خطاب المعركة: ثقة وانسجام المقاومة وخلافات الاحتلال
تاريخ النشر: 23rd, May 2024 GMT
شهدنا في الأيام الماضية جملة من الخطابات صادرة عن قيادات فلسطينية وصهيونية حول الحرب في غزة. وبينما طغى السجال العلني على خطابات كل من رئيس حكومة الاحتلال الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه يوآف غالانت، اللذين ينتميان لحزب واحد، هو "الليكود"، فقد تميّزت المقاومة الفلسطينية بانسجام وثبات وثقة خطاباتها.
في هذا السياق، جاء خطاب إسماعيل هنية، رئيس المكتب السياسي لحماس، في الذكرى الـ76 لنكبة فلسطين، ليؤكد على الصمود الميداني والحضور العالمي للقضية الفلسطينية، ووحدة موقف فصائل المقاومة حول ما يسمّى باليوم التالي. وبعد ذلك بيومين، جاء خطاب الناطق باسم الجناح العسكري، ليؤكد على ذات المعاني، مضيفًا لها بُعد الجهوزية العسكرية والاستعداد لمعركة استنزاف طويلة، مما أظهر صورة الانسجام بين المستويَين: السياسي والعسكري.
وبينما احتجّ وزير الدفاع الإسرائيلي علنًا على خطط رئيس وزرائه قائلًا: إنهم غير مستعدين لوجود عسكري طويل في غزة، مطالبًا بخطة لما بعد الحرب، فإن خطاب الناطق باسم كتائب القسام بما حمله من معانٍ ساهم في تقوية ودعم الموقف السياسي، ما يكشف الفرق بين خطاب المقاوم الواثق، وخطاب الاحتلال المتخبّط المرتبك.
وفيما يتجادل غالانت ونتنياهو وسموتريتش وبن غفير علنًا في مشهد متشظٍ، حمل خطاب هنية معاني عدة للوحدة الداخلية داخل الفصيل الواحد، أو مع بقية الفصائل المقاومة، فقد أشاد بقائد حماس في غزة، يحيى السنوار، وأشاد أيضًا بكل فصائل المقاومة في غزة، معتبرًا أنها تسطر أمجاد شعب وأمة.
وفي حين يمثّل الخلاف على اليوم التالي لنهاية المعركة نقطة الخلاف الجوهرية بين قادة الاحتلال، تحدث عنها هنية ضمن عدة محددات، أولها: الثقة في القادة العسكريين وتحدّي محاولات إخراج حماس من المشهد، وكذلك إعلاء مفهوم الكل الوطني في إدارة الوضع في غزة، استنادًا إلى المصالح العليا للشعب الفلسطيني، ووَحدة الضفة والقطاع، والحوار الوطني الفلسطيني، مستشهدًا بالحوارات التي جرت مع فتح في روسيا والصين مؤخرًا، وإلى النقاشات المعمقة بين حماس من جهة، وكل من الجهاد الإسلامي، والجبهة الشعبية، وكذلك التيار الإصلاحي الديمقراطي، وعدد من الشخصيات الفلسطينية.
الثقة في الخطاباتوصفت خبيرة الشؤون الحزبية في دولة الاحتلال، دانا فايس، الخطاب الدرامي لغالانت بأنه يشير إلى أن هناك وزير دفاع لا يثق برئيس حكومته ويعارضه، ويخشى أنه يعرض أمن الدولة للخطر. يكشف تحليل خطابه أيضًا عن معلومات عدّة منها:
وجود نوايا لدى رئيس الوزراء لاحتلال كامل القطاع. الجيش لا يستطيع ذلك. القضاء على حماس بات أمرًا غير ممكن، وهو ما أكده إسماعيل هنية في خطابه الذي كان مفعمًا بالثقة في أنه لا يمكن القضاء على حماس، وأنها وجدت لتبقى.وبينما انحصر خطاب قادة الاحتلال على المعركة في غزة، تحدّث هنية عن صمود الفلسطيني في القدس في وجه التهويد، وفي مناطق الـ 48 متمسكًا بهُويته، ومقاومته في الضفة الغربية للاستيطان والمستوطنين، وتمسك فلسطينيي الشتات بحق العودة. وهذه الثقة التي تتسع للشعب الفلسطيني تزيد الثقة في انتصار المقاومة، والتطلع لمزيد من التقدم والقوة في مشروع التحرير بانخراط هذه الجبهات فيه، وهو ما عزّزه أبو عبيدة بالإشادة بالمقاومة المتصاعدة في الضفة.
وفيما يرتكز خطاب المقاومة على تطلعات الشعب الفلسطيني، ولا ينفك عن الإشادة بصموده وصبره الاستثنائي، ينفصم خطاب الاحتلال عن الواقع، فنتنياهو يضحي بالأسرى من أجل مصالحه الشخصية، وهناك مظاهرات شبه دائمة ينظمها أهالي الأسرى الإسرائيليين في مدن الاحتلال.
عقلانية ومرونة مقابل جنون وتعنّتحمل خطاب هنية تأكيدًا على مرونة ومسؤولية المقاومة، حيث كان تعاطي الحركة الإيجابي مع جهود الوسطاء لوقف العدوان والإبادة مؤشرًا مهمًا على عقلانيتها ومسؤوليتها، كما أن موافقة الحركة على المقترح الأخير الذي قدّمته مصر وقطر بعلم الإدارة الأميركية، أحرج الاحتلال الإسرائيلي بشكل كبير عندما رفضه، وقام باحتلال معبر رفح، وشنَّ عدوانًا على مناطق رفح وجباليا والزيتون، رغم التحذيرات الأميركية.
وفي ذات السياق، تحدّث أبوعبيدة عن الفرص المنطقية التي قدمتها المقاومة للإفراج عن الأسرى، فقام الاحتلال برفضها بتعنّت. وعلى الجانب الآخر، كان دانيال هاغاري الناطق باسم الجيش الإسرائيلي يعلن عن تمكنهم من تخليص جثث عدد من الأسرى، محاولًا تسويق ذلك كإنجاز، رغم أنه على الأغلب تمّ قتل العديد من جنوده في محاولة الوصول لتلك الجثث، التي قُتل أصحابها بقصف صهيوني أيضًا.
ومع تأكيد خطاب المقاومة الفلسطينية على إدراكه نوايا الاحتلال الإسرائيلي المبيتة باستمرار العدوان وانحياز الموقف الأميركي إلى العدو، ومواصلة منحه الغطاء السياسي والدعم العسكري لحرب الإبادة التي يشنّها ضد الشعب الفلسطيني، إلا أنها أعلنت مواصلة مساعيها لوقف العدوان، بما يضمن وقف إطلاق النار الدائم، والانسحاب الشامل من القطاع، وصفقة حقيقية لتبادل الأسرى، وعودة النازحين، وإعادة الإعمار ورفع الحصار، وهو ما يشير إلى ثبات حماس على مواقفها وأهدافها في كل مراحل الحرب، مع المحافظة على هوامش المرونة في القضايا التي تسمح بذلك.
خطاب العلاقاتأشارت عدة تسريبات إلى عصبية الجانب الإسرائيلي في التعامل مع حلفائه، فنتنياهو انتقد تحذير الرئيس الأميركي له من تجاوز الخطوط الحمر في رفح قائلًا: "إسرائيل ليست ولاية أميركية". وبالمثل انتقد زعيم المعارضة لابيد تعامل الحكومة مع مصر، فيما يخصّ احتلال رفح، كما تصاعدت التوترات بين الاحتلال الإسرائيلي وتركيا.
على الجانب الآخر، تدير حماس علاقاتها بتوازن مع الأطراف الدولية والإقليمية، فقد كانت في الصين وروسيا؛ تلبية لدعوات للحوار الوطني الفلسطيني كما ذكر هنية في خطابه، وهي تحظى إقليميًا باحترام الوسطاء في قطر ومصر. واحتفى هنية في خطابه بالضربة الإيرانية للاحتلال، وأشاد بالمقاومة اللبنانية، وثمّن عاليًا قرارات تركيا بوقف الحركة التجارية مع الاحتلال، وانضمامها للدعوة المقدمة إلى محكمة لاهاي هي ودول أخرى.
وبالمثل، وجّه أبو عبيدة التحية للمقاومة اللبنانية والعراقية، وبارك عمليات "أنصار الله" في اليمن، وأشاد بكل المتضامنين مع فلسطين وشعبها في كل مكان، وفي الولايات المتحدة. وهو ما يشير إلى اتخاذ شرعية حماس منحنى تصاعديًا إقليميًا ودوليًا.
خطاب المستقبل
وهكذا تكشف خطابات قادة الاحتلال عن تدهور الثقة بين الأوساط القيادية، وتدهور ثقة الرأي العام بالجيش الإسرائيلي، وقدرته على حماية الدولة منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول وحتى يومنا هذا. كل هذا يجعل المستقبل في إسرائيل قاتمًا، كما أشار أكثر من مفكّر وسياسي، أو كما قال أبو عبيدة: إن متلازمة الفشل وأكذوبة الضغط العسكري لتحرير الأسرى، هي وصفة لذهابهم نحو المجهول.
أما خطابات المقاومة فهي واثقة وثابتة ومتوافقة مع الميدان، وذاهبة لمزيد من الحضور العالمي. وقد حيّا هنية المظاهرات الطلابية غير المسبوقة في الجامعات الغربية، مشيرًا إلى أنّ غزة أسقطت السردية الصهيونية، وكشفت حقيقة الاحتلال وطبيعته الدموية، ومنحت أفقًا واسعًا أمام إعادة صياغة التاريخ. وهي إلى ذلك لم تخلُ من المحتوى الإيماني المحمّل ببشريات الانتصار على الظلم، وهو واحد من مقومات الصمود، وحفز الإرادة في هذه المعركة.
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معنارابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات الاحتلال الإسرائیلی الثقة فی فی غزة وهو ما
إقرأ أيضاً:
المقاومة ليست خيارا ديمقراطيا
في زمن خُلطت فيه المفاهيم، وغُيّبت فيه المعايير، باتت المقاومة تُساءل كما تُساءل الحكومات، ويُحاكم المقاوم كما يُحاكم الفاسد، ويُطلب منه ما لا يُطلب حتى من المحتل. وهي مفارقة أخلاقية قبل أن تكون سياسية.
المقاومة، في جوهرها، ليست خيارا ديمقراطيا، ولا خاضعة لمعادلات التصويت وصناديق الاقتراع، ولا ينتظر أصحابها نتائج استطلاع رأي ليقرروا ما إذا كان من "اللائق" أن يقاوموا أم لا. هذا المنطق، في ذاته، يحمل كارثة فكرية وإنسانية؛ لأنك ببساطة تساوي بين شعب واقع تحت الاحتلال، ومحتلٍ غاصبٍ يستبيح الأرض والإنسان.
من قرر أن يقاوم لا يحتاج إلى تفويض من أحد، ولا يستأذن المقهورين في الدفاع عنهم.. لا ينتظر أن يُنصَّب رسميّا على مشروع الدفاع، فالمقاومة ليست وظيفة تُرشَّح لها، بل هي فعل ينبثق من أعماق الروح الحرة التي ترفض الذل. حتى لو قرر الناس كلهم أن يرضخوا، فمن حق الفرد أن يتمرد، ولو خضع الملايين تحت نير الاستعمار، فصوت واحد يصرخ في وجه الباطل كافٍ ليبدأ التغيير.
يُساءل المقاوم عن مصير المدنيين، بينما يُعفى المحتل من أي مساءلة وهو يقصف البيوت، ويدفن العائلات تحت الأنقاض، ويهدم المدارس والمساجد والمستشفيات
تاريخ الأمم يعلّمنا أن التحرر لا يُنتزع بتوقيع العرائض، ولا يُنال ببلاغات الشجب وحدها.. لم يُقم ثوار الجزائر استفتاء عاما قبل أن يبدأوا ثورتهم ضد المستعمر الفرنسي، ولم ينظّم الفيتناميون مؤتمرات حوار قبل أن يخرجوا لمواجهة المحتل الأمريكي، ولم يكن الجيش الجمهوري الأيرلندي بحاجة إلى أغلبية برلمانية لكي يدافع عن حقوق شعبه. هذه النماذج وغيرها لم تفكر بمفردات "التوافق الوطني" تحت وطأة الاحتلال؛ لأنها ببساطة كانت تعرف أن الحرية لا تأتي على طبق من فضة، ولا تهبط عبر البريد السياسي.
في المقابل، نحن نعيش اليوم حالة غريبة من "الترف السياسي"، حيث يُطلب من المقاوم أن يقدم تقريرا شاملا عن جدوى فعله، وتكلفته، وتداعياته الاقتصادية والدبلوماسية. يُساءل المقاوم عن مصير المدنيين، بينما يُعفى المحتل من أي مساءلة وهو يقصف البيوت، ويدفن العائلات تحت الأنقاض، ويهدم المدارس والمساجد والمستشفيات. يُطلب من المقاوم أن "يُراعي"، وأن "يتأنى"، وأن "يفكر بعقل الدولة"، مع أنه لا يملك دولة أصلا، ولا أرضا آمنة، ولا سيادة على شبر واحد من بلاده.
صحيح أننا نحب أن يُراعي المقاوم شعبه، وأن يحفظ ما استطاع من الأرواح، ولكن لا يمكن أن نحمّله وحده مسؤولية جرائم عدوه، ولا يجوز أن نخضعه لمقاييس الدولة المستقرة وهو يواجه كيانا عدوانيّا مسلحا مدعوما من أقوى القوى على وجه الأرض. من الظلم أن يُساءل من يدافع، بينما يُترك من يعتدي.
ليست القضية هنا أن نقدّس المقاومة أو نمنع انتقادها، ولكن أن نُعيد الأمور إلى نصابها، أن نفهم أن الاحتلال هو أصل الجريمة، وأن كل ما يتبعه من دم ودمار، هو نتيجة مباشرة له. ومن الظلم أن تُلقى الفاتورة على من يقاوم بدل أن تُحاسب من يحتل
ثم ما البديل؟ هل يُطلب من الناس أن ينتظروا رحمة المحتل؟ أم أن يقيموا مؤتمرات "سلام داخلي" وهو يذبح أبناءهم؟ هل المطلوب أن يُجروا انتخابات تحت الحراب ليقرروا إن كانوا يحبون المقاومة أم لا؟! وهل يفترض بالمقاوم أن يختبر شعبيته تحت القصف؟ هذا العبث لا يُقال في سياق الاحتلال، بل في أروقة دول تعيش استقرارا نسبيّا وتملِك قرارها السيادي، أما نحن، فالمعادلة مختلفة تماما.
أحيانا، حين تكثر الأصوات التي تُسائل المقاومة، أشعر أن البعض يتمنى لو لم تكن هناك مقاومة أصلا، كي لا يُحرَج أمام العالم، أو كي لا يضطر لتبرير موقفه. وهنا يصبح الخطاب الإنساني أداة للهروب من المعركة، بدل أن يكون حافزا لها. نريد مقاوما بلا معركة، ونضالا بلا ثمن، وتحررا بلا مواجهة. وهذا لا يحدث إلا في الخيال أو في كتب الأطفال.
إن المقاومة، بطبيعتها، مكلفة، وكل مقاومة حقيقية تحمل في طياتها ثمنا باهظا. هذا لا يعني أن نستسلم للفجائع، ولا أن نحتفي بالألم، ولكن أن نُدرك أن الصراع مع المحتل ليس مباراة متكافئة، بل هو معركة وجود، ومن يطالب المقاوم بأن يتصرف كما لو أنه يعيش في دولة ذات سيادة فإنه ببساطة لا يفهم معنى الاحتلال.
ليست القضية هنا أن نقدّس المقاومة أو نمنع انتقادها، ولكن أن نُعيد الأمور إلى نصابها، أن نفهم أن الاحتلال هو أصل الجريمة، وأن كل ما يتبعه من دم ودمار، هو نتيجة مباشرة له. ومن الظلم أن تُلقى الفاتورة على من يقاوم بدل أن تُحاسب من يحتل.
إن من حق كل شعب واقع تحت الاحتلال أن يختار طريقه نحو الحرية، ومن حقه أن يخطئ، وأن يتعلم، ولكن لا أحد يملك الحق أن يسلبه هذا الخيار باسم الديمقراطية أو الواقعية السياسية؛ لأن الحرية لا تُقاس بحسابات صندوق، ولا تُمنح بإجماع النخب، بل تنتزع بقرار فردٍ يرفض أن يعيش عبدا.