ترجمة: أحمد شافعي -

مع تزايد هجماتهم على السفن التي تمر عبر مضيق باب المندب والبحر الأحمر، يواصل الحوثيون تعريض حرية الملاحة والتجارة للخطر. لجأت إدارة بايدن في أول الأمر إلى استخدام البحرية الأمريكية لمواجهة التهديد، فلم يكن هذا في أحسن الأحوال إلا بمنزلة ضربة غير مؤثرة، ولم يكن في أسوئها إلا إشارة إلى إهدار موارد عسكرية هائلة مقابل نتائج قليلة.

وفي هدوء، اعترفت إدارة بايدن بالفشل من خلال سحب مجموعة حاملات الطائرات «يو إس إس دوايت دي أيزنهاور» من البحر الأحمر إلى شرق البحر الأبيض المتوسط تحسبا لتصاعد القتال بين إسرائيل وحزب الله.

منذ البداية المبكرة، ربما كانت الاستراتيجية العسكرية الأفضل كثيرا لمواجهة تهديد الحوثيين هي استخدام مطار (أرض الصومال) في بربرة لإدارة عمليات مواجهة تهديدات الحوثيين وحماية الشحن. ففي حين أن الأمر يتطلب أربعة آلاف فرد لطاقم حاملة طائرات، فإن الأمر لا يتطلب إلا أربعة أفراد فقط لطاقم طائرة (أوسبري) أو فردين لا أكثر للطيران والقتال في طائرة إف-16. غير أن فريق الرئيس جو بايدن غالبا ما يقلل من أهمية الاستراتيجيات العسكرية إعلاء للاعتقاد بأن الدبلوماسية وحدها قادرة على إنهاء التهديدات التي يشكلها الخصوم الأيديولوجيون والعدوانيون.

وهنا أيضا، يؤدي الافتقار إلى الإبداع والانتباه إلى الديناميكيات المحلية بالبيت للأبيض ووزارة الخارجية إلى فقدان فرص لإنهاء تهديد الحوثيين وتحقيق الاستقرار والازدهار للشعب اليمني.

فعلى مدار فترة طويلة من الحرب الأهلية في البلاد، كان اليمن الجنوبي ينعم نسبيا بالسلام والاستقرار. وكما هو حال (أرض الصومال)، أغلق اليمن الجنوبي، بدعم إماراتي، الباب في وجه تنظيم القاعدة. ولأن للمواقف المحلية في اليمن أهميتها الكبيرة، ففي حال رفض زعماء القبائل والساسة تنظيم القاعدة، فإن التنظيم يتحرك بحثا عن أرض أكثر خصوبة. ولذلك فإن الاعتراف بحقوق اليمن الجنوبي وأرض الصومال في تقرير المصير بدلا من التضحية بحرية الملاحة والمصالح الأمريكية لصالح نظام موالٍ لإيران في صنعاء ونظام موال للصين في مقديشو كان ينبغي أن يكون قرارا يسيرا على صانعي السياسة الأمريكيين الرامين إلى توطيد الاستقرار ومنع الفضاء غير الخاضع للحكم على القاعدة أو غيرها من الجماعات المتطرفة التي يمكن أن تزدهر فيه.

والسياسات الأمريكية المحلية أيضا لها أهميتها. في الفترة التي سبقت انتخابات 2020 وبعدها مباشرة، أعلن بايدن، ووزير الخارجية أنتوني بلينكن، ومستشار الأمن القومي جيك سوليفان، أن «الدبلوماسية قد رجعت». ومن خلال السماح للسعودية باستضافة البعثة الأمريكية في اليمن بدلا من إدارة قنصلية في عدن، أغلقت وزارة الخارجية الباب أمام فرص الدبلوماسية.

ويفضي هذا بوزارة الخارجية إلى تضييع فرص القضاء على الحوثيين وإعادة السلام إلى شبه الجزيرة العربية. في الثاني والعشرين من يونيو 2024، التقى اللواء عيدروس الزبيدي، رئيس المجلس الانتقالي الجنوبي ونائب رئيس المجلس القيادي الرئاسي، مع عشرات المسؤولين المناهضين للحوثيين من صعدة في الجزء الشمالي الغربي من البلد. ووعد الزبيدي بدعم المقاومة المناهضة للحوثيين في صعدة وعبر المحافظات التي يسيطر عليها الحوثيون في اليمن. وتمثل رغبة زعماء القبائل بمعقل الحوثيين في إدارة ظهورهم بهذه العلانية للحوثيين إشارة واضحة إلى أن المجموعة القبلية الموالية لإيران قد فقدت شرعيتها المحلية في اليمن. فلقاء الزبيدي هذا شبيه بفرار الأفغان من طالبان بعد الحادي عشر من سبتمبر سنة2001.

في كثير جدا من الأحيان، يبدو مكتب شؤون الشرق الأدنى التابع لوزارة الخارجية أكثر ميلا إلى الحفاظ على الوضع الراهن بدلا من الاعتراف بما في انهياره من فوائد. فعلى مدار أكثر من عقد من الزمن قبل الحرب الأهلية السورية، ظل الدبلوماسيون الأمريكيون يكررون تكرارا ببغائيا، على سبيل المثال، عبارة أن حزب الله منظمة قومية لبنانية لا ينبغي للولايات المتحدة أن تستبعدها ببساطة باعتبارها منظمة إرهابية مدعومة من الخارج. ومع ذلك، فإن استعداد حزب الله لنشر وحدات القتال في سوريا خلال الحرب الأهلية كذَّب هذه الفكرة، مصداقا لما كان اللبنانيون في جنوب لبنان أول من أشاروا إليه.

يعكس اجتماع الزبيدي ديناميكية مماثلة. ففكرة أن للحوثيين دعما شعبيا هي فكرة مثيرة للسخرية، وخاصة عندما تظهر معارضة شعبية في محافظتهم الأصلية. ولقد حان الوقت للاعتراف بأن المجلس الانتقالي الجنوبي واليمنيين من الشمال والجنوب قد تجاوزوا الأزمة الآن.

لقد فرضت إدارة بايدن مرة أخرى عقوبات على الحوثيين بعد رفعها في الأسابيع الأولى من عام 2021. كما أنها تعترف بأن تجارة المخدرات تغذي الاضطراب في جميع أنحاء اليمن والشرق الأوسط.

وبدلا من فك الارتباط مع اليمن، حان الوقت الآن لمضاعفة الجهود والاعتراف بأن لدى الولايات المتحدة شركاء يمنيين محتملين من صعدة إلى سيئون ومن عمران إلى عدن وهم جميعا راغبون في رؤية نهاية العهد الحوثي.

ذي ناشونال إنتريست-26 يونيو 2024

مايكل روبن مدير تحليل السياسات في منتدى الشرق الأوسط وكبير زملاء معهد أمريكان إنتربرايز.

عن ذي ناشونال إنتريست

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: فی الیمن

إقرأ أيضاً:

البذاءة بوصفها إستراتيجية جمالية للمقاومة وتفكيك السلطة

د. ناهد محمد الحسن

تشير تجارب التاريخ الثقافي إلى أن الفضاء الفني غالبًا ما يستعيد القدرة على قول ما تعجز السياسة عن الإفصاح عنه. تتقدّم الفنون لتصدح باللغة التي لا تستطيع السلطة سماعها او تحمّلها. فاللغة المصفّاة بنت السلطة، أما اللغة المنفلتة فهي بنت الحرية، ولا يجتمع الاثنان في حنجرة واحدة. من هنا، يصبح تتبّع البذاءة في الفنون أشبه بتتبّع التصدعات الدقيقة التي تظهر في جدار السلطة. فكلما اتسعت التصدعات، ارتفع صدى الضحكات، سقطت الهيبة، تراجع الخوف وتطوّرت المقاومة.

فعندما تهيمن السلطة على القنوات الرسمية للخطاب، يصبح الفن بما يتضمنه من سخرية، انحراف لغوي، فجور رمزي، وتوظيف مقصود للابتذال وسيطًا معرفيًا يسمح بإعادة إنتاج الحقيقة خارج الأطر التي تفرضها البنى السلطوية. ولهذا، فإن دراسة البذاءة في الفن ليست بحثًا في الذوق، بل في إمكانات المقاومة داخل الخطاب الجمالي. فكل انحراف لغوي عن المعايير المفروضة هو — في لحظات التحولات السياسية — فعل مقاومة يكشف حدود السلطة ويعيد توزيع القوة الرمزية داخل المجتمع.

من المسرح الإغريقي إلى التنظير الحداثي: جذور البذاءة بوصفها نقدًا للسلطة

يبيّن تحليل مسرح أريستوفان _ الذي نشأ في القرن الخامس الميلادي_أن استخدام الألفاظ الجنسية الفجة لم يكن ناتجًا عن رغبة في الإضحاك وحده، بل عن سعي لفضح النفاق الأخلاقي والسياسي عبر تفكيك “هالة الخطاب الرسمي”. فالمحظور اللغوي، حين يُستدعى إلى المسرح، يعمل كـ أداة لكسر احتكار الطبقات الحاكمة لمعنى الأخلاق. بعد ذلك بقرون، وضع ميخائيل باختين إطارًا تنظيريًا لهذا الدور في مقولته حول الكرنفالية، حيث يتعرض النظام الرمزي السائد لانقلاب مؤقت يسمح للخطاب الشعبي بالهيمنة على الفضاء العام. موضحا للجمهور معنى اللحظة التي بمقدورهم فيها ان يسقطوا الملك، بحدّ الضحكة وليس بحد السيف.

ففي الكرنفال:

– يضحك الشعب على السلطان،

– تتلاشى الفواصل بين “المهذب” و”الوقح”،

– وتتحول البذاءة إلى آلية لنزع هالة السلطة.

في هذه اللحظة، يصبح الضحك أكثر ثورية من أي وثيقة سياسية، لأنه يطيح بالخوف — والسخرية تنزع الشرعية من السلطة أكثر مما تفعل المعارضة الرسمية. ويُظهر هذا التحليل أن البذاءة في سياق الكرنفال ليست انحرافًا أخلاقيًا، بل آلية لتفكيك الهرمية السياسية والاجتماعية عبر تعليق الحدود بين “الرفيع” و”الوضيع”. تدعم الدراسات اللاحقة في السخرية السياسية العربية هذا الطرح، مؤكدة أن الهزل — وخصوصًا حين يتضمن انحرافًا لغويًا — يخلق “عالمًا موازيًا” يتخفف من الرقابة ويتيح إمكانات جديدة للتعبير عن الرفض (Badarneh, 2011؛ Elsayed, 2021).

 الأدب والفجور اللغوي: إعادة تشكيل الذائقة وتقويض البنية الأخلاقية الرسمية

يمثل الأدب أحد أهم الحقول التي استخدمت البذاءة لتحدي السلطة الرمزية. رواية د. هـ. لورانس Lady Chatterley’s Lover (1928)   لم تُحاكم لأنها جنسية فقط، بل لأنها فضحت نفاق الأخلاق الطبقية في إنجلترا ما بعد الحرب العالمية الأولى. فالعلاقة بين امرأة من النخبة وخادم من الطبقة العاملة كانت جريمة رمزية تهدم المعمار الاجتماعي. القضاء اعتبر الرواية “بذيئة”، لكن التاريخ اعتبرها — لاحقًا — نقطة تحول في تحرير الجسد من رقابة الدولة. البذاءة هنا كانت تكشف ما تحجبه اللياقة: العطب الحقيقي في المجتمع.  وفي السياق ذاته، تُظهر دراسة أعمال هيلدا هيلست أن المزج بين السامي والوضيع ليس مجرد خيار جمالي، بل تقنية لزعزعة النسق الأخلاقي وإعادة توزيع السلطة داخل اللغة. وقد فسّرت قراءات باختين ومافيسولي هذا التداخل بوصفه آلية تكشف البنية القمعية التي تتخفى خلف اللغة المنقّاة.

في كتابه الوصايا المغدورة، يذهب ميلان كونديرا أبعد من الدفاع عن البذاءة — فهو يراها جزءًا من “حكمة الرواية”، التي تكشف السخافات الكبرى للسلطة من خلال ما يبدو تافهًا أو مبتذلًا. يلمس كونديرا جوهرًا مهمًا حين يؤكد أن  البذاءة ليست خروجًا عن اللغة، بل عودة اللغة إلى حقيقتها الأولى: أن تقول ما يخشاه الجميع.

يتضح من ذلك أن البذاءة في الأدب تؤدي وظيفة مزدوجة: نقد البنية الأخلاقية الرسمية، وفتح المجال لوعي مغاير يتجاوز الحدود التي ترسمها المؤسسات الثقافية والسياسية.

الموسيقى والراب: البذاءة كأرشيف للغضب الاجتماعي ( (NTM  نموذجًا

أشار محمد عباس — مشكورًا — إلى أهمية فرقة الراب الفرنسية Suprême NTM كنموذج لتسيس البذاءة. فالاسم ذاته (Nique Ta Mère) يشكل تصريحًا احتجاجيًا يتجاوز الخطاب الأدبي أو الصحفي، ليعبر عن الغضب البنيوي المتولد من تهميش الضواحي الفرنسية. تُظهر الأدبيات المعنية بثقافة الهيب–هوب أن البذاءة هنا ليست إساءة شخصية، بل لغة احتجاجية تشكّل هوية مشتركة ضد عنف الشرطة، العنصرية المؤسسية، الفقر، واستبعاد الفئات المهمشة من المشاركة السياسية.

في أغنية (شرطة Police)، حوّلت هذه الفرقة الشتيمة إلى وثيقة احتجاج سمعي. وعندما حوكمت المجموعة بسبب كلماتها، تحوّلت المحاكمة إلى اعتراف رسمي بأن اللغة يمكن أن تهدد النظام أكثر مما يهدده العنف المادي. لماذا تهمنا تجربة NTM؟

لأنها تجسّد ما يقوله باختين ومارك ليفين و(سارة عوض)، أن الفن يولد سلطة رمزية موازية، وأن اللغة البذيئة قد تكون الشكل الأوضح لانتزاع الاعتراف بوجود الهامش. وهذا يتقاطع مع دراسات الفن الاحتجاجي في المنطقة العربية (LeVine, 2015؛ Awad et al., 2017)، التي تُظهر أن ثقافة الهامش تنزع إلى استخدام أشكال لغوية “غير مصقولة” بوصفها وسيلة لمخاطبة السلطة مباشرة دون وساطة.

البذاءة في الفنون البصرية والشارعية: تفكيك الهيمنة الرمزية

تكشف البحوث الحديثة في الفن السياسي في شمال إفريقيا وغرب آسيا (2023–2024) أن الفضاءات الفنية غير الرسمية — الشوارع، الجدران، الفضاء الرقمي — أصبحت منصات مركزية لإعادة إنتاج خطاب مقاوم. في فلسطين مثلًا، يوضح Alım (2020)  أن الجداريات تشكل بنية رمزية مضادة تحافظ على الذاكرة وتؤسس لخطاب سياسي موازٍ. وفي مصر، رهنت Elsayed (2021) على أن السخرية الرقمية تمثل “كرنفالًا جديدًا” يتيح لغات هجينة تمزج بين الفحش والتهكم والصورة الرقمية لإنتاج مقاومة يومية. وتشير الكتب الحديثة عن الفن المقاوم (Art Against Authoritarianism in SWANA, 2024؛ الى أن الأنظمة السلطوية تميل إلى معاقبة النكتة أكثر من معاقبة المقال السياسي، لأنها: تنتشر خارج هياكل السيطرة، تُسقط الخوف، وتحوّل الجمهور إلى منتج للمعنى. وبذلك يتحول الفعل الفني البذيء إلى تحدٍّ مباشر للهالة السلطوية.

السياق السوداني: السخرية الشعبية كآلية لإسقاط الهالة السياسية

تُعد تجربة صحيفة حلمنتيش (أواخر ثمانينيات القرن العشرين) واحدة من أبرز الأمثلة السودانية على استخدام السخرية اللاذعة — وأحيانًا البذيئة — بوصفها آلية تفكيك رمزي للسلطة في سياق ديمقراطي هش. وينسب اليها نقل الصحافة السودانية المنضبطة الى البذاءة، في مفارقة مثيرة للتنظيم االإسلاموي الذي كان يتضرع للشعب السوداني بالطهرانية، مزاحما لأحزاب طائفيّة راسخة في القداسة، مشهرا الفن والكاريكاتير كأدوات لنزع القداسة عن منافسيه. وصول حلمنتيش إلى المجال العام لم يكن مجرد دخول صحيفة ساخرة، بل كان تفكيكًا مباغتًا لمنظومة الوقار السياسي التي حكمت المجال العام لعقود. وهو ما ينسجم مع ما تقترحه الأدبيات المتعلقة بالكرنفال الباختيني: أن السخرية — بما فيها من تهكّم وانحراف لغوي — تعمل على تعليق التسلسل الهرمي مؤقتًا، بما يسمح بإعادة توزيع السلطة الرمزية بين “المرموق” و”العادي”. اعتمدت حلمنتيش على هجاء سياسي مباشر، وعلى تفكيك الصورة المثالية للقيادات التقليدية عبر لغة شعبية غير منقّاة.

هذا النوع من الخطاب وفقا للباحثين، لا يقصد الإساءة الشخصية، بل يعمل — وفق تحليل زعزعة الرسميّة المفرطة للخطاب السياسي، كشف التوتر بين “القيمة الأخلاقية” المعلنة والسلوك السياسي العملي، وإعادة سلطة التقييم إلى الجمهور بدلاً من النخب. وفي إحدى اللحظات البالغة الدلالة — التي كثيرًا ما تُذكر في الذاكرة السياسية السودانية — هي قبول الإمام الصادق المهدي كتابة مقدّمة لكتاب احتوى الرسوم الساخرة التي استهدفته. تجسيد لفكرة أساسية في الثقافة الديمقراطية: أن السخرية جزء من المجال العام، وأن الهالة الرمزية للزعيم ليست ملكًا خاصًا، بل خاضعة للفحص الشعبي. هذا السلوك من جانب القيادات يشكّل مواجهة مختلفة تمامًا عن ردود الفعل السلطوية التي غالبًا ما تلاحق السخرية بالعقاب. وفي المفهوم الباختيني، هذه اللحظة تمثل قبول الحاكم بأن يدخل — طوعيًا — في فضاء الكرنفال، أي فضاء التساوي المؤقت بين السلطة والجمهور.

المفارقة التاريخية: عودة السلاح إلى أصحابه

تُظهر التجربة السودانية في ثورة ديسمبر أن الخطاب الساخر البذيء عاد مجددًا، لكن هذه المرة موجَّهًا إلى الحركة الإسلامية نفسها — التي كانت قد استخدمت حلمنتيش في الثمانينيات لتفكيك خصومها. وهذا يعزز فرضية مركزية في هذا البحث:

البذاءة ليست ملكًا لجماعة سياسية، بل ظاهرة لغوية–اجتماعية تتغير وظيفتها بحسب موقعها داخل الحقل السلطوي. فحين تنتقل الجماعة من الهامش إلى السلطة، تتحول البذاءة التي كانت فاعلة في مقاومتها إلى أداة موجَّهة ضدها، لأن الشروط التاريخية التي شَرعنت استخدامها آنذاك تنقلب عليها. وهكذا تُظهر حلمنتيش ما يسميه باختين بـ”قانون انقلاب الخطاب“: فباختين يرى أن الكلمات لا تنتمي لمن نطقها أول مرة، بل هي كيانات حيّة تتغير دلالتها حسب من يقولها، ولمن يقولها، وفي أي ظرف، وبأي نبرة. هذه الحركة المستمرة تجعل الخطاب غير ثابت وقابلًا دائمًا للانقلاب على سياقه الأصلي. الكلمة التي وُلدت خاضعة قد تتحول إلى كلمة متمرّدة، والكلمة التي صُنعت لتمجيد السلطة قد تنقلب فجأة إلى أداة للسخرية منها.

المفارقة التاريخية: السلاح يعود إلى أصحابه

بعد عقود، وفي ثورة ديسمبر، وُجِّه الخطاب البذيء إلى الإسلاميين أنفسهم — الذين سبق أن استخدموا حلمنتيش ضد خصومهم. هذا يؤكّد قانونًا لغويًا–سياسيًا مهمًا: البذاءة لا تظل سلاحًا بيد طرف واحد. حين تتغير موازين السلطة، يتغير اتجاه الشتيمة. فالبذاءة و إن وضعت في بنى تحت قشرة الدماغ في التشريح، ودفعت الى هامش المدينة، ووصمت بالانحطاط والقذارة فستبقى الخصم الناصع في مواجهة السلطة.

تُظهر التجربة السودانية في ثورة ديسمبر، كما وثّقها الخطاب الشعبي، أن البذاءة لم تكن مجرد رد فعل انفعالي، بل استراتيجية رمزية لإزالة الخوف والتحرر. وقد سبق وقدمت في حلقة لي في يوتيوب أيام الثورة تحليلا عن احتفاء الجماهير بعبارة غير لائقة القتها سيّدة ثائرة على الهواء مباشرة في قناة الجزيرة، لم تصدم المذيع وحده والمشاهدين، ولكنها الرصاصة التي خرّبت اللعبة. (يمكنك مشاهدة الحلقة هنا: https://youtu.be/y0CC8jksQxQ?si=P06xNUSxdab_7moz)

فتحت الثورة الباب الخلفي كما قال غوفمان واسقطت الستارة عن مسرحية الأدب المدّعاة. احتشد الاف المتابعين لصفحة ماما و لأنّها دون أن تحصل على شهادة في العلوم السياسية اين يمكن ان تنصع بذاءتها، فلم تصفق للسلطة، ولكنها دون ان تقرأ ماركس انحازت لمظالم طبقتها. وهكذا دمجت ثورة ديسمبر مظالم الشعب وحولت اللغة الصادمة إلى أداة لإعادة تعريف المسموح والممنوع في الخطاب العام، عبر تفكيك الهالة التي بنتها الأنظمة المتعاقبة حول رموزها. هذا يتسق مع ما تقترحه النظريات الحديثة في تحليل الحركات الاجتماعية حول دور اللغة المنحرفة في بناء التضامن وكسر الاحتكار الأخلاقي للخطاب الرسمي.

ختاما:

تكشف المراجعات التاريخية والنظرية والعملية أن البذاءة — حين تُستخدم في سياق جمالي مقصود — تعمل كآلية مقاومة تُعيد توزيع السلطة داخل الفضاء العام. فهي: تكسر احتكار السلطة للخطاب، تفتح المجال لأصوات الهامش، تعيد صياغة الحدود الأخلاقية بطريقة تُنتج معرفة بديلة، وتضمن خلق فضاء نقدي خارج سيطرة الدولة. وهكذا، تتحول البذاءة في الفن من “انحراف لغوي” إلى استراتيجية معرفية وجمالية وسياسية تستعيد بها الجماهير حقها في الكلام. أن البذاءة ليست انحرافًا عن الأخلاق، بل انحرافًا عن السلطة. وأن الفن — حين يقترب من حافة الممنوع — يحرر اللغة من السقف الذي تفرضه الدولة، المجتمع، والدين. الفن ليس مجرد مرآة، بل مطرقة لغوية تعيد تشكيل ما نجرؤ على قوله… وما نخشى قوله.

نواصل..

الوسومد. ناهد محمد الحسن

مقالات مشابهة

  • وزير الخارجية الأسبق: مجاملة النخب أوصلت اليمن إلى الكوارث والأوطان لا تُبنى بالمجاملات ولا تُحمى بالصمت وهم سبب تدهور الأوضاع ..عاجل
  • الخارجية اليمنية: عيدروس الزبيدي لا يمكنه إعلان الإنفصال وما حدث شرق اليمن كان مفاجئًا
  • ضاحي خلفان يعبر عن أمنيته بتحرير شمال اليمن من قبضة الحوثيين
  • الانتقالي الجنوبي يرفض طلبا سعوديا إماراتيا بالتراجع الميداني في اليمن
  • مصادر لرويترز: أميركا حجبت معلومات مخابرات عن إسرائيل خلال عهد بايدن
  • إدارة بايدن تجمد التعاون الاستخباراتي مع إسرائيل بسبب جرائم حرب في غزة
  • حزب الإصلاح يعطل جهود تحرير اليمن من الحوثيين
  • مؤسسة النفط تستعرض الشراكات التي تقيمها مع الشركات الأوروبية وسبل تطويرها
  • تهديد بهدم قبر عزّ الدين القسّام.. ما الرسالة التي يسعى بن غفير إلى إيصالها؟
  • البذاءة بوصفها إستراتيجية جمالية للمقاومة وتفكيك السلطة