كعكة القارة السمراء.. سباق أمريكا وروسيا يشتعل بأفريقيا الوسطى
تاريخ النشر: 12th, September 2024 GMT
تشكل التوترات في أفريقيا الوسطى نافذة على معركة أكبر على النفوذ تدور رحاها في جميع أنحاء القارة السمراء بين موسكو وواشنطن.
وبعد ساعات من تمرد يفغيني بريغوجين قائد مجموعة فاغنر ضد كبار القادة العسكريين في روسيا، أصيب أكبر عميل لجيشه الخاص في أفريقيا بالذعر، ولجأ إلى عدوه في الغرب طلبا للمساعدة، وفقا لوكالة “أسوشيتدبرس” الأمريكية.
إذ كتب مسؤولون من جمهورية أفريقيا الوسطى، حيث يتمركز نحو 1500 من مجموعة فاغنر، رسالة في ذلك اليوم، يطلبون فيها ترتيب اجتماع “سريع” مع شركة أمنية أمريكية خاصة تسمى “بانكروفت جلوبال ديفيلوبمنت” لمناقشة التعاون.
هذا الطلب دفع الولايات المتحدة -التي كانت منفصلة إلى حد كبير عن المنطقة لسنوات- إلى محاولة الحفاظ على وجودها ووقف المكاسب الروسية، عبر دفع الدول الأفريقية إلى “النأي نفسها عن المرتزقة الروس”.
ويرى صامويل راماني -زميل معهد رويال للخدمات المتحدة، مركز أبحاث دفاعي وأمني- أنه “إذا لم تتمكن الولايات المتحدة من استعادة موطئ قدم فقد يمنح ذلك روسيا نفوذا اقتصاديا وسياسيا أكبر”.
قبل أن يتابع “إذا خسرت روسيا جمهورية أفريقيا الوسطى، نموذجها الرائد في القارة، فقد يكون لهذا تأثير الدومينو في بلدان أخرى”.
النفوذ الروسي
برزت روسيا في السنوات الأخيرة كشريك أمني مفضل لعدد متزايد من الحكومات في المنطقة، مما أدى إلى خروج حلفاء تقليديين مثل فرنسا والولايات المتحدة.
ووسعت موسكو تعاونها العسكري مع القارة باستخدام مرتزقة مثل فاغنر، الذين عملوا فيما لا يقل عن ست دول منذ نحو عام 2017، وهم مكلفون بحماية القادة الأفارقة وفي بعض الحالات المساعدة في محاربة المتمردين والمتطرفين.
وكانت أفريقيا الوسطى واحدة من الأماكن الأولى التي دخلتها “فاغنر”، ولقيت ترحيبا من السكان المحليين والحكومة لجهودها في محاربة المتمردين الذين حاولوا الاستيلاء على بانغي (العاصمة) في عام 2021.
وسرعان ما توسع الروس إلى بوركينا فاسو والنيجر.
ضغوط أمريكية
مارست الولايات المتحدة ضغوطا على جمهورية أفريقيا الوسطى لسنوات لإيجاد بديل لفاغنر، لكن هذه الضغوط لم تسفر عن تقدم ملموس يذكر، وفقا لمسؤول أمريكي مطلع على المحادثات، اشترط عدم الكشف عن هويته بسبب سرية المناقشات الجارية.
ما هي بانكروفت؟
وتتخذ بانكروفت من واشنطن مقراً لها، وهي شركة غير ربحية تعمل في تسع دول، خمس منها في أفريقيا، وأقدم وجود لها في الصومال، إذ تعمل منذ أكثر من 15 عاما لتدريب القوات الصومالية لمحاربة جماعة الشباب الإرهابية.
وأحيط دخول بانكروفت جمهورية أفريقيا الوسطى في العام الماضي بالسرية، حتى ظهور مؤشرات على وجودها الخريف الماضي.
ووفقا لمؤسس بانكروفت مايكل ستوك فإن المجموعة “دخلت أفريقيا الوسطى بناءً على طلب بانغي”.
يأتي جزء كبير من التمويل الإجمالي لبانكروفت من المنح الأمريكية والأمم المتحدة، وخلال الفترة من عام 2018 إلى عام 2020 تلقت أكثر من 43 مليون دولار من الولايات المتحدة.
لكن محللين مثل أمل علي، محللة الاستخبارات الأمريكية السابقة، قالت إنه على الرغم من وجودها لسنوات في الصومال فإن بانكروفت لم تسهم في أي استئصال حقيقي للإرهاب.
مستقبل غير واضح
مع تنافس الولايات المتحدة وروسيا على كعكة القارة السمراء تقول الحكومات الأفريقية إنها تريد اتخاذ خياراتها الخاصة.
وفي جمهورية أفريقيا الوسطى لا يزال مدى النفوذ الذي تتمتع به الدولة الروسية على المرتزقة الروس -الذين يحبهم الكثيرون ويندمجون في المجتمع ويصنعون البيرة ويزورون الأسواق- غير واضح.
وبالنسبة للكثيرين كان بريغوجين بطلاً قومياً في البلد الأفريقي، إذ يقف الناس عند نصب تذكاري للجنود الروس في وسط المدينة، ويضعون الزهور عند قدميه احتراماً له، بعد عام من وفاته.
لكن غالبية سكان جمهورية أفريقيا الوسطى لا يبدون اهتماما بالصراع بين الدول الأجنبية.
ويقول جان لويس يت، الذي يعمل في سوق بانغي: “هناك مشاكل بين الأمريكيين والروس، لكن هذا لا يهمنا، نحن هنا نعمل، ونبذل قصارى جهدنا لكسب لقمة العيش، كل ما نريده هو الأمن”.
العين الاخبارية
إنضم لقناة النيلين على واتسابالمصدر: موقع النيلين
كلمات دلالية: جمهوریة أفریقیا الوسطى الولایات المتحدة
إقرأ أيضاً:
الولايات المتحدة الأمريكية والمجال الحيوي
تُعد نظرية المجال الحيوي (Lebensraum) من أكثر المفاهيم الجيوسياسية إثارة للجدل، لارتباطها بالممارسات التوسعية لألمانيا النازية. وتعود جذورها إلى فريدريك راتزل الذي رأى الدولة ككائن حي يحتاج لمساحة للنمو. لكن كارل إرنست هاوسهوفر حوّل هذا المفهوم الوصفي إلى أداة سياسية تبرر التوسع والهيمنة والاستحواذ على موارد الشعوب الأضعف لضمان الاكتفاء الذاتي من الموارد.
إن إعادة قراءة هذا المفهوم في سياق السياسة الأمريكية المعاصرة، خاصة مع طموحات إدارة دونالد ترامب، خطوة ضرورية لفهم الدوافع الجيوسياسية الخفية.
أولاً، كشفت مساعي ترامب لضم كندا وجرينلاند وبنما عن عقلية توسعية غير تقليدية. لم يكن الهدف غزواً عسكرياً، بل "شراء" أو استحواذ لتأمين الموارد الاستراتيجية (جرينلاند)، وتعزيز الأمن القومي (قناة بنما)، وتوسيع النفوذ الاقتصادي. هذه الرغبة في "تأمين" أصول جغرافية خارج الحدود التقليدية تحمل في طياتها روح التوسع لضمان المجال الحيوي.
ثانياً، تُعزز أزمة الاقتصاد الأمريكي، التي يبرزها بلوغ الدين العام مستويات غير مسبوقة تلامس 38 تريليون دولار بحلول نهاية عام 2025. في ظل هذه الضغوط المالية وتحديات الحفاظ على الرفاهية الداخلية، تتحول النظرة للخارج كحل محتمل. هذا يتجلى في البحث عن مصادر جديدة للموارد الرخيصة، أو فتح أسواق جديدة، أو تقليل التبعية الاقتصادية لمنافسين.
وهذا يعكس حاجة ضمنية لـ"مجال حيوي اقتصادي" يضمن استمرارية الازدهار ويقلل نقاط الضعف، حتى لو تطلب نفوذاً سياسياً واقتصادياً على حساب الآخرين.
ثالثاً، تتضمن خطط أمريكا الاستراتيجية، في الدفاع والتجارة والتكنولوجيا، عنصراً قوياً للهيمنة العالمية. السيطرة على سلاسل التوريد الحيوية، تأمين مصادر الطاقة، نشر القواعد العسكرية في مناطق استراتيجية، وفرض المعايير التعريفات الجمركية، كلها أشكال معاصرة لتأمين "المجال الحيوي" الذي يتجاوز الحدود الوطنية. الحفاظ على مركزية الدولار وهيمنة الشركات التكنولوجية الأمريكية جزء من هذا "المجال الحيوي" غير الإقليمي.
رابعاً، يؤثر هذا السعي على شكل المستقبل والنظام العالمي. في عالم يتجه نحو التعددية القطبية، قد تسعى القوى العظمى، ومنها الولايات المتحدة، لتعزيز "مجالها الحيوي" عبر كتل اقتصادية أو تحالفات عسكرية، مما يؤدي إلى تزايد التنافس الجيوسياسي وصراعات بالوكالة.
خامساً، تمثل هذه التحركات التمهيد للاستعمار الجديد. فبدلاً من الاحتلال المباشر، يتجسد في السيطرة الاقتصادية والسياسية غير المتكافئة، والتدخل في شؤون الدول السيادية عبر القوة الناعمة والخشنة. عندما تسعى دولة قوية لتأمين موارد أو ممرات استراتيجية عبر صفقات غير متكافئة، فإنها تعيد صياغة مفهوم "المجال الحيوي" في قالب معاصر يحقق أهداف الهيمنة الأساسية.
في الختام، توفر دراسة مفهوم المجال الحيوي في سياق هاوسهوفر عدسة نقدية لتحليل الدوافع التوسعية غير المباشرة. السعي الدائم لأي قوة عظمى لضمان أمنها وازدهارها عبر السيطرة على الموارد والأسواق والمناطق الاستراتيجية يعكس جوهر هذا المفهوم السياسي، حتى وإن اتخذ أشكالاً أكثر تطوراً وتخفياً في القرن الحادي والعشرين. الواجب النقدي يكمن في كشف هذه الدوافع، وفهم تأثيرها على الاستقرار العالمي ومستقبل العلاقات الدولية.