بعد مرور عام على طوفان الأقصى لا تزال أصداء هذا الهجوم تتردد بقوة في الأوساط الإسرائيلية نظرا لآثاره العميقة التي تركها على المجتمع والدولة في إسرائيل، وأدت إلى إخفاقات على جميع الصعد سياسيا واقتصاديا وأمنيا.

وباتت إسرائيل تعاني تراجعا في الشرعية الدولية وانقساما داخليا عميقا وتباطؤا لمسارات التطبيع والسلام الإقليمي، كما أن جدارها الأمني مني بضربة قوية أفقدت الجمهور الإسرائيلي جزءا كبيرا من شعوره بالأمن، مما أسفر عن حركة هجرة عكسية واسعة.

اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2كم سنة لتسقط إسرائيل نهائياً؟list 2 of 2عام على حرب غزة.. هل نجحت مقاطعة الشركات الداعمة لإسرائيل؟end of list

ومع المساعي الإسرائيلية المتعثرة لاستعادة الهيبة والردع فقد أدت المجازر التي ارتكبها جيش الاحتلال في غزة إلى تراجع المكانة السياسية والشرعية لإسرائيل، وزيادة تكلفة دعمها على رعاتها التقليديين، كالولايات المتحدة وبعض دول أوروبا.

تآكل الشرعية الدولية

شهد عام الطوفان أكبر قدر من تآكل الشرعية الدولية لإسرائيل منذ نشوئها، بفعل مستوى الجرائم غير المسبوق التي ارتكبتها، وتمثل ذلك على مستوى الرأي العام العالمي وقرارات المنظمات الدولية، وهو أمر بالغ التأثير على المدى الطويل لدولة قامت -استنادا إلى قرار دولي- على أرض احتلتها من أصحابها في محيط من الدول المختلفة عنها في التاريخ والدين واللغة والثقافة.

وشهدت آلاف المدن حول العالم مظاهرات متكررة تنديدا بمجازر الاحتلال في غزة، وسعى الكثير منها إلى إعاقة الإمداد العسكري والتكنولوجي الغربي لها، وهدفت الاعتصامات الواسعة في عشرات الجامعات الأميركية إلى مقاطعة إسرائيل ووقف التعاون العلمي معها.

وكان لافتا اتخاذ العديد من هذه الاعتصامات طابعا أقرب إلى التمرد على توجهات الجامعات المنحازة إلى الاحتلال، والرفض الشديد لسلوك الإدارة الأميركية بشأن الحرب، وذلك باللجوء إلى إغلاق أجزاء من الكليات والتفاوض لتحقيق إنجازات عملية على المستوى المحلي.

وأظهرت استطلاعات الرأي في العالم عموما وفي الولايات المتحدة وأوروبا خصوصا تراجعا كبيرا في التأييد الشعبي لإسرائيل وسياساتها.

فعلى سبيل المثال، نشرت صحيفة جيروزاليم بوست الإسرائيلية في 17 ديسمبر/كانون الأول 2023 نتائج استطلاع أجراه معهد هاريس ومركز الدراسات السياسية الأميركية بجامعة هارفارد وشمل ألفي ناخب أميركي من فئات عمرية مختلفة.

وبيّن الاستطلاع أن 51% من الشباب من هذه الفئة العمرية يعتقدون أن الحل طويل المدى للصراع الإسرائيلي الفلسطيني هو "إنهاء إسرائيل وتسليم الحكم لحماس والفلسطينيين".

كما أشار استطلاع للرأي أجرته مؤسسة "فوكال داتا" في يونيو/حزيران 2024 لصالح موقع "أنهيرد" الإخباري أن أغلبية الشباب في بريطانيا "لا يعتقدون بضرورة وجود إسرائيل".

التعاون العسكري

وانعكس المزاج الشعبي العالمي على مواقف بعض الدول تجاه الحرب في غزة ومستوى التعاون العسكري مع جيش الاحتلال، إذ أمرت محكمة هولندية في فبراير/شباط 2024 الحكومة بوقف توريد أجزاء طائرات مقاتلة من طراز "إف-35" إلى إسرائيل، وقيدت بلجيكا مبيعات الأسلحة إليها، وقامت الحكومة البلجيكية بحملة من أجل حظر شبيه على مستوى الاتحاد الأوروبي.

ووافق البرلمان الكندي في مارس/آذار في تصويت على وقف المبيعات العسكرية المستقبلية إلى إسرائيل، وصرح وزير الخارجية الإسباني خوسيه مانويل ألباريس في يناير/كانون الثاني 2024 بأن إسبانيا لم تبع أسلحة إلى إسرائيل منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023.

وفي مايو/أيار أعلنت مدريد أنها ستحظر على السفن التي تحمل أسلحة إلى إسرائيل الرسو في الموانئ الإسبانية.

وأعلن وزير الخارجية الإيطالي أنطونيو تاياني في الشهر ذاته أن روما قررت بعد 7 أكتوبر/تشرين الأول عدم إرسال مزيد من الأسلحة إلى إسرائيل.

وأعلن وزير الخارجية البريطاني ديفيد لامي في سبتمبر/أيلول الماضي أن لندن علقت 30 من أصل 350 ترخيصا للأسلحة.

في المقابل، قاومت الدول الأكثر تصديرا للسلاح إلى إسرائيل كالولايات المتحدة وألمانيا والدانمارك الضغوط الشعبية، واستمرت في توريده بدون تغيير مهم، لكن يتوقع أن يزداد تأثير هذا المزاج العام في السنوات المقبلة، إذ يُظهر الشباب رفضا أوضح من الفئات الأكبر سنا للسردية والجرائم الإسرائيلية.

المؤسسات الدولية

ومع تواصل العدوان على قطاع غزة خلال عام برزت إسرائيل كدولة متمردة على الصعيد الدولي بشكل أوضح من أي وقت سابق، فقد أهملت وتحدت قرارات عديدة أصدرتها المؤسسات الدولية، منها على سبيل المثال:

قرار مجلس الأمن الدولي في 25 مارس/آذار 2024 بوقف إطلاق نار فوري خلال شهر رمضان يؤدي إلى وقف دائم ومستدام لإطلاق النار. قرار المجلس في 10 يونيو/حزيران 2024 بوقف فوري تام وكامل لإطلاق النار مع إطلاق سراح الرهائن. قرار محكمة العدل الدولية في 26 يناير/كانون الثاني 2024 باتخاذ تدابير مؤقتة "لمنع الإبادة الجماعية بحق الفلسطينيين في غزة، وضمان توفير الخدمات الأساسية والمساعدات الإنسانية، ومنع ومعاقبة التحريض على ارتكاب الإبادة الجماعية". قرار المحكمة ذاتها في 24 مايو/أيار 2024 بالوقف الفوري لهجومها العسكري على رفح.

وللمرة الأولى في تاريخ إسرائيل أعلنت المحكمة الجنائية الدولية في 20 مايو/أيار 2024 تقديم طلبات لإصدار أوامر اعتقال بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع يوآف غالانت، إضافة إلى طلب اعتقال 3 من قادة حركة حماس.

بدورها، تقدمت الجمعية العامة للأمم المتحدة بطلب إلى محكمة العدل الدولية لتبيان الآثار المترتبة على استمرار الاحتلال الإسرائيلي، وهو ما حصل بالفعل، وأعقبه قرار للجمعية العامة في 18 سبتمبر/أيلول 2024 بطلب انسحاب الاحتلال من الأراضي المحتلة عام 1967 خلال 12 شهرا ضمن مجموعة من التوصيات التي تظهر غضب أغلبية دول العالم من الاستهتار الإسرائيلي بالمؤسسات الدولية والحقوق الفلسطينية والقيم الإنسانية.

انقسام داخلي غير مسبوق

وكان من تداعيات الحرب على إسرائيل تعميق الانقسامات السياسية والاجتماعية وإبرازها، خصوصا في ظل أسر المقاومة قرابة 240 إسرائيليا وتهميش نتنياهو هذا الملف، مما جعله عنوانا لمعارضة سياسة الائتلاف الحاكم تجاه الحرب.

وكذلك الحال بشأن عشرات الآلاف من المهجرين من شمال وجنوب إسرائيل، والذين اتهم بعض ممثليهم حكومتهم بخذلانهم والتمييز بينهم وبين سكان مركز الدولة.

واتخذ الانقسام بعدا دينيا بشأن قانون تجنيد اليهود المتدينين "الحريديم" وبعدا سياسيا عسكريا على خلفية تحديد المسؤولية عن فشل الدولة في 7 أكتوبر/تشرين الأول، وتحديد أولويات الحرب، والتهدئة من عدمها، وهو ما ظهر على شكل تراشق علني للاتهامات بين العديد من الوزراء والقيادات الأمنية والعسكرية.

وظهر ذلك -على سبيل المثال- في المؤتمر الصحفي لوزير الدفاع الإسرائيلي غالانت في 15 مايو/أيار 2024، والذي جاهر فيه بمعارضة توجهات نتنياهو بشأن غزة ما بعد الحرب، قائلا إنه سيعارض أي حكم عسكري إسرائيلي للقطاع، لأنه سيكون دمويا ومكلفا وسيستمر أعواما.

وكان من مظاهر هذا الانقسام المظاهرات الواسعة المعارضة للحكومة في ذروة الحرب، وهو أمر غير مسبوق في إسرائيل، وكذلك التسريبات الكثيرة بشأن مجريات إدارة الحرب، وإن كان نتنياهو قد استخدم بعض هذه التسريبات والخلافات لتضليل أعدائه والمناورة في وجه الضغوط الخارجية عليه، خصوصا الأميركية منها.

مسيرة شعبية أردنية ضد التطبيع مع إسرائيل (مواقع التواصل) تراجع التطبيع

وعلى صعيد العلاقات الإقليمية، تباطأ مسار التطبيع الإقليمي، وبدا أن المسار السعودي معلق بإبداء حكومة الاحتلال توجها لتسوية القضية الفلسطينية على أساس حل الدولتين، في حين نأت الإمارات بنفسها عن تصريحات إسرائيلية بشأن تحمّل تكلفة إعادة إعمار القطاع.

كما طفا على السطح خلاف إسرائيلي مصري بشأن تهجير سكان القطاع والسيطرة الإسرائيلية على محور صلاح الدين "فيلادلفيا" ومعبر رفح.

وبالتوازي، شهدت العلاقة مع الأردن توترا على خلفية المخاوف من تهجير سكان الضفة والتوجه لتصفية القضية الفلسطينية.

ورغم أن كانت الخلافات السابقة دون مستوى تقويض أوجه التطبيع والسلام السابقة فإن عملية طوفان الأقصى كان لها أثر في إبطاء وتيرتها المتسارعة، كما أنها جعلت الاتفاقيات مثار تساؤل شعبي بشأن فاعليتها في وقف العدوان.

ثغرة في جدار الأمن

شكلت عملية طوفان الأقصى إثباتا لإمكانية خرق جدار الأمن والردع الذي كان الاحتلال يضفي عليه هالة أسطورية، خصوصا من جانب تكنولوجيا التنصت، وكلفت الحرب إسرائيل فاتورة باهظة من القتلى والمصابين والمعاقين والنازحين، وهو ما تحاول التستر عليه.

فوفقا لأرقام نشرها معهد أبحاث الأمن القومي الإسرائيلي في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2024، فإن عدد قتلى الجيش الإسرائيلي خلال سنة من الحرب بلغ 1697 جنديا وضابطا وأصيب نحو 5 آلاف، بينهم 695 جراحهم خطيرة.

وبلغ عدد المصابين المدنيين الإسرائيليين 19 ألفا، وعدد الإسرائيليين الذين نزحوا من الشمال والجنوب خلال الحرب 143 ألفا.

وشكّل هجوم 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 وفشل الجيش في التنبؤ به ومواجهته ضربة غير مسبوقة لثقة الجمهور الإسرائيلي بجيشه ودولته، ومما عزز هذا الأمر مستوى النقد والاتهامات التي طالت قادة الجيش والأمن من قبل وزراء اليمين في حكومة نتنياهو.

كما أضعفت الحرب الشعور الشعبي بالأمان، وأنتجت موجة واسعة للهجرة العكسية واستعدادا غير مسبوق للهجرة إلى الخارج.

وكشف استطلاع للرأي أجرته قناة "كان" التابعة لهيئة البث الرسمية الإسرائيلية في أكتوبر/تشرين الأول 2024 أن نحو ربع الإسرائيليين فكروا في الهجرة للخارج خلال العام الماضي بسبب الأوضاع السياسية والأمنية الراهنة.

وفي سبتمبر/أيلول الماضي كشفت معطيات رسمية صدرت عن دائرة الإحصاء المركزية عن تزايد ملحوظ في ظاهرة هجرة الإسرائيليين إلى الخارج.

في المقابل، سعت إسرائيل إلى ترميم جدار الردع من خلال إيقاع قدر هائل من الدمار والضحايا في قطاع غزة، وهو ما تأمل أن يوفر لها فرصة لتهجير جزء من سكان القطاع حالما تسنح لها الفرصة لذلك.

وتمكنت على الجبهة الشمالية من تعويض جزء من خسائر صورتها من خلال الاستهدافات النوعية لبنية حزب الله الأمنية، وعلى رأسها القدرة على تفخيخ وتفجير آلاف أجهزة النداء الآلي "البيجر" وأجهزة الاتصال اللاسلكي، والقدرة السريعة على الوصول إلى قيادات الصف الأول سياسيا وعسكريا، وفي مقدمتهم الرجل الأول في الحزب حسن نصر الله، وهو ما أضعف خصما كانت تتحسب كثيرا لقدراته على مدار السنين السابقة.

وعلى الرغم من ذلك فإن التصعيد أوصل إسرائيل المنطقة إلى حافة الحرب الإقليمية، مع الاشتباك المباشر مع إيران لمرتين، والذي يشكل التهديد الأكبر لأمنها، إضافة إلى ما يشكله من تهديد لمصالح الولايات المتحدة وحلفائها في الإقليم.

دعم مكلف

وخلال عام زادت الحرب تكلفة إسرائيل على رعاتها الغربيين -وفي مقدمتهم الولايات المتحدة- وتباينت أولوياتها مع أولوياتهم، مما يدفع بها إلى تكون عبئا عليهم بدلا من أن تكون حليفة أو أداة إقليمية فاعلة لتحقيق مصالح استعمارية لدول كبرى.

كما برزت حاجتها إلى الحماية الدولية بدلا من أن تكون مركزا وسندا لتحالف إقليمي سعت اتفاقات السلام والتطبيع إلى بنائه، وتراجعت بالمحصلة مكانتها السياسية وانفتح مستقبلها على مخاطر أكبر، وهو ما يوحي به تراجع التصنيف الائتماني لها والمبني على استقراء المخاطر المستقبلية المتوقعة لها.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حراك الجامعات حريات الجامعات أکتوبر تشرین الأول طوفان الأقصى إلى إسرائیل مایو أیار وهو ما فی غزة

إقرأ أيضاً:

جرائم الإبادة تستهدف تدمير منشآت الصحة الإنجابية

أكثر من 150 ألف امرأة حامل يواجهن ظروفا مأساوية في قطاع غزة وفق وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) في ظل استمرار الحرب الإسرائيلية على القطاع منذ السابع من أكتوبر عام 2023م.

مقابلات مع النساء الحوامل أجريت في صالة الانتظار التابعة لمركز المصري الطبي للنساء والتوليد وعلاج العقم والذي يعمل في شمال قطاع غزة، أفادت خلالها النساء اللواتي قصدن المركز للاطمئنان على حملهن بأنهن بالكاد يحصلن على الرعاية الطبية اللازمة في ظل توقف غالبية المراكز الطبية عن استقبالهن، نتيجة خروجها عن الخدمة جراء استهدافها من الطيران الحربي الإسرائيلي.

مريم عبدالجليل البالغة من العمر (34) عاما، بدت ملامحها شاحبة وعيناها غائرتان، قالت «حاولت اتباع طرق عديدة من أجل تنظيم النسل، خصوصًا في ظل استمرار الحرب والنزوح، كنت أعاني مع أطفالي الصغار، لا طعام متوفر والأمراض منتشرة، رغم ذلك عندما علمت أنني حامل، اختلطت مشاعري ما بين الفرح والخوف بسبب الظروف غير الإنسانية التي نعيشها، ولكنني قررت أن أصارع من أجل حماية نفسي وجنيني من الخطر منذ الشهور الأولي للحمل زرت الطبيب في إحدى النقاط الطبية الموجودة في مخيم النزوح للحصول على بعض النصائح الطبية اللازم اتباعها.

«أضافت مريم لم أتناول الدجاج واللحوم والبيض والفاكهة والحليب منذ بداية الحمل، غالبا ما يضطر زوجي للسير مسافات طويلة للبحث عن طعام صحي لي ولأطفالي، ولكن بسبب قلة المال وعدم توفر المواد اللازمة لا ينجح في ذلك، فيعود دون طعام في كثير من الأحيان، مما يضطرني لتناول طعام المعلبات التي حصلت عليها من المساعدات، هذه المعلبات مليئة بالمواد الحافظة، أعلم أن لها أضرارا صحية بالغة علي وصحة أطفالي ولكنني لم أجد سواها».

وفيما يتعلق بالحصول على مياه الشرب في ظل قيام جيش الاحتلال الإسرائيلي بقصف العديد من آبار المياه الصالحة للشرب تقول مريم إنها تحاول شرب المياه المعدنية التي تضطر غالبا لشرائها من الباعة المتجولين، أو الحصول على بعضها من المساعدات الإنسانية، إلا أنها أصيبت بوعكة صحية أثناء حملها وبعد فحصها تبين بأن تلك مياه منتهية الصلاحية وتحتوي على نسبة كبيرة من الأملاح التي تسبب مشاكل كبيرة في المسالك البولية.

قبل ختام حديثها قالت مريم «كل الظروف التي أعيشها أثناء الحرب تضعني تحت ضغط نفسي شديد وتوتر طوال الوقت وهو ما ينعكس سلبا على صحتي الشخصية وصحة الجنين، أبكي بحرقة في كثير من الأحيان وأدعو الله ألا يموت جنيني وأن تكون ولادتي نهارًا لأنني أخاف كثيرًا كلما حل الظلام ليلًا».

وتشتكي النساء الحوامل بأنهن يحصلن على الحد الأدنى من الطعام والماء مع استمرار إغلاق المعابر وارتفاع أسعار المواد الغذائية إن وجدت، بالإضافة إلى قلة توفر وسائل النظافة الشخصية، موضحات بأنهن غالبا يعانين من الأمراض المعدية والإصابة بالبكتيريا والجراثيم في ظل عدم توفر بيئة صحية مناسبة لوضعهن الخاص الذي يتطلب رعاية خاصة وغذاء صحي ملائم.

يُذكر أن معظم المراكز الطبية الخاصة برعاية النساء الحوامل قد تعرضت إلى تدمير كبير من قبل جيش الاحتلال الإسرائيلي في قطاع غزة.

هذا وفي سياق متصل صدر تقرير أممي في شهر مارس 2025، أفاد أن إسرائيل دمرت جزئيا القدرة الإنجابية للفلسطينيين في غزة وخلص تحقيق للأمم المتحدة إلى أن إسرائيل ارتكبت أعمال إبادة في قطاع غزة عبر التدمير الممنهج لمنشآت الرعاية الصحية الإنجابية.

وأفادت لجنة التحقيق التابعة للأمم المتحدة بأن إسرائيل هاجمت ودمّرت عمدا مركز الخصوبة الرئيسي في القطاع الفلسطيني وفرضت حصارا بشكل متزامن ومنعت المساعدات بما في ذلك الأدوية اللازمة لضمان سلامة الحمل والإنجاب ورعاية المواليد.

وذكر التقرير أنه تم تدمير أقسام ومستشفيات الولادة بشكل ممنهج في قطاع غزة، إضافة إلى «مركز البسمة للإخصاب وأطفال الأنابيب»، العيادة الرئيسية للخصوبة المخبرية في غزة.

وقال إن مركز البسمة تعرّض للقصف في ديسمبر 2023، مما ألحق -وفق

تقارير- أضرارا بنحو 4 آلاف جنين في عيادة كان يتردد عليها ما بين ألفين و3 آلاف مريض شهريا.

إلى جانب ذلك، فإنّ النساء الغزيات ما زلن يعانين خلال الحرب من نقصٍ في المستلزمات الطبية والتحاليل المخبرية، كما حدث مع سلوي سالم (43) عامًا، إذ كانت تنتظر بفارغ الصبر مراجعة الطبيب بعد أن شعرت بأعراض غريبة كانت عبارة عن مغص ونزيف حاد وألم أسفل البطن.

لم تتمكن سلوى من إجراء الفحوصات اللازمة لها بعد أن قام الطبيب بفحصها، وعندما سنحت لها الفرصة أخيرًا للوصول إلى مستشفى الشفاء، اكتشفت إصابتها بورم كبير داخل الرحم وهو ما استدعى تدخلًا طبيًا عاجلًا. ولكن حتى في تلك اللحظة الحرجة، لم تكن الأوضاع الطبية في صفها، فقد ضرب القصف المستشفى، وانهارت أعصابها من الرعب، واضطرت لإجراء الجراحة وسط برد المستشفى القارس ونوافذه المكسورة.

تقول سلوى وقد ظهرت علامات التعب والهزال عليها «ظننت أن معاناتي انتهت بعد إجراء عملية استئصال الرحم، لكن الألم عاد بقسوة، ليصاحبني ألم شديد للغاية، المستشفيات معظمها مغلقة، بعد رحلة شاقة مشيًا على الأقدام بين المستشفيات، اكتشف الأطباء أن الورم أصاب المبيض، بعدها بدأت رحلة معاناة جديدة للحصول على العلاج الكيماوي، بعد تدمير مستشفى الصداقة التركي الوحيد الخاص بعلاج الأورام في قطاع غزة، حصلت على تحويلة طبية لكن المعبر مغلقًا حتى هذه اللحظة

أمام المرضى، لذلك ما زالت معاناتي مستمره حتى هذه اللحظة».

لم تتوقف معاناة سلوى عند هذا الحد، إذ ما زالت تعاني من دوخة وضعف حادّ بسبب سوء التغذية وانعدام الأدوية، وكانت بحاجة إلى فحص بالرنين المغناطيسي لتقييم حالتها، لكن الجهاز الوحيد في غزة أُحرق خلال اقتحام مستشفى الشفاء؛ ما جعلها تُعاني من الآلام حتى وقتنا هذا.

الدكتور أحمد المصري، وصف أوضاع النساء اللواتي يتلقين خدمة التصوير والولادة داخل المركز خلال الحرب قال «تأتي معظم الحوامل وعلامات التعب والهزال تبدو عليهن، فيما تكشف الفحوصات المخبرية أنهن يعانين فقر الدم وسوء التغذية ومشاكل صحيّة، وتنخفض قدرتهن على الحركة ويجدن صعوبة في الولادة بشكلٍ طبيعي، فيما تضطر النساء الحوامل الحضور باكرًا في الصباح إلى المركز بسبب حالة الخوف في الليل، وعدم القدرة على الحركة في ظل نقص وسائل المواصلات، نحن نعيش أوضاعا غير عادية، ولا يمكننا أن نفعل أي شيء إلا أن نحاول إنقاذ حياة النساء وأطفالهن».

وأضاف الطبيب بشيء من الحسرة «للأسف معظم النساء يعانين من الإجهاض وفقد الأجنة في فترة الحمل، بسبب ضعف بنيه أجسامهن لعدم حصولهن على التغذية الكافية في فترة الحمل».

هذا وقد أشارت تقارير صادرة عن وزارة الصحة أن النساء الحوامل يواجهن ظروفا كارثية، وتتضاعف معاناتهن جراء تدمير المنظومة الصحية، لا سيما الخدمات المخصصة للصحة الجنسية والإنجابية، وحرمانهم من الوصول إلى مراكز الرعاية الصحية بعد إخراج المستشفيات والمراكز والعيادات والصيدليات عن الخدمة، وتعطل المختبرات والأجهزة الطبية، وقطع الكهرباء ومنع دخول المواد المخبرية.

وتحرم النساء من الحصول على الخدمات المتعلقة بأمراض النساء المرتبطة بالحمل، ورعاية ما قبل الحمل وما بعد الولادة، والوقاية من العنف، خاصة في ظل شح السلع والبضائع الأساسية، وعدم قدرتهن على توفير المواد الغذائية الغنية بالبروتينات، والحصول على المكملات الغذائية، وتوفير مواد التعقيم ووسائل منع الحمل، وتوفير أدوات خاصة بالاحتياجات اللازمة للحفاظ على الكرامة الشخصية من مستلزمات النظافة وغيرها. كما تعيش النساء الحوامل في قطاع غزة، في ظل الحرب

المتواصلة منذ أكثر من عام ونصف، ظروفًا لا يمكن تصوُّر صعوبتها، فإضافةً إلى الموت والرعب والجوع والفقد والنزوح، تبدأ صعوبات أخرى منذ الشهر الأول للحمل، إذ لا رعاية صحية، ولا اختبارات دم، ولا فحوصات للتأكد من سلامة الجنين، ولا مياه صالحة للشرب، في بيئة عيش قد لا يتوفر فيها حتى فراش للاستلقاء، ما يعرِّض أكثر من 52 ألف امرأة حامل في القطاع للخطر، حسب تقديرات منظمة الصحة العالمية. ومنذ اندلاع الحرب، ارتفعت معدلات الولادة المبكرة والقيصرية.

وارتفعت معدلات الإجهاض ووفاة الأجنة بنحو 20%. وتؤكِّد «يونيسيف» أن أطفال آلاف النساء اللواتي من المقرر أن يلدن في القطاع معرَّضون لخطر الموت.

في ظلِّ انهيار النظام الصحي، تجري عمليات الولادة، حتى القيصرية منها، دون تخدير أو مسكنات ودون أدنى التجهيزات الأساسية، ما أكده بيان للمركز الفلسطيني لحقوق الإنسان ومركز الميزان ومؤسسة الحق، واضطُّر الأطباء أحيانًا إلى إجراء عمليات ولادة مبكرة بينما كانت الأم تحتضر، ليولد العديد من الأطفال أيتامًا.

لا تقتصر مخاوف النساء على الولادة ذاتها، بل تتجاوزها إلى محاولة الحفاظ على حياة أطفالهنَّ الرضع، إذ ثمة تهديد أكبر يعرِّض حياتهن وحياة أطفالهن للخطر، ويجعل الرضاعة الطبيعية مستحيلة، يتمثل بالجفافِ نتيجة شحِّ المياه، وبالفقرِ الغذائيِّ الحادِّ الذي يواجهه نحو 95% من النساء الحوامل والمُرضعات، وأكثر من 90% من الأطفال بين 6 أشهر و23 شهرًا، وفقًا لـ«يونيسف»، إلى جانب الغلاء الفاحش في أسعار المستلزمات الصحية، مثل الفوط الصحية النسائية وحفاضات الأطفال، ما اضطَّر النساء إلى استخدام الورق والكارتون وخرق القماش المستهلَك، وفاقم المعاناةَ والمخاطر.

في هذا السياق أشارت البيانات الصادرة عن مركز الميزان لحقوق الإنسان إلى أنّ توقف عمل المختبرات الطبية ونقص معدات التشخيص أدى إلى ارتفاع نسبة الولادات عالية الخطورة. كما تعذر كثيرًا خلال الحرب إجراء التحاليل الأساسية للأمهات مما زاد من المضاعفات، إضافة إلى ذلك فإنّ هناك حاجة إلى حوالي (10.3) مليون فوطة صحية شهريًا لـ(690,00) امرأة ومراهقة في غزة. وجاء في تقرير صدر عن مركز الميزان لحقوق الإنسان حول «تدهور الأوضاع الصحية والمعيشية في ظلّ استمرار

حرب الإبادة الجماعية وانعكاسها على الصحة الإنجابية» ازدياد خطورة الوضع مع معاناة 46,300 امرأة حامل من سوء التغذية ونقص الغذاء.

وأشارت البيانات الواردة في التقرير الحقوقي إلى أنه من بين 1,000,000 امرأة وفتاة نازحة، كان هناك 155,000 امرأة حامل ومرضع دون رعاية، وفي ظلّ تدمير 80% من المستشفيات ونقص الأطباء والمعدّات الطبيّة كان إجراء عمليات قيصرية ضرورية أمر مستحيل؛ مما أدى إلى إجبار النساء على الولادة في الشوارع والملاجئ، ودون أدنى المعايير الصحية.

يتسبب هذا الأمر في كثيرٍ من الانتهاكات التي تعرضت لها النساء في تهديدٍ لصحتهن الإنجابية، ومنها رفع معدّلات الولادات المبكرة مما أدى إلى تراجع أوزان المواليد الجدد إلى أقل من 2.5 كغم بسبب سوء التغذية لدى الأمهات.

كما لم تزل تعيش أكثر من 557,000 امرأة في غزة تحت وطأة انعدام الأمن الغذائي، ما يجعل الحمل والولادة في القطاع ليس مجرد تجربة إنسانية، بل صراعًا يوميًا من أجل البقاء.

وتشير الإحصاءات المحلية إلى ارتفاع حالات الولادة المبكرة نتيجة الضغط النفسي والتغذية السيئة، كما تبين أنّ 70% من النساء اللواتي ولدن في الأشهر الأخيرة لم يحصلن على متابعة طبية قبل الولادة.

في ظلّ الانهيار الحادّ للخدمات الصحية، وغياب الرعاية الطبية الأساسية، أصبحت الولادة في غزة محفوفة بالمخاطر، بالتزامن مع تدمير المستشفيات وتقييد وصول الإمدادات الطبية، تضطر كثير من النساء للولادة في ظروفٍ غير آمنة داخل الملاجئ أو المنازل؛ مما يعكس واقعًا صحيًا متدهورًا يستدعي تدخلاً عاجلاً.

مقالات مشابهة

  • مسير شعبي في الزهرة بالحديدة لخريجي دورات “طوفان الأقصى”
  • السينما بعد طوفان الأقصى.. موجة أفلام ترصد المأساة الفلسطينية
  • غزة: إسرائيل تمنع المؤسسات الدولية من الوصول إلى مخازن وقود المستشفيات
  • جرائم الإبادة تستهدف تدمير منشآت الصحة الإنجابية
  • محلل إسرائيلي: سببان وراء تصعيد الحوثيين في اليمن هجماتهم ضد إسرائيل
  • “التعاون الإسلامي” أمام “العدل الدولية”: نرفض إجراءات الاحتلال الإسرائيلي ضد “الأونروا”
  • متحدث فتح: أفعال الاحتلال الإسرائيلي تجاوزت القانون والأعراف الدولية
  • لليوم الخامس: محكمة العدل الدولية تعقد جلساتها لمساءلة الاحتلال الإسرائيلي بشأن التزاماته تجاه المنظمات الأممية في فلسطين
  • عُمان تعيد رسم المشهد الثقافي والإعلامي للأطفال
  • حجة.. خريجو “طوفان الأقصى” في كحلان عفار يجسدون الجاهزية بمسير ومناورة ميدانية