#الإنتحار_والفداء
بقلم: د. #هاشم_غرايبه
مقال الإثنين: 9 / 9 / 2024
استغرق الفلاسفة منذ القدم في بحث العلاقة بين مفاهيم: الجسد والنفس والروح، واختلفوا الى أن أنزل الله رسالاته فقطع في أن الروح من أمره، ولا يمكن للبشر ادراك ماهيتها ولا فهم أي أمر متعلق بها.
لذلك فالمصدر الوحيد للمعرفة في هذا الأمر هو ما ورد في كتاب الله من إشارات متفرقة، فالجسد هو مادة تشغل مكانا محددا في الفراغ، لذلك فهو معروف بخواصه وقدراته، أما النفس فهي ذلك الشيء المعنوي المسيطر على الجوارح، وتشتمل النفس على العقل والقلب والفؤاد، وبالتالي هي تسيطر على كل أفعال وأقوال الإنسان، وهو الذي يؤاخذ الله به الإنسان، أما الروح فهى ذلك السر الإلهى الذي شاء الله أن يحجب معرفته عن البشر كليا، وما يعرفه عنها أنها ما يحول جسد كل الكائنات الحية من مركبات جامدة الى كائن حي ذي إرادة مستقلة وقدرات معينة، وإن سحبت منه الروح زالت الحيوية فمات، وعاد الجسد جمادا وتحللت مركباته الى مكوناتها الأولية الترابية.
بما أن الروح من أمر الله وحده، لذلك فهو من يقرر ايداعها الجسد أو سحبها منه، أي هو من يقرر ولادة الكائن الحي أو موته، وجعل لذلك نظاما منضبطا، يحكم جميع الكائنات الحية، حتى المفترسة منها، فهي لا تقتل طريدتها الا لسد الجوع، فلا تستغل تفوقها في القوة لقتل حيوان أضعف ظلما وعدوانا.
الكائن الوحيد الذي بإمكانه ذلك هو الإنسان، لأن الله كرمه بالعقل الذي يمكنه من التغلب على حيوان أقوى منه وأسرع، كما يمكنه أن يتجاوز فطرته طمعا أو ظلما فيقتل بشرا آخرين، ويمكنه أيضا قتل نفسه في حالات يائسة.
ولما كانت الكائنات جميعها منضبطة بما فطرت عليه، باستثناء الإنسان الذي تفرد من بينها بحرية الإرادة، لذلك أنزل الله عليه تشريعاته معززة للفطرة السليمة، فحرم على الناس قتلهم لبعضهم بغير الحق، وحدد هذا الحق في أمرين: أولهما دفاعا عن النفس ومن يعولهم المرء وما يملكه، وبالطبع فأهمُّ ما يملكه العقيدة الإيمانية.
والثاني الاقتصاص بقتل من قتل إنسانا عمدا وظلما، وهذه هي العقوبة الشرعية الوحيدة التي تجيز القتل، والحكمة من تغليظ العقوبة أن القتل أجبُّ للقتل: “وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ” [البقرة:179].
وبالطبع فإن تحريم القتل يشمل قتل النفس أي الانتحار، وذلك لأنه أيضا تعدٍّ على صلاحيات الخالق الذي بيده الموت والحياة.
من هنا لطالما ثار لغط عند القيام بعمليات فدائية، أي تلك الأعمال القتالية عالية الخطورة، بحيث تكون احتماليات مقتل من يقوم بها عالية، وفرص نجاته منها شبه معدومة، هل تعتبر أعمالا انتحارية أم فدائية.
يسود الاعتقاد بأن أول من لجأ الى تلك العمليات هم اليابانيون ومسماها (الكاميكاز)، وأشهرها ما كان يقوم به الطيار عندما يوقن أن فرصة نجاته معدومة، فيوجه طائرته الى هدف معاد بهدف إيقاع أكبر خسائر به نتيجة لاصطدامه به.
لكن الحقيقة أن أول أعمال فدائية عسكرية كانت تلك التي قام بها المسلمون في فجر الدعوة، وأشهرها كانت معركة مؤتة، والتي هي بالموازين البشرية مغامرة انتحارية، بسب قلة عدد المسلمين مقارنة بالعدو (70:1)، وبما لا يمكن معه إيصال أي مدد أو تزويد لهذه الفئة المنقطعة في عمق أرض العدو، أي أن فرصة نجاة أفراد هذه المجموعة منعدمة واقعيا.
لكن اعتمادهم كان على الله وحمايته، وهو ما أنجاههم وأعادهم سالمين باستثناء اثني عشر اختارهم شهداء عنده يرزقون، لكن عمليتهم هذه اعتبرت رسالة قوية استراتيجيا، إذ رفعت من هيبة المسلمين، وأثارت الذعر في نفوس الجبابرة، فكانت مقدمة لفتح بلاد الشام.
إذا فالفيصل في اعتبار العمل القتالي العالي المخاطرة، فدائيا يثاب فيه فاعله أجر الشهيد، هو أن يكون جهادا في سبيل الله.
من هنا تعتبر الأعمال القتالية ضد العدو أعمالا فدائية استشهادية، بسبب تفوقه العسكري الساحق، وامتلاكه الأسلحة المتطورة والفتاكة، وزيادة على ذلك فهو مسيّج بحماية دولية وإقليمية، لذلك من يصرع ثلاثة بسلاح يدوي بسيط، ما أمكنه ذلك لولا أن الله كان معه حين رمى، فصوب رميه وثبت جنان قلبه، أمام من واجهوه بأسلحتهم الأوتوماتيكية السريعة الطلقات.
المصدر: سواليف
كلمات دلالية: هاشم غرايبه
إقرأ أيضاً:
ملتقى التفسير بالجامع الأزهر: سيظل ما نعلمه عن خلق الإنسان أقل بكثير مما هو موجود في القرآن
عقد الجامع الأزهر، ملتقى التفسير ووجوه الإعجاز القرآني الأسبوعي تحت عنوان "مظاهر الإعجاز في حديث القرآن الكريم عن خلق الإنسان"، وذلك بحضور كل من: الدكتور سلامة داود، رئيس جامعة الأزهر، والدكتور محمود صديق، نائب رئيس جامعة الأزهر للدراسات العليا والبحوث، وأدار الملتقى الأستاذ رضا عبد السلام، رئيس إذاعة القرآن الكريم السابق.
في بداية الملتقى أكد الدكتور سلامة داود، رئيس جامعة الأزهر، أن القرآن الكريم بحر لا ينضب من المعارف والعلوم، وأن آياته تحمل في طياتها من الحقائق العلمية ما يثبت إعجازه يوما بعد يوم، وفيما يتعلق بحديث القرآن عن خلق الإنسان وتكوينه التي لم تكتشف إلا حديثًا، رغم أن القرآن أخبرنا بها منذ قرون عدة، وسيظل ما نعلمه عن خلق الإنسان أقل بكثير مما هو موجود فيه، لأن كلام الله سبحانه الله وتعالى كتاب مفتوح إلى كل الأجيال إلى أن تقوم الساعة.
واستشهد، بقول سهل بن عبد الله: "لو أعطي العبد بكل حرفٍ من القرآن ألف فهم، واستنبط منها ألف حكم، لم يبلغ نهاية ما أودع الله في آيةٍ من كتابه"، مشيرًا إلى أن حديث القرآن الكريم عن خلق الإنسان معجز؛ لأن الحديث عن الإعجاز في خلق الإنسان هو في حد ذاته إعجاز، من خلال الحقائق العلمية التي سبق بها القرآن الكريم العلم الحديث.
وبين رئيس جامعة الأزهر، أن العلم الحديث، على الرغم مما وصل إليه من تقدم، يظل عاجزًا أمام تفسير بعض الأمور، وأنها معلومة ومعروفة في علم الله سبحانه وتعالى، وهو ما بينه قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن أحدكم يُجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما نطفةً، ثم يكون علقةً مثل ذلك ، ثم يكون مضغةً مثل ذلك ، ثم يُرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح ، ويُؤمر بأربع كلمات: بكتابة رزقه ، وأجله ، وعمله، وشقي أم سعيد، فوالله الذي لا إله غيره، إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة ، حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع ، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار ، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع ، فيسبق عليه الكتاب ، فيعمل بعمل أهل الجنة"، وهو ما جاء في القرآن الكريم ﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ۖ هَلْ مِن شُرَكَائِكُم مَّن يَفْعَلُ مِن ذَٰلِكُم مِّن شَيْءٍ ۚ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾، وهذه الآية إشارة إلى أن الله سبحانه وتعالى هو الذي خلق الإنسان ودبر كل شؤونه، وهو ما بينته الآية الكريمة أيضًا: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن طِينٍ ثُمَّ قَضَىٰ أَجَلًا ۖ وَأَجَلٌ مُّسَمًّى عِندَهُ ۖ ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ﴾.
وأشار رئيس جامعة الأزهر إلى أن القرآن الكريم يؤكد على أصل خلق الإنسان من الطين وهو ما بينه قوله تعالى: (ولقد خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ)، وقوله تعالى: ﴿الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ ۖ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ﴾، وهو ما يتوافق مع الحقائق العلمية التي تشير إلى أن العناصر الأساسية المكونة لجسم الإنسان موجودة في الطين، هذه الحقيقة التي اكتشفها العلم الحديث بعد قرون كثيرة من حديث القرآن الكريم عن خلق الإنسان، لافتا إلى أن الإنسان رغم كونه مخلوق من طين، لكن بما أودعه الله فيه من أسرار كرمه الحق سبحانه وتعالى على كل المخلوقات، وفضله على كثير من خلقه وشرفه وكرمه بأن جعله خليفة له سبحانه وتعالى في الأرض.
وأضاف رئيس جامعة الأزهر أن آية: ﴿ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ ۚ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾ تكشف مراحل خلق الإنسان داخل رحم الأم، وهو ما يثبته الإعجاز القرآني الذي سبق العلم الحديث بقرون، حيث تبدأ الرحلة بـ (النُّطْفَةَ)، وهي البويضة المخصبة، التي تتحول بعدها إلى (عَلَقَةً)، ثم تتطور إلى (مُضْغَةً)، ثم (فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا)، هذا الترتيب يوافق ما كشفت عنه الأبحاث العلمية في علم الأجنة، حيث تتشكل الهياكل العظمية للجنين في البداية، ثم تبدأ الخلايا العضلية بالالتفاف حول هذه العظام لتكسوها، وتختتم الآية بعبارة (ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ)، في إشارة إلى نفخ الروح في الجنين، مما يجعله كائنًا حيًا يمتلك إرادة وإحساسًا، وتختتم الآية بتمجيد وتعظيم الله تعالى ﴿فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾، وهو اعتراف بعظمة هذا الخلق ودقته.
كما قال الدكتور محمود صديق، نائب رئيس جامعة الأزهر، لا يزال العلم إلى يومنا هذا لم يكتشف كل ما أثبته القرآن الكريم من إعجاز علمي، وهذه الحقيقة أثبتها قول الحق سبحانه وتعالى: "وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلاً"، وسيظل حديث القرآن الكريم عن خلق الإنسان معجزاً، وهذه الحقيقة عبر عنها الحق سبحانه وتعالى في قوله: “وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ”.
وقد أشار القرآن الكريم إلى حقيقة علمية أخرى وهي أن الله جعل الإنسان في مكان آمن ومحكم لا مثيل له، قال تعالى:" ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ"، تظهر هذه الآية دقة الوصف القرآني، فـ"قرار مكين" هو الرحم، الذي يعد البيئة المثالية والآمنة لتطور الجنين، وعلى الرغم من التطور العلمي الهائل، لا يزال العلماء عاجزين عن ابتكار رحم صناعي يماثل في دقته وفعاليته الرحم الطبيعي، وهذا يعد دليلاً على إعجاز القرآن الكريم وسبقه العلمي، الذي لايزال العلم عاجزا أمام الحقائق العلمية التي سبق بها.
وأكد نائب رئيس جامعة الأزهر، أن التعبير القرآني في قوله تعالى: "فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً"، يعد إعجازا علميا واضحا؛ جيث إن هذا الوصف القرآني يتطابق تمامًا مع ما تظهره الفحوصات والأشعة للجنين في هذه المرحلة، حيث يبدو وكأنه قطعة لحم ممضوغة، وهذا التطابق الدقيق بين الوصف القرآني وما كشفه العلم الحديث يثبت عظمة القرآن الكريم وروعته في التعبير، ويعد دليلاً على أنه كلام الحق سبحانه وتعالى، وفي سياق الإعجاز القرآني حول خلق الإنسان أيضا، جاء قوله تعالى: "فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا"، فقد كان العلماء يظنون أن تكوّن اللحم يسبق العظام، ولكن مع تطور العلم ، اكتشفوا الحقيقة التي أخبر عنها القرآن الكريم قبل أكثر من 1400 عام، وهي أن العظام تتخلق أولًا، ثم يأتي اللحم ليكسوها.
وأشار الدكتور صديق إلى أن السنة النبوية الشريفة قد سبقت العلم الحديث في الحديث عن الإعجاز في خلق الإنسان، وقد جاء هذا في حديث النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنّه خُلقَ كلُّ إنسانٍ من بني آدمَ على ستِّينَ وثلاثمائةِ مِفصلٍ"، وقد ظل هذا العدد لغزًا لم يكتشفه العلم الحديث إلا في عام 2006م، عندما تمكن العلماء من تحديدها على النحو التالي: ١٤٧فصل في العمود الفقري، و١٥ مفصل في الحوض، و٨٨ مفصل في الأطراف السفلية للإنسان، و٨٦ مفصل في الأطراف العلوية منه، و٢٠ مفصل في الرأس، مما يؤكد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتلقى الوحي من الله، وأن ما جاء به من حقائق علمية لا يمكن أن يكون من عند البشر.
يذكر أن ملتقى "التفسير ووجوه الإعجاز القرآني "يُعقد الأحد من كل أسبوع في رحاب الجامع الأزهر الشريف، تحت رعاية فضيلة الإمام الأكبر وبتوجيهات من فضيلة الدكتور محمد الضويني وكيل الأزهر الشريف، ويهدف الملتقى إلى إبراز المعاني والأسرار العلمية الموجودة في القرآن الكريم، ويستضيف نخبة من العلماء والمتخصصين.