المعارضة اليمنية (التي صارت سلطة) خطأ فادحًا ما زال اليمن يدفع ثمنه باهظًا، وهو ضعف استثمارها للمرحلة الانتقالية، ودخولها في مرحلة انتقام مع ما عُرف ببقايا النظام السابق وصولًا إلى ما آلت إليه الحال في المرحلة الراهنة.
على هامش مداولات مؤتمر الحوار الوطني الشامل 2013/ 2014، والذي استطاع استيعاب مشكلة القضية الجنوبية، شهد البلد تطورات عسكرية انتهت بما هو عليه الآن، حيث يسيطر جماعة “أنصار الله” (الحوثيون) على شمال ووسط اليمن، فيما تسيطر الحكومة اليمنية المعترف بها على جنوب وشرق البلاد.
في مناطق نفوذ الحكومة أُعلن في مايو/ أيار من العام 2017 عن تأسيس المجلس الانتقالي الجنوبي، الذي يطالب بانفصال جنوب اليمن عن شماله، ويدعو إلى هوية غير يمنية لجنوب وشرق البلاد، وهو مشروع يحمل تناقضاته في داخله، ويعاني اختلالات عديدة لم يستقر معه الحال سياسيًا. لم يقتصر مشروع الانفصال على ما يطالب به “الانتقالي”، فثمة أصوات في محافظة حضرموت الغنية بالنفط ترفض أن تكون محافظتها، الأغنى نفطًا والأكبر مساحة، ضمن مشروع المجلس الانتقالي، وتطالب إما بإقليم مستقل في إطار الجمهورية اليمنية أو تأسيس دولة مستقلة، وفي السياق ارتفعت أصوات أخرى تطالب بتوحيد كلمة المحافظات الشرقية تحت اسم “اتحاد المناطق الشرقية” (حضرموت، شبوة، والمهرة)، وهو المشروع الذي يواجه تحديات أخرى، متمثلة في أصوات في المهرة ترفض ضمها لإقليم حضرموت أو الإقليم الشرقي، وتطالب بإقليم مستقل باسم إقليم المهرة وسقطري.
يكاد اليمن أن يغرق في وحل التنازع المناطقي، وهو أمر لا يمكن اعتباره خارج صيرورة النفوذ الخارجي، الذي يتعزز في لحظات الضعف اليمنيّ.
وكان مؤتمر الحوار الوطني الشامل قد انتهى إلى تقسم اليمن إلى خمسة أقاليم فيدرالية، إلا أن هذا المشروع لم يُكتب له التنفيذ حتى الآن.
منذ بضعة أيام وكثير من اليمنيين يحتفلون في منصات التواصل الاجتماعي بحلول ذكرى إعادة تحقيق الوحدة اليمنية (22 مايو)، الذي هو العيد الوطني للجمهورية اليمنية، مقابل أصوات ليست كثيرة باتت ترفض الوحدة وتعتبر الانفصال منفذًا لها من الفقر. ونتيجة لهذا التفاعل كانت الوحدة اليمنية “ترندًا” ضمن أهم الأسماء المتداولة والرائجة في منصتي إكس وفيسبوك ليوم أمس الثلاثاء.
الذهاب إلى المجهول
كيف نقرأ ما آل إليه اليمن مع الوحدة في ظل تشكل أكثر من مشروع يستهدف النيل من الوحدة باعتبارها (غاية) بينما كانت في الأساس (وسيلة) لبناء دولة فشل القائمون في إدارتها جيدًا، وبالتالي هل يمكن محاكمة الوحدة كوسيلة؟ يقول محمد صالح بن عديو (محافظ شبوة سابقًا):” نحن أمام جيلين من أبناء اليمن، جيل عاش مرحلة التشطير بما لها وعليها، وجيل نشأ في عهد الوحدة بما له وعليه، وصولًا لحاضرنا الذي ارتفع فيه النَفَس الطائفي والمناطقي وأُسقط الوطن في مستنقع الفوضى وغياب الدولة، لتتعزز القناعة بأن كل المشاريع التي تسوّق لتكون بديلًا عن الوحدة والجمهورية بما فيها من استرجاع لكل مساوئ الماضي والحاضر لا يمكنها خلق مشروع يحفظ لليمني حقه ومستقبله وكرامته.
وأضاف: “تعرضت تجربة الوحدة لسوء الإدارة والإساءة الممنهجة، ولكن هذا لا يعني القبول بالذهاب صوب المجهول”.
وأضاف: “تحية في ذكرى الوحدة لكل أبناء اليمن الذين يواجهون واقعهم الصعب بالصبر والرجاء بفرج يزيح عنهم معاناة الحرب والفقر وضياع الحقوق وغياب الخدمات وتلم شتاتهم دولة تقوم على العدل والمواطنة”.
فيما يرى الباحث اليمني، عادل دشيلة، أن الوحدة اليمنية لا يمكن أن تحمل وزر الشخصيات السياسية التي قادت دفة الحكم، معتبرًا أن غاية اليمنيين شمالًا وجنوبًا كانت إقامة دولة مؤسسات ضامنة لحقوقهم.
وقال لـ”القدس العربي”: “نحن أمام ثلاثة أجيال عايشت الوحدة اليمنية، الجيل الأول هو الذي عاصر التشطير وتجرع مرارته والصراعات المناطقية. الجيل الآخر في نفس البلد يعني في الشمال عاصر الإمامة، وتجرع مرارة حكم الإمامة. وبالتالي الجيل الأول كان يحن إلى إقامة دولة الوحدة لتحقيق الأمن والاستقرار والسلام والتقدم كوسيلة لبناء دولة المؤسسات، وهي كانت غاية اليمنيين، في حقيقة الأمر، شمالًا وجنوبًا، ولم تكن وسيلة فقط، بل كانت غاية للشعب شمالًا وجنوبًا، وحتى النخب السياسية”. وتابع: “الجيل الثاني هو جيل الوحدة، وهذا الجيل استفاد من بعض الإنجازات في التعليم وما شابه ذلك. ولكن لم تكن تلك الإنجازات بالقدر المطلوب، أما الجيل الثالث فهم الأطفال الذين لا تزيد أعمارهم عن عقد من الزمن، وهذا الجيل لا يعرف شيئًا عن الوحدة لا شمالًا ولا جنوبًا”.
وذهب للقول إن “الوحدة لا تتحمل وزر الشخصيات السياسية التي قادت دفة الحكم، سواء خلال مرحلة تحقيق الوحدة أو ما بعدها، ولهذا الكثير يكره العودة إلى التشطير”.
واستطرد: “اليوم نحن أمام عدة مشاريع تشطيرية ومذهبية. هذه المشاريع لا تحمل أدنى شيء من مقومات الحياة الأساسية للمواطنين، ترفع شعارات فقط، وهذه الشعارات لا تُغني ولا تسمن من جوع لا شمالًا ولا جنوبًا، ولهذا لو كانت هذه المشاريع تُفيد البلد لكان استفاد البلد منها قبل تحقيق الوحدة اليمنية، لكن الواقع إنه لم يستفد منها الشعب لا شمالًا ولا جنوبًا، وهذه المشاريع مدعومة أيضًا بأجندات خارجية، وبالتالي هي ليست حركات وطنية”.
وقال: “إن المشاريع القائمة حاليًا لا يمكن أن تنجح، لأن المرحلة أثبتت فشل هذه المشاريع، وبالتالي لا يمكن لليمن أن يستقر إلا بعودة مؤسسات الدولة اليمنية كمشروع وطني جامع يحافظ على مصالح الجميع في إطار دولة اتحادية. وهذا لن يتحقق إلا بوجود تكتل وطني عريض يسعى إلى تقديم رؤية وطنية واضحة تتغلب على هذه المشاريع”.
فيما يرى الباحث أنور الخضري أنه في حال تمزيق اليمن ستعود حالة النزاع والصراع إلى نقطة البدء.
وقال لـ”القدس العربي”: “لقد عانى اليمنيون عبر التاريخ مِن حالات التشرذم والتفكُّك، ودخلوا في حروب عديدة كان المستفيد مِنها القوى الخارجية. ثمَّ جاءت الوحدة اليمنية لتعيد الجسد اليمني إلى سابق قوَّته وعنفوانه، بحيث يضمُّ أرجاء الوطن بكلِّ مَن فيه، وبكلِّ ما فيه مِن ثروات وفرص وخيرات. ولا تزال الوحدة اليمنية راسخة في الوعي المجتمعي، شمالا وجنوبًا”. واستدرك: “غير أنَّ هناك أطرافًا سياسية تسعى لتدمير هذا الوعي لصالح مشاريعها الخاصَّة، السلالية والقبلية والعائلية والمناطقية والمذهبية”.
تمزيق اليمن
ويعتقد الباحث الخضري أنه “في حال تمزيق اليمن إلى كنتونات أو دويلات مستقلَّة ستعود حالة النزاع والصراع إلى نقطة البدء، إذ إنّ العلاج ليس في التمزيق والتقسيم، وإنَّما في قمع المطامع الفئوية التي ترغب في الوصول للسلطة والاستئثار بها وبالثروات بأيِّ ثمن، وهذا يتطلَّب مِن المجتمع اليمني البُعد عن هذه المشاريع التفتيتيَّة وتغليب روح الاجتماع والوحدة مِن خلال التعاون والتشارك والتكافل والتراحم وتعزيز العلاقات، والروابط المجتمعية، والاقتصادية، والسياسية.
واستدرك: “مع ضرورة الانتباه أنَّ هناك قوى إقليمية ودولية مِن مصلحتها تقسيم اليمن وتمزيقه، وخلق حالة مِن النزاعات والصراعات الدائمة بين أبنائه ليكون لها الغلبة والتحكُّم في هذا البلد العريق حضارة وتاريخًا. لهذا فإنَّ صور التدخُّل في الشأن اليمني اليوم لا تراعي مصالح شعبنا ومجتمعنا بقدر ما تراعي مطامع وأجندات الدول المتدخِّلة في اليمن، وهذا يستوجب تفويت الفرصة على هذه القوى مِن تحقيق مآربها وإبقاء الوحدة حاضرة في وعي أبنائنا والأجيال القادمة مهما كلَّف الأمر، وحدة تقوم على العدالة والكرامة والحرية والحقوق لكلِّ أفراد الشعب، دون تمييز أو استبداد”.
المصدر: الموقع بوست
كلمات دلالية: اليمن الوحدة الأزمة اليمنية الوحدة الیمنیة هذه المشاریع تحقیق الوحدة دولة الوحدة ا وجنوب ا لا یمکن شمال ا جنوب ا
إقرأ أيضاً:
“الذكرى الثانية لطوفان الأقصى”.. اليمن بين القيادة الحكيمة والتعبئة الشعبية
يمانيون | تقرير
مع حلول الذكرى الثانية لعملية “طوفان الأقصى”، تتجدد أمام العالم صورة موقف اليمن الثابت والصارم تجاه العدوان الظالم على غزة، موقف لم يكن مجرد بيانات رمادية أو تصريحات شكلية، بل ترجمة حقيقية لإرادة شعب يمتلك وعياً تاريخيًا واستراتيجية واضحة في الدفاع عن القيم والمقدسات.
هذه الذكرى ليست مجرد تذكير بتاريخ العمليات العسكرية، بل اختبار حي لإدراك العالم العربي والإسلامي أن اليمن يرى في القضية الفلسطينية قضية مركزية، ويمارس التزامه تجاهها بكل أبعاد القوة السياسية والشعبية والعسكرية.
من هذا المنطلق، تتجلى أهمية تحليل الموقف اليمني ليس كحدث عابر، بل كدرس استراتيجي متكامل في صمود الشعوب أمام العدوان وإرادة الهيمنة.
اليمن، منذ اللحظة الأولى للعدوان الصهيوني على غزة، لم يكتفِ بالإدانة، بل حول الموقف إلى خطة عمل عملية ومباشرة، دمجت بين الخطاب السياسي، التعبئة الشعبية، والرد العسكري المدروس، لتشكل نموذجًا استراتيجيًا فريدًا في المنطقة.
هذه التجربة تكشف أن الوقوف إلى جانب فلسطين ليس خيارًا تزيينيًا، بل واجب أخلاقي واستراتيجي، وأن إرادة شعب متحدة مع قيادته يمكن أن تُحدث أثرًا ملموسًا في موازين القوى، وتثبت للعالم أن الدفاع عن الأرض والمقدسات ليس كلامًا على الورق، بل موقفٌ يُمارس على الأرض، يقرأه العدو قبل الصديق.
الرؤية الاستراتيجية للرئيس المشاط
في الذكرى الثانية لعملية طوفان الأقصى المباركة خرج فخامة رئيس المجلس السياسي الأعلى الرئيس مهدي المشاط، بتصريحات ترسم إطارًا استراتيجيًا متكاملًا لموقف اليمن تجاه العدوان الصهيوني، مؤطرة بمبدأ الحق المشروع في الدفاع عن النفس.
العملية التي وصفها بأنها إعلان تاريخي عن إرادة شعب رفض أن يُدفن حيًا، تتجاوز اللحظة العسكرية لتصبح رسالة سياسية وعسكرية متكاملة، تؤكد أن الرد اليمني ليس مجرد رد فعل، بل استراتيجية مدروسة تهدف إلى الحفاظ على الحقوق والأرض والمقدسات، وتحديد ملامح التوازن بين القوة والحق.
في كلمات الرئيس، تتضح إرادة اليمن في مواجهة الاحتلال بكل أبعادها، من القوة إلى الرمزية، ومن الدفاع عن الأرض إلى حماية الكرامة.
الرئيس المشاط يجعل من “طوفان الأقصى” نقطة تحول في الصراع، ليس على المستوى الفلسطيني فقط، بل على المستوى الإقليمي والدولي، حيث تعكس تصريحاته إدراكًا تامًا للبعد الاستراتيجي للعملية، وتأثيرها على مشاريع التهويد والتطبيع.
في كل عبارة، يربط المشاط بين الإرادة الشعبية الفلسطينية وصمودها على الأرض، وبين القدرة اليمنية على دعم هذا الصمود، مشيرًا إلى أن المقاومة المنظمة والمستدامة هي السبيل الوحيد لمواجهة العدوان، وأن كل خطوة يخطوها الشعب اليمني أو قيادته تحمل أبعادًا تاريخية وسياسية واضحة.
كما أن الرئيس يؤكد الدور الأخلاقي والتاريخي لليمن في حماية القضية الفلسطينية، معتبرًا أن الصمت أو التردد ليس خيارًا.
من خلال إشادته بصبر الفلسطينيين وصمودهم، وبتضحيات الحلفاء والشركاء في المنطقة، يبرز المشاط أن موقف اليمن ليس منفصلًا عن السياق العربي والإسلامي، بل جزء من استراتيجية أوسع للتضامن والمواجهة.
تصريحاته تضع اليمن في موقع قيادي يربط بين القوة العسكرية، والوعي الشعبي، والبعد الرمزي للمعركة، لتشكل رؤية متكاملة للتعامل مع العدوان على فلسطين بشكل يفرض معادلات جديدة على كل الأطراف.
ترجمة الموقف إلى عمل ميداني متكامل
اليمن منذ اللحظة الأولى للعدوان الصهيوني الظالم على غزة لم يكتفِ اليمنيون بالكلمات، بل حول الموقف إلى واقع ملموس على الأرض، من خلال دمج الخطاب السياسي مع التعبئة الشعبية والقدرات العسكرية.
الضربات الجوية والصاروخية الدقيقة على العمق الصهيوني، وتفعيل الطائرات المسيرة والصواريخ الفرط صوتية، لم تكن مجرد عمليات عابرة، بل أدوات استراتيجية لإعادة رسم موازين القوة وإظهار هشاشة الدفاعات الإسرائيلية.
هذه العمليات شكلت رسالة واضحة أن اليمن قادر على تحويل الإرادة السياسية إلى تأثير ملموس، وأن الدفاع عن فلسطين ليس مجرد موقف أخلاقي، بل أداة استراتيجية لتغيير المشهد الإقليمي.
على مدى عامين، استمرت العمليات اليمنية بشكل متواصل، مع توسع نطاق الحصار البحري ليشمل السفن الإسرائيلية والداعمة لها، وصولًا إلى شركات الملاحة العالمية المتعاملة مع الكيان.
هذه الإجراءات لم تمر بصمت على المستوى الدولي، فقد أدرك العدو والوسطاء أن المعادلة اليمنية ليست مجرد تهديد مؤقت، بل مشروع استراتيجي طويل الأمد قادر على فرض التوازن وإعادة تشكيل حسابات القوى في المنطقة، مما يؤكد أن الموقف اليمني كان أكثر من مجرد رد عسكري، بل خطة متكاملة لفرض إرادة وطنية واستراتيجية واضحة.
التعبئة الشعبية كقوة موازية
التجربة اليمنية أكدت أن القوة الحقيقية للدولة تتجسد فقط عندما ينسجم الشعب مع قيادته. مسيرات مليونية انطلقت في كل المحافظات، من الجامعات إلى القرى والقبائل، لتعلن التضامن الكامل مع فلسطين.
هذه المشاركة لم تكن رمزية، بل تعبير عن وعى تاريخي وأخلاقي يربط بين الدفاع عن المقدسات والالتزام الشعبي المباشر، مؤكدًا أن الوقوف إلى جانب القضية الفلسطينية واجب يخرج عن إطار الاختيارات السياسية ليصبح ممارسة حية وملموسة على الأرض.
الدعم الشعبي امتد إلى أبعاد لوجستية وعسكرية دقيقة، حيث شارك المتطوعون في تدريب المقاتلين، تجهيز المعسكرات، وتنسيق الدعم الميداني مع القوات المسلحة. هذا الدمج بين التعبئة الجماهيرية والقدرات العسكرية الرسمية خلق منظومة صمود متكاملة، تعزز الانتماء الوطني والديني، وتحوّل الالتزام الأخلاقي إلى أفعال ملموسة تؤثر مباشرة في موازين القوى، وتضع اليمن في موقع قوة لا يمكن تجاهله.
علاوة على ذلك، لعبت الحملات الشعبية دورًا استراتيجيًا في التأثير على الرأي العام الدولي، وكشف حجم التضامن اليمني غير المسبوق مع الشعب الفلسطيني. كل تبرع، وكل تدريب، وكل مشاركة في التعبئة الجماهيرية كانت جزءًا من خطة شاملة، تعكس قدرة المجتمع على تحويل دعم القضية الفلسطينية إلى استراتيجية وطنية فعالة، تربط بين القوة العسكرية والشرعية الأخلاقية والسياسية، وتؤكد أن الشعب اليمني أصبح قوة موازية لا تقل تأثيرًا عن الجيش في مواجهة العدوان.
مواجهة الضغوط الدولية والتحديات الاستراتيجية
التصعيد الأمريكي والدولي لم يثنِ اليمن عن موقفه، بل أكد العكس. التدخل الأمريكي المباشر لمحاولة وقف العمليات، وإعلان واشنطن البدء في إجراءات عسكرية محدودة، لم يغير شيئًا على الأرض.
انسحاب القوات الأمريكية من نقاط المواجهة في البحر الأحمر شكل مؤشرًا واضحًا على فشل محاولات تثبيط اليمنيين عن ممارسة موقفهم المشروع.
في هذا السياق، يظهر جوهر الدرس الاستراتيجي: الإرادة الشعبية والقيادة المتماسكة قادرة على مقاومة الضغوط الدولية وتحقيق نتائج ملموسة، وأن القوة لا تعني السيطرة المطلقة، بل القدرة على فرض معادلات جديدة في مواجهة الخصوم، مهما علا صداها على المستوى العالمي.
اليمن أثبت أن الموقف الثابت والقرارات الحازمة تستطيع أن تغيّر موازين القوى الإقليمية، وتجعل من القضية الفلسطينية محورًا حقيقيًا للتأثير الاستراتيجي.
اليمن نموذج متكامل للصمود والدفاع عن القيم
تؤكد تجربة اليمن في مواجهة العدوان الصهيوني على غزة، أن الصمود ليس مجرد رد فعل عاطفي، بل ممارسة استراتيجية متكاملة، تجمع بين القيادة الحكيمة، التعبئة الشعبية، والقدرات العسكرية.
هذا النموذج يثبت أن الإرادة الشعبية، حين تتحد مع قيادة حازمة ومواقف واضحة، تستطيع إعادة صياغة المشهد الإقليمي، حماية الحقوق والمقدسات، وإعطاء درس للعالم بأن الدفاع عن القيم والمبادئ ليس خيارًا، بل واجب تاريخي وأخلاقي واستراتيجي.
اليمن بهذا الموقف يقدم نموذجًا متكاملًا لأي مجتمع يسعى للحفاظ على هويته ومقدساته في مواجهة العدوان والتحديات الاستراتيجية، ويؤكد أن الإرادة الموحدة بين القيادة والشعب، المدعومة برؤية واضحة واستراتيجية دقيقة، يمكن أن تحقق نتائج ملموسة تعيد صياغة موازين القوى على الأرض، وتثبت أن الحق يمكن أن يقف صامدًا أمام كل التحديات والضغوط.
المصدر : موقع 21 سبتمبر