ثورة 21 سبتمبر في ميزان الفكر
تاريخ النشر: 20th, September 2024 GMT
كان العرب في القرن العشرين صورة مماثلة للماضي الذي جثم على صدورهم منذ القرن السادس عشر الميلادي يعيشون واقعا مريرا ومآسي كثيرة وأوضاعا معقدة سواء في الجانب المادي اليومي, أو الرمزي الحياتي، ووصل الركود والجمود إلى المقدس، والوجدان، واللغة، والتقنية، أي أن الواقع كان يتسم أو يمتاز أنه واقع مأزوم، تاريخه معطل وغير مكتمل، منذ سقوط بغداد في القرن الثالث عشر الميلادي إلى القرن العشرين، وهو تاريخ يمتد لقرون لم يعرف العرب فيه طعم الاستقلال الحقيقي، ولا معنى الحرية الكاملة، ولم يصلوا إلى زمنهم التحرري الذي اتسم به النصف الأول من القرن العشرين إلا بعد حروب وأزمات ونضالات وتضحيات، وبعد هدر كبير للطاقات المادية، والبشرية، والثقافية، والرمزية, والنفسية، وبالرغم من كل ذلك إلا أن العرب لم يصلوا إلى مبتغاهم في التصالح مع التاريخ الذي يحقق لهم القدر الكافي من التوازن في العلاقات مع الآخر، أو في فك الإشكاليات بين قضايا شائكة مثل الأصالة والمعاصرة، والتراث والتاريخ، ولذلك لم تكتمل نهضتهم بفعل عوامل المستعمر وتداخله في صناعة واقعهم، فقد رحل المستعمر عن الديار العربية شكلا، وظل يتحكم بالمصير العربي وبمصادر الطاقة ضمنا، ولذلك نقول أن التاريخ قد مكر بالعرب ولم يتحقق لهم الاستقلال .
فالثورة الحقيقية هي التي تحمل مشروع دولة، ومشروع مجتمع، وتكون على قدر من التحرر من الغرب، ومن الماضي، لتبدع وتبتكر واقعا جديدا، يمتاز بالاستقلال والمعرفة، والخصوصية التي تكون تعبيرا عن العرب والمسلمين, وعن هويتهم الثقافية والحضارية، ذات رؤية في البناء الذي يقضي على الشتات السياسي، ويحاول إنجاز القوة الاقتصادية والديمغرافية في عالم أصبح ينمو بسرعة البرق في اتجاه التكتلات السياسية والاستراتيجية الكبيرة والفاعلة في القرارات الإنسانية الكبرى من حروب وسياسات وثقافات وغيرها من الأدوات القادرة على الإقصاء والإضعاف .
ولذلك ليس من الصواب تحليل الوعي المجتمعي اليوم ، من خلال مواقع طبقية أو إيديولوجية واحدة، لأنه سيكوّن قراءة منحازة ، فنحن نخطئ إذا استنتجنا أن الأفكار التي تحرك الفرد موجودة في الفرد وحده، فالتفكير يقوم به الناس في جماعات معينة، وضمن سياقات كانت قد طورتها لنفسها كأسلوب خاص في التفكير، وهو ما يمكن اعتباره تشكلًا لـ “هوية ثقافية”. وبعض المفكرين يرى أن الناس يعيشون في جماعات وليس كأفراد منفصلين، بل يتصرفون مع أو ضد بعضهم، ضمن جماعات متنوعة التنظيم.
ولا بد أن نعي أن الربيع العربي عمل على تفكيك النظام العام والطبيعي في بنية المجتمع وهو الأمر الذي عزز من الهويات التاريخية والثقافية وأنتج كيانات في ظاهرها الجدة والعصرنة، وفي كوامن جوهرها الامتدادات التاريخية التي تحاول إعادة التكيف مع الواقع الجديد، ولن تكون تلك الكيانات الجديدة إلا كيانات متصارعة تبحث عن الوجود والبقاء والحفاظ على القيمة والمعنى.
لقد أظهر المثقف العضوي «الأحزاب والمنظمات» فشلاً ذريعاً في صناعة واقع أجد يتوازى وأحلام وتطلعات الناس، ذلك لأنه يتمحور حول الأيديولوجيا ولم يتجدد، وتبعاً لذلك، فقد عجز عجزاً كاملاً عن ضبط إيقاع المفهوم وشاعت في ممارسته وتعاطيه وتفاعله مع الأحداث الفوضى (سقوط الأيديولوجيا) والفوضى لا تصنع مستقبلاً آمناً ومستقراً ولكنها تمهد الطريق للماضي لكي يتمظهر بمظاهر الثورية والتطلع، ولا تجد نفسها – أي الفوضى – إلا في موقف المبرر والمدافع، ومثل ذلك أصبح ملحوظاً ولا يمكن تجاهله، وغياب المثقف الحقيقي والفرد كان نتاج واقع تم تكريسه في الوجدان الجمعي لا يحتفي إلا بالشكل والأدعياء دون النفاذ الى جوهر الأشياء لذلك كان المهاد لثورة 21سبتمبر كضرورة تعيد نسق النظام العام والطبيعي إلى سياقه فقد فرضت الضرورة نفسها ومهدت لقيام الثورة .
وحتى تتمكن ثورة 21من سبتمبر من إحداث متغير في الصورة النمطية التي تسيطر على أذهان الجماعات والفرق ضد بعضها البعض في اطار مشروعنا الإسلامي علينا أن نحدث قدرا من تفريغ الطاقات الانفعالية بما يخدم فكرة التوحيد لا الشتات وبما يعزز من قيمة الأمة لا بما يضاعف من شتاتها ويعيق تقدمها ونهضتها ولذلك من الحكمة أن تدير حوارا توافقيا يلبي مقاصد الإسلام وفي السياق يذيب كتل الجليد بين الجماعات والفرق ويفتح بابا من التقارب والتوحيد في الطاقات حتى تكون عصية وصامدة في تقبل مشاريع الاستهداف التي تنال من الأمة ومن وحدتها ومن هويتها الحضارية والإيمانية والثقافية .
ولا بد من الاهتمام بدور المثقف الحقيقي، فغيابه دال على غياب البعد الحضاري، إذ أن ثمة تلازماً عضوياً بين البعد الحضاري والنهضة الفكرية والثقافية والإبداعية، وسياقات التاريخ تحدثت عن ذلك التلازم، فالبعد الحضاري لم يكن إلا نتيجة لمقدمات موضوعية ومنطقية، واستقرار الأوطان يظل رهن وعي نخبها، ويقظة الهويات التاريخية لن تكون إلا رهن الممارسات الخاطئة التي تقوم بها الأنظمة، لذلك فإن دعوات فك الارتباط التي شاعت في الخطاب السياسي ليست إلا نتيجة لمقدمات خاطئة، واتساع دائرة تلك الدعوات في اليمن، ضاعف من الشعور بالتفرد والاستقلالية ويضاعف من الإحساس بالضيق بالآخر، وهو الأمر الذي يصطلح عليه بـ«تجزئة الهوية الوطنية» ومظاهر تجزئة الهوية دالة على وجود خلل في المنظومة الاجتماعية والثقافية والسياسية، لذلك فتفعيل دور المثقف الفرد والنوعي وتفاعله الإيجابي ومشاركته قد تخفف من وطأة الأحداث وتحد من امتدادها وتساعد في لملمة المتناثر، لوعيه ولأهميته العضوية ولإدراكه لنتائج المقدمات والقرارات وهو الدور الذي لا بد أن تجهد ثورة 21 سبتمبر للقيام به حتى تبدع واقعا ثوريا يمتاز بالجدة ويعمل على تمتين عناصر النهضة ويتفاعل مع المستويات الحضارية المعاصرة .
المصدر: الثورة نت
إقرأ أيضاً:
كيف أشعل شي ثورة الكهرباء في الصين ؟
ترجمة - قاسم مكي
عندما تولي شي جينبينج قيادة الحزب الشيوعي الصيني في أواخر عام 2012 حدد بسرعة نقطة ضعف في الأمن القومي لبلاده، كانت الصين قد تخطت لتوِّها اليابان لتصبح ثاني أكبر اقتصاد في العالم وتتحول بسرعة إلى القوة العظمى المسلحة نوويا والمنافِسة الرئيسية للولايات المتحدة، لكنها بسكانها الذين بلغ عددهم 1.4 بليون نسمة كانت تعتمد بشدة على البلدان الأجنبية في الحصول على موارد الطاقة.
ارتفع معدل اعتماد الصين على واردات النفط والفحم الحجري إلى مستويات قياسية، وجعلها ذلك عُرضة لانقطاعات محتملة في الإمدادات عبر "نقاط الاختناق" في ممرات التجارة بداية من المناطق المتنازع حولها في مضيق تايوان وإلى بحر الصين الجنوبي ومضيق ملقة والمحيط الهندي.
اليوم ومع الاضطراب الذي يتعرض له العالم من حرب ترامب التجارية تختلف نظرة الحزب الشيوعي الصيني كثيرا، فالصين في سبيلها إلى أن تصبح أول "دولة كهربائية" في العالم بحصة متزايدة من الطاقة التي تحصل عليها من الكهرباء وباقتصاد تحركه باطراد التقنيات النظيفة، هذا الوضع يحميها من آثار فك ارتباطها بالتجارة العالمية وتصاعد التوترات الجيوسياسية مع الولايات المتحدة.
الصين لا تتقدم بسرعة نحو الاكتفاء الذاتي في الطاقة من موارد محلية آمنة فقط بل تبسط أيضا نفوذا كبيرا في أسواق الموارد والمواد التي ترتكز عليها تقنيات المستقبل.
يقول أندرو جيلهولم رئيس تحليل شؤون الصين بالشركة الاستشارية كونترول ريسكْس: "لم يشعر أي بلد بقلق حقيقي تجاه أمن الطاقة أو سلاسل التوريد الخاصة بالتسلح والصناعات الحساسة والغذاء لاعتقاد كل أحد أن هذه المخاوف اختفت مع نهاية الحرب الباردة، لكن الصين كانت تتحسب لذلك منذ سنوات".
الثورات الصناعية السابقة قادتها بريطانيا أولا ثم الولايات المتحدة بما في ذلك ما يسمي عصر المعلومات مؤخرا جدا، لكن الصين هي التي تقود الآن أحدث ثورة تقنية عالمية في الكهرباء والطاقة المتجددة، حسبما يقول المحللون في مركز أبحاث الطاقة الأمريكي "آر أم آي" ومجموعات الأبحاث المستقلة الأخرى.
بالضبط كما يحرك النفط والغاز اقتصاد الدولة النفطية كذلك تساهم تقنيات الطاقة النظيفة بقدر كبير في نمو الصين، وهذا وضع ترحب به بكين على نحو خاص في سياق تباطؤ الاقتصاد، فقطاعات الطاقة النظيفة شكلت نسبة قياسية تبلغ 10% من الناتج المحلي الإجمالي للصين وكانت وراء تحقيق 25% من نموها في العام الماضي، وفقا للإحصاءات الحكومية الرسمية التي حللها مركز أبحاث الطاقة والهواء النظيف في هيلسنكي.
بخلاف أمن الطاقة، ستلعب الكَهْرَبَة (إشاعة استخدام الكهرباء - المترجم) دورا حاسما في جهود معالجة التغير المناخي، ويُقصد بالكهربة تحديدا استبدال التقنيات والعمليات المعتمدة على الوقود الأحفوري بالبدائل التي تُدار بواسطة الكهرباء.
يقول اللورد أدير تيرنر رئيس لجنة تحولات الطاقة وهي تحالف شركات عالمية تركز على الحياد الكربوني: نحن لا نرى سبيلا يقود إلى اقتصاد الحياد الكربوني إلا عبر "الكهربة" واسعة النطاق، ويقول أيضا: الكهرباء أكثر كفاءة إلى حد بعيد في عدد من الاستخدامات، خصوصا في النقل البري والتدفئة المنزلية.
تظل الصين أكبر منتج لغاز الاحتباس الحراري في العالم وبلغت انبعاثات قطاع الطاقة بها مستوى قياسيا جديدا في العام الماضي بسبب ارتفاع استهلاك الفحم الحجري، لكن إنجازاتها في مجال إشاعة الكهرباء يعني أنها ستحقق تقدما كبيرا في خفض الانبعاثات إذا بدأت في الخفض التدريجي لاستخدام الفحم الحجري والذي لا يزال الوقود المهيمن في مزيج الكهرباء لديها على الرغم من ازدياد الإضافات في الطاقة التوليدية للموارد المتجددة.
ثورة الكهرباء صدر أول أمر مباشر من الزعيم الصيني شي "لتثوير" نظام الطاقة في الصين في منتصف 2014 وبعد عامين من قيادته، وحسب وسائل الإعلام الحكومية وقتها أبلغ شي قادة الصين في مجموعة عمل اقتصادية رئيسية للحزب الشيوعي أن نظام الطاقة الصيني يعاني من "تخلف تقني" وعلى الصين تعزيز نظام طاقتها.
ارتكزت الرحلة التي تحولت بها الصين إلى مركز اقتصادي على النفط والفحم الحجري، فقد شكل طلبها أكثر من نصف نمو الطلب العالمي على النفط لعقود عديدة، مع ذلك وحتى قبل عقد كان معدل "كهربة" الصين أكبر من معدلاته في أوروبا والولايات المتحدة، ومنذ ذلك الوقت استقرت حصة الكهرباء من الاستهلاك النهائي للطاقة في هذه الاقتصادات المنافسة عند حوالي 22% في حين إنها ارتفعت في الصين إلى 30%.
تقول ماري كلير برسبوا أستاذة سياسات الطاقة بجامعة ساسيكس: "تكرس بلدان غربية عديدة الكثير من الوقت والاهتمام للتخلص من الكربون في توليد الكهرباء لكنها تتخلف في نظام الكهربة الأوسع نطاقا". وتضيف: "لقد ثبت أن بكين يمكنها بسهولة استيفاء المطلوبات الرئيسية للكهربة كالتعديلات الهيكلية في السوق وتغيير سلوك المستهلك والتدخلات في قرارات الشراء الخاصة".
تعكس إنجازات الصين سياسات متتالية تهدف إلى الوفاء بدعوة "شي" إلى تحقيق ثورة في الطاقة، فقد ضخت بكين بلايين الدولارات في قطاع التقنية النظيفة للمطوِّرين في القطاعين الحكومي والخاص وما يساوي تقريبا خمسة أضعاف الإنفاق في الولايات المتحدة و15 ضعفا في اليابان.
دشن ذلك مرحلة جديدة شهدت نموا سريعا للشركات التي تتولى تصنيع توربينات الرياح وألواح الطاقة الشمسية والبطاريات وتلك التي تطور
مشروعات الطاقة الخضراء وسرَّعَت من وتيرة "كهربة" أسطول السيارات والشاحنات والقطارات والسفن والمصانع في الصين.
أوضح تجلِّ لهذا النمو يتمثل في ازدهار السيارات الكهربائية في الصين، ففي هذا العام ستصل مبيعات السيارات الكهربائية المحلية (بما في ذلك السيارات الكهربائية والهجين) إلى حوالي 12.5 مليون سيارة أو أكثر من ضعف مبيعاتها في عام 2022، وستكون هذه أول مرة تتفوق فيها مبيعات السيارات الكهربائية على مبيعات سيارات الاحتراق الداخلي في سوق رئيسية للسيارات.
عزز الانطلاق في مسار الكهربة التوسع السريع في شبكة السكك الحديدية الحديثة، فحسب البيانات الرسمية سجلت سكك حديد الصين أكثر من 4 بلايين رحلة راكب في العام الماضي وهذا رقم قياسي في ارتفاعه.
تغطي شبكة السكك الحديدية عالية السرعة 45 ألف كيلومتر أو خمسة أضعاف حجمها في بلدان الاتحاد الأوروبي، ومن المتوقع أن تتوسع إلى 60 ألف كيلومتر بحلول عام 2030، كما تتوقع مجموعة السكك الحديدية الحكومية هذا العام إكمال مشروعات استثمارية في البنية التحتية لسكك الحديد بتكلفة تزيد على 80 بليون دولار.
لكن ربما الركيزة المركزية لخطط "كهربة" الصين هي خطتها التي تمتد لعقود وتستهدف ترقية وتوسيع شبكة الكهرباء، فمن المتوقع أن تنفق الصين ما يصل إلى 800 بليون دولار بحلول عام 2030 لتحديث عتاد وبرمجيات الشبكة.
الإنفاق على البنية التحتية للكهرباء في بلدان عديدة يتتبع خطى النمو الاقتصادي، لكن كين ليو رئيس أبحاث الموارد المتجددة والطاقة ببنك يو بي إس يتوقع ارتفاع إجمالي الإنفاق الرأسمالي على شبكة الكهرباء بنسبة 10% هذا العام، وسيستمر الصرف على الشبكة بمعدل نمو سنوي مركَّب يبلغ حوالي 5% حتى عام 2030، وهذا معدل أسرع كثيرا من النمو الاقتصادي المتوقع "بسبب الاتجاه إلى الكهربة"، حسبما يقول.
يبلغ هذا الإنفاق المخطط على شبكة الكهرباء 100 بليون رينمينبي (13.8 بليون دولار) هذا العام و110 بلايين رينمينبي في السنوات التالية، ومن المتوقع تخصيص جزء كبير منه لخطوط الكهرباء فائقة الجهد، حسب بنك يو بي أس، لدى الصين أكثر من 40 خطا من هذا النوع وهو ما يعني أن الكهرباء المنتجة من أشعة الشمس والرياح في صحرائي شينجيانغ وغانسو في الغرب يمكن نقلها إلى مراكز الصناعات في جنوب وشرق الصين حيث تتركّز الحاجة إليها.
الصين بهذه الاستثمارات الحكومية طويلة الأجل في شبكة الكهرباء في سبيلها إلى توليد 50% من إمدادها الكهربائي من موارد طاقة منخفضة الكربون بما في ذلك أنظمة التوليد المائي والكهروضوئي وتوربينات الرياح والطاقة النووية وتخزين البطاريات بحلول عام 2028، وبعد 10سنوات لاحقا ستكون طاقة توليد الكهرباء من الرياح وأشعة الشمس في طريقها إلى بلوغ نقطة تحول تاريخية تتجاوز بها توليد الكهرباء من الفحم الحجري لأول مرة.
تقنيات وسياسات جديدة
شكَّل التوجه نحو "الكهربة" سياسة الصين الصناعية حيث تنفق مجموعة قليلة من شركات كهرباء الطاقة الشمسية الرائدة هناك بلايين الدولارات كل عام في البحث والتطوير، ويشمل هذا المسعى تحولا من البوليسيلكون اللازم لإنتاج ألواح الخلايا الضوئية والتي تهيمن الصين على 80% من سوقها إلى مواد جديدة يمكن أن تشكل اختراقا تقنيا مثل خلايا البيروفسكايت الكهروضوئية، وهي أنحف بنحو 20 مرة من البوليسيلكون.
على نحو مماثل، في مجال التوليد بالرياح تتنافس حفنة من الشركات الصينية لإنتاج توربينات أكبر حجما بتكلفة أقل، ففي سبتمبر الماضي أعلنت مجموعة مينغ يانغ ويند باوار ومقرها غواندونغ عن أكبر توربينة رياح بحرية في العالم بطاقة توليد تبلغ 20 ميجاواطا قرب منتجع جزيرة هاينان أو ما يساوي ضعف إنتاج أكبر توربينات طورها المهندسون الأوروبيون والأمريكيون قبل 10 سنوات فقط، وبعد شهر لاحقا ذكرت شركة دونغ فانغ اليكتريك في تشنغدو أنها صنعت توربينة أكبر في فوجيان جنوب شرق الصين.
قلَّص هذا التنافس تكلفة مشروعات الرياح البحرية عند احتسابها بالدولار لكل ميجاوات/ساعة من 95 دولارا في عام 2020 إلى 55 دولارا في العام الماضي، وهو ما يعني تكلفة إنتاج أقل مقارنة بالفحم التقليدي، حسبما توضح بيانات وود مكنزي الاستشارية.
الحكاية شبيهة مع تخزين الطاقة الكهربائية، فأكبر مجموعتين لإنتاج البطاريات في الصين وهما كاتل وبي واي دي تموِّل كل منهما بحوالي 5% من إيراداتها السنوية (50 بليونا و100 بليون دولار على التوالي في العام الماضي) جهودَ تحقيق تحسينات تدريجية في أحدث المواد والعمليات الكيمائية والتصنيعية إلى جانب الأبحاث التأسيسية، وأدت مكاسبهما التقنية إلى جانب منافع التوسع في اقتصاديات الحجم الكبير إلى تخفيضات حادة في تكلفة بطاريات الليثيوم لكل من السيارات الكهربائية وتخزين البطاريات.
إلى ذلك، يجري دعم هذه السياسات الناجحة بإقامة نظام يرتكز على السوق لنقل الكهرباء عبر أقاليم الصين، وفي تحرك يشكل نقطة تحول قررت بكين إخضاع مشروعات الطاقة المتجددة الجديدة لأسعار السوق اعتبارا من شهر يونيو هذا العام، ومن المتوقع أن يكون هنالك بعض التأثير السلبي في الأجل القصير لهذه السياسة على بعض المشروعات الكبيرة لطاقة الشمس والرياح والبطاريات مع تضمين الأسعار الجديدة في حسابات خطط الاستثمار، لكن استحداث أسواق الكهرباء التنافسية (بمعني وضع كهرباء الوقود الأحفوري والموارد المتجددة في تنافس سعري مباشر) يُنظر إليه كخطوة ضرورية في الخفض التدريجي للكهرباء التي يتم توليدها بواسطة الفحم الحجري والغاز خلال العقود القادمة.
موقف الصين تجاه الوقود الأحفوري غير واضح بشكل قاطع، فمن جهة هنالك مؤشرات بأنها على وشك بلوغ الذروة في الطلب على النفط بعد تراجع الواردات في العام الماضي لأول مرة منذ عقود باستثناء فترة الجائحة، لقد ذكر المحللون بالوكالة الدولية للطاقة أن الاستخدامات التي تنطوي على حرق الوقود الأحفوري في الصين استقرت مع احتمال "محدود جدا" لنموّها في المستقبل، وهذا اتجاه مدفوع إلى حد كبير بواسطة تبني السيارات الكهربائية في قطاع النقل وتحول الصين التدريجي من الصناعة التحويلية إلى النمو الأكثر ارتكازا على الخدمات.
لكن في العام نفسه بدأت الصين بناء محطات كهرباء تستخدم الفحم الحجري يزيد عددها عن تلك التي شيدتها سنويا خلال عقد، وفقا لمنظمة جلوبال أنيرجي مونيتور، وهي تستمر في تمويل مشروعات كهرباء الفحم الحجري في الخارج على الرغم من تعهد الرئيس شي في عام 2021 بأنها ستكفّ عن ذلك.
مع ذلك عقب تعهد شي "المزدوج" ببلوغ ذروة انبعاثات الكربون في الصين قبل عام 2030 وتحقيقها الحياد الكربوني بحلول عام 2060 من المتوقع ازدياد استخدام هذا الوقود الأحفوري بمرور الوقت كاحتياط لنظام الكهرباء الذي تهيمن عليه الموارد المتجددة.
تقول يانمي شيه وهي خبيرة مستقلة في السياسة الصناعية الصينية: "قلل العالم من تقدير مدى انخفاض تكلفة كهرباء الطاقة المتجددة في الصين"، وتضيف: "الصينيون في الواقع سمحوا بتسعيرها وفقا للسوق ثقة منهم بأنها تنافس من حيث التكلفة كهرباء الطاقة التقليدية"، وحسب مركز أبحاث الطاقة "أر إم آي" أسعار الكهرباء المنخفضة ضرورية أيضا "للكهربة" كما هي عليه الحال في الصين، فقد زادت الأسعار المنخفضة من وتيرة استخدامها هناك، ويوضح تحليل المركز أن البلدان التي تفشل في خفض الأسعار ستواجه مصاعب في إشاعة استخدام الكهرباء.
يقول دان والتر وهو أحد معدي تقرير مركز أبحاث الطاقة آر أم آي ويعمل الآن مع مركز الأبحاث إمبر: "إنها قاعدة اقتصادية بسيطة جدا، فإذا كان سعر شيء ما مرتفعا ستقلل استخدامك منه".
وفي حين تعزز السياسة الصناعية في الصين أمن الطاقة والموارد إلا إنها أيضا قادت إلى التوسع المفرط في السعة الإنتاجية وأضرت بمنافسين أجانب لا حصر لهم وساهمت في اختلال توازن التجارة.
وفقا لبيانات من شركة وود ماكينزي، القدرة الإنتاجية لصناعة التقنية النظيفة في الصين تفوق بقدر كبير الطلب المحلي، أدى ذلك إلى هبوط مذهل في الأسعار لكنه أيضا أثار مزاعم من واشنطن وبروكسل بأن بكين انتهكت قواعد التجارة الدولية خلال سنوات من الدعم الحكومي غير النزيه.
قادت تخمة الإمدادات الهائلة في منتجات الطاقة الشمسية مثلا إلى امتلاء المستودعات وعجزها عن استيعاب المزيد، وصارت الألواح الكهروضوئية الصينية متدنية الجودة تُستخدم في بناء الأسوار في أوروبا، ولم ينتبه واضعو السياسات في بكين إلى هذا التناقض في السياسة الصناعية، بمعنى إنها يمكن أن تقود إلى إهدار هائل في الموارد وأيضا إلى نجاحات استراتيجية.
تفوق صيني "مفيد وخطِر"
تتوقع أليسا هورهاجر كبيرة ممثلي اتحاد الصناعات الألمانية (بي دي آي) والمقيمة ببكين أن يكثف مسؤولو التخطيط الاقتصادي في الدولة الصينية جهودهم لمعالجة "الانفصام" بين الابتكار والكفاءة في الصناعة في خطة الخمس سنوات القادمة والتي من المتوقع كشف النقاب عنها في أوائل عام 2026.
تقول: "هذا سيكون أحد التحديات الرئيسية التي سيحاولون علاجها من خلال الربط بين تعزيز الابتكار ورفع الإنتاجية".
هنالك إدراك متزايد في أوساط صانعي السياسات الغربيين بأن مجاراة سلاسل توريد تقنية الطاقة النظيفة قد تكون مستحيلة، فقد أنفقت الصين عقودا في تأمين الوصول إلى الموارد الحيوية في العالم وتشييد البنية التحتية للمعالجة والتكرير والدعم الحكومي للصناعة والاستهلاك المحليين، وهي الآن تهيمن على كل مراحل سلسلة التوريد من المناجم إلى المصانع.
حسب بحث نشر في العام الماضي بواسطة مركز "أيد داتا" بكلية ويليام آند ميري في الولايات المتحدة، أصدرت كيانات صينية قروضا بقيمة تقارب 57 بليون دولار في الفترة من 2000 إلى 2021 لتأمين الحصول على معادن حيوية كالنحاس والكوبالت والنيكل والليثيوم والمعادن النادرة من أرجاء العالم العامي، والآن توظف الصين هذه الهيمنة وتزيد من تصدير قدراتها في مجالات التقنية النظيفة والهندسة وسلاسل التوريد والتمويل.
كما تستخدم بكين على نحو متزايد نجاحها في مجال الطاقة الخضراء لادعاء التفوق الأخلاقي على البلدان الغربية المنافسة لها، خاطب شي جينبينج اجتماعا افتراضيا لزعماء العالم عقدته الأمم المتحدة في أبريل بقوله "منذ إعلاني عن أهداف الصين المتعلقة بذروة الكربون والحياد الكربوني قبل خمس سنوات أنشأنا نظاما للطاقة المتجددة هو الأكبر والأسرع نموا في العالم إلى جانب سلسلة صناعية للطاقة الجديدة هي الأكبر والأكثر اكتمالا".
ووفقا لإعلانات الشركات والبيانات المالية التي قام بتجميعها مركز الطاقة والتمويل المناخي في سيدني، خصصت الشركات الصينية منذ بداية عام 2023 حوالي 156 بليون دولار للاستثمار الأجنبي المباشر المتجه إلى الخارج عبر أكثر من 200 صفقة تتعلق بالتقنية النظيفة، هذه الجهود تعظِّم النفوذ الاقتصادي والسياسي العالمي لبكين في تزامن مع سعي إدارة ترامب إلى فك الارتباط بسلاسل التوريد الصينية وزعزعة التجارة العالمية.
يقول تيم بَكلي مدير مركز الطاقة والتمويل المناخي: "أكدت الحرب التجارية القائمة حقا أهمية أمن الطاقة وإشاعة استخدام الكهرباء لأن إحدى السلع الأكثر تداولا في العالم هي الوقود الأحفوري"، ويضيف بكلي قائلا: ستتجه البلدان حول العالم إلى التفكير بالطريقة نفسها (التي تفكر بها الصين)، ومن الواضح أن الصين في وضع جيد جدا يمكنها من مساعدة البلدان الأخرى في ذلك والخروج من هذه الفوضى الجيوسياسية بسلاح تجاري استراتيجي هو التعاون مع أي بلد يريد العمل من أجل أمن الطاقة والتخلص من انبعاثات الكربون.
وفي حين تراهن بكين على تقنيات الطاقة النظيفة لتعزيز صادراتها تتبع واشنطن مقاربة مختلفة جدا؛ فالبيت الأبيض يصر على أن تزيد البلدان وارداتها من الغاز الأمريكي لتقليل فوائضها التجارية مع الولايات المتحدة وتأمين شروط تجارة تفضيلية.
تقييم تكلفة حرب ترامب التجارية والاختيار بين الغاز الطبيعي المسال الأمريكي وتقنيات الكهرباء النظيفة الصينية يمكن أن يشكلا نقطة تحول لبلدان عديدة سواء في الجانب المالي أو فيما يخص التخلص من الكربون، حسب كينجزميل بوند المحلل الاستراتيجي للطاقة بمركز الأبحاث إمبر.
يقول بوند: "البناء على تقنيات الكَهْرَبَة الصينية سيكون أرخص من محاولة الإبقاء على نظام الوقود الأحفوري القديم، فالطاقة الشمسية تتفوق على الغاز الطبيعي المسال في التكلفة، وهذه نعمة للمناخ؛ فإنفاق دولار واحد على استيراد ألواح الخلايا الضوئية سيوفر دولارا سنويا من قيمة واردات الغاز وينتج مقدار الكهرباء نفسه".
لكن المحللين والمسؤولين الغربيين يرون في تصاعد هيمنة الصين على تقنية وسلاسل إمدادات الطاقة الخضراء خطرا على الأمن القومي وينبهون إلى المخاطر المحتملة التي تنشأ عن الاعتماد الاقتصادي وأيضا التجسس والمهددات العسكرية.
في نهاية المطاف، يقول الخبراء: إن نجاح الصين في "الكهربة" يمكِّن شي وحكومته إلى حد بعيد من معالجة ذلك النوع من صدمات سلسلة التوريد والتجارة والذي يتبدّى الآن على نحو مثير للقلق في الفترة الرئاسية الثانية لدونالد ترامب.
وللمفارقة، قد تقدم الرسوم الجمركية "حافزا غير مقصود" لتعزيز تحول الصين إلى الطاقة المتجددة، حسب ياو يي رئيس فرع منظمة السلام الأخضر (جرين بيس) في بكين.
في العام الماضي كانت سعة أنظمة تخزين الطاقة الصينية فوق 73 جيجاواطا وأعلى بحوالي 20 ضعفا عن حجمها قبل أربعة أعوام، لكنها لا تزال أقل كثيرا من السعة التخزينية التي تحتاجها الصين والبالغة 500 جيجاواط لكي تدعم تنفيذ مشروع الطاقة المتجددة بشكل كامل، ويرى ياو أن التركيز مرة أخرى على السوق الداخلية في الصين بدلا عن التصدير إلى الولايات المتحدة قد يساعد "الحكومات المحلية والصناعات على تحقيق أهداف أمن الطاقة".
وفي حين أن كلا الطرفين لديهما مكامن ضعف ونقاط اختناق عبر سلاسل التوريد الصناعية، يعتقد خبراء عديدون أن ترامب مستشاريه المقربين أخطأوا في تقدير "مدى" استعداد بكين لهذه الأزمة.
يعتقد جيلهولم أن الصين في وضع أقوى كثيرا مقارنة بما كانت عليه قبل سنوات، ويضيف: "لا أحد يقول إنها تعتنق ماويَّة جديدة أو تتبع اقتصادا مغلقا الآن، الصين ببساطة قطعت شوطا بعيدا في التخلص من المخاطر والتحلي بالمرونة".