بعد مرور عام على طوفان الأقصى لا تزال أصداء هذا الهجوم تتردد بقوة في الأوساط الإسرائيلية نظرا لآثاره العميقة التي تركها على المجتمع والدولة في إسرائيل، وأدت إلى إخفاقات على جميع الصعد سياسيا واقتصاديا وأمنيا.

وباتت إسرائيل تعاني تراجعا في الشرعية الدولية وانقساما داخليا عميقا وتباطؤا لمسارات التطبيع والسلام الإقليمي، كما أن جدارها الأمني مني بضربة قوية أفقدت الجمهور الإسرائيلي جزءا كبيرا من شعوره بالأمن، مما أسفر عن حركة هجرة عكسية واسعة.

اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2كم سنة لتسقط إسرائيل نهائياً؟list 2 of 2عام على حرب غزة.. هل نجحت مقاطعة الشركات الداعمة لإسرائيل؟end of list

ومع المساعي الإسرائيلية المتعثرة لاستعادة الهيبة والردع فقد أدت المجازر التي ارتكبها جيش الاحتلال في غزة إلى تراجع المكانة السياسية والشرعية لإسرائيل، وزيادة تكلفة دعمها على رعاتها التقليديين، كالولايات المتحدة وبعض دول أوروبا.

تآكل الشرعية الدولية

شهد عام الطوفان أكبر قدر من تآكل الشرعية الدولية لإسرائيل منذ نشوئها، بفعل مستوى الجرائم غير المسبوق التي ارتكبتها، وتمثل ذلك على مستوى الرأي العام العالمي وقرارات المنظمات الدولية، وهو أمر بالغ التأثير على المدى الطويل لدولة قامت -استنادا إلى قرار دولي- على أرض احتلتها من أصحابها في محيط من الدول المختلفة عنها في التاريخ والدين واللغة والثقافة.

وشهدت آلاف المدن حول العالم مظاهرات متكررة تنديدا بمجازر الاحتلال في غزة، وسعى الكثير منها إلى إعاقة الإمداد العسكري والتكنولوجي الغربي لها، وهدفت الاعتصامات الواسعة في عشرات الجامعات الأميركية إلى مقاطعة إسرائيل ووقف التعاون العلمي معها.

وكان لافتا اتخاذ العديد من هذه الاعتصامات طابعا أقرب إلى التمرد على توجهات الجامعات المنحازة إلى الاحتلال، والرفض الشديد لسلوك الإدارة الأميركية بشأن الحرب، وذلك باللجوء إلى إغلاق أجزاء من الكليات والتفاوض لتحقيق إنجازات عملية على المستوى المحلي.

وأظهرت استطلاعات الرأي في العالم عموما وفي الولايات المتحدة وأوروبا خصوصا تراجعا كبيرا في التأييد الشعبي لإسرائيل وسياساتها.

فعلى سبيل المثال، نشرت صحيفة جيروزاليم بوست الإسرائيلية في 17 ديسمبر/كانون الأول 2023 نتائج استطلاع أجراه معهد هاريس ومركز الدراسات السياسية الأميركية بجامعة هارفارد وشمل ألفي ناخب أميركي من فئات عمرية مختلفة.

وبيّن الاستطلاع أن 51% من الشباب من هذه الفئة العمرية يعتقدون أن الحل طويل المدى للصراع الإسرائيلي الفلسطيني هو "إنهاء إسرائيل وتسليم الحكم لحماس والفلسطينيين".

كما أشار استطلاع للرأي أجرته مؤسسة "فوكال داتا" في يونيو/حزيران 2024 لصالح موقع "أنهيرد" الإخباري أن أغلبية الشباب في بريطانيا "لا يعتقدون بضرورة وجود إسرائيل".

التعاون العسكري

وانعكس المزاج الشعبي العالمي على مواقف بعض الدول تجاه الحرب في غزة ومستوى التعاون العسكري مع جيش الاحتلال، إذ أمرت محكمة هولندية في فبراير/شباط 2024 الحكومة بوقف توريد أجزاء طائرات مقاتلة من طراز "إف-35" إلى إسرائيل، وقيدت بلجيكا مبيعات الأسلحة إليها، وقامت الحكومة البلجيكية بحملة من أجل حظر شبيه على مستوى الاتحاد الأوروبي.

ووافق البرلمان الكندي في مارس/آذار في تصويت على وقف المبيعات العسكرية المستقبلية إلى إسرائيل، وصرح وزير الخارجية الإسباني خوسيه مانويل ألباريس في يناير/كانون الثاني 2024 بأن إسبانيا لم تبع أسلحة إلى إسرائيل منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023.

وفي مايو/أيار أعلنت مدريد أنها ستحظر على السفن التي تحمل أسلحة إلى إسرائيل الرسو في الموانئ الإسبانية.

وأعلن وزير الخارجية الإيطالي أنطونيو تاياني في الشهر ذاته أن روما قررت بعد 7 أكتوبر/تشرين الأول عدم إرسال مزيد من الأسلحة إلى إسرائيل.

وأعلن وزير الخارجية البريطاني ديفيد لامي في سبتمبر/أيلول الماضي أن لندن علقت 30 من أصل 350 ترخيصا للأسلحة.

في المقابل، قاومت الدول الأكثر تصديرا للسلاح إلى إسرائيل كالولايات المتحدة وألمانيا والدانمارك الضغوط الشعبية، واستمرت في توريده بدون تغيير مهم، لكن يتوقع أن يزداد تأثير هذا المزاج العام في السنوات المقبلة، إذ يُظهر الشباب رفضا أوضح من الفئات الأكبر سنا للسردية والجرائم الإسرائيلية.

المؤسسات الدولية

ومع تواصل العدوان على قطاع غزة خلال عام برزت إسرائيل كدولة متمردة على الصعيد الدولي بشكل أوضح من أي وقت سابق، فقد أهملت وتحدت قرارات عديدة أصدرتها المؤسسات الدولية، منها على سبيل المثال:

قرار مجلس الأمن الدولي في 25 مارس/آذار 2024 بوقف إطلاق نار فوري خلال شهر رمضان يؤدي إلى وقف دائم ومستدام لإطلاق النار. قرار المجلس في 10 يونيو/حزيران 2024 بوقف فوري تام وكامل لإطلاق النار مع إطلاق سراح الرهائن. قرار محكمة العدل الدولية في 26 يناير/كانون الثاني 2024 باتخاذ تدابير مؤقتة "لمنع الإبادة الجماعية بحق الفلسطينيين في غزة، وضمان توفير الخدمات الأساسية والمساعدات الإنسانية، ومنع ومعاقبة التحريض على ارتكاب الإبادة الجماعية". قرار المحكمة ذاتها في 24 مايو/أيار 2024 بالوقف الفوري لهجومها العسكري على رفح.

وللمرة الأولى في تاريخ إسرائيل أعلنت المحكمة الجنائية الدولية في 20 مايو/أيار 2024 تقديم طلبات لإصدار أوامر اعتقال بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع يوآف غالانت، إضافة إلى طلب اعتقال 3 من قادة حركة حماس.

بدورها، تقدمت الجمعية العامة للأمم المتحدة بطلب إلى محكمة العدل الدولية لتبيان الآثار المترتبة على استمرار الاحتلال الإسرائيلي، وهو ما حصل بالفعل، وأعقبه قرار للجمعية العامة في 18 سبتمبر/أيلول 2024 بطلب انسحاب الاحتلال من الأراضي المحتلة عام 1967 خلال 12 شهرا ضمن مجموعة من التوصيات التي تظهر غضب أغلبية دول العالم من الاستهتار الإسرائيلي بالمؤسسات الدولية والحقوق الفلسطينية والقيم الإنسانية.

انقسام داخلي غير مسبوق

وكان من تداعيات الحرب على إسرائيل تعميق الانقسامات السياسية والاجتماعية وإبرازها، خصوصا في ظل أسر المقاومة قرابة 240 إسرائيليا وتهميش نتنياهو هذا الملف، مما جعله عنوانا لمعارضة سياسة الائتلاف الحاكم تجاه الحرب.

وكذلك الحال بشأن عشرات الآلاف من المهجرين من شمال وجنوب إسرائيل، والذين اتهم بعض ممثليهم حكومتهم بخذلانهم والتمييز بينهم وبين سكان مركز الدولة.

واتخذ الانقسام بعدا دينيا بشأن قانون تجنيد اليهود المتدينين "الحريديم" وبعدا سياسيا عسكريا على خلفية تحديد المسؤولية عن فشل الدولة في 7 أكتوبر/تشرين الأول، وتحديد أولويات الحرب، والتهدئة من عدمها، وهو ما ظهر على شكل تراشق علني للاتهامات بين العديد من الوزراء والقيادات الأمنية والعسكرية.

وظهر ذلك -على سبيل المثال- في المؤتمر الصحفي لوزير الدفاع الإسرائيلي غالانت في 15 مايو/أيار 2024، والذي جاهر فيه بمعارضة توجهات نتنياهو بشأن غزة ما بعد الحرب، قائلا إنه سيعارض أي حكم عسكري إسرائيلي للقطاع، لأنه سيكون دمويا ومكلفا وسيستمر أعواما.

وكان من مظاهر هذا الانقسام المظاهرات الواسعة المعارضة للحكومة في ذروة الحرب، وهو أمر غير مسبوق في إسرائيل، وكذلك التسريبات الكثيرة بشأن مجريات إدارة الحرب، وإن كان نتنياهو قد استخدم بعض هذه التسريبات والخلافات لتضليل أعدائه والمناورة في وجه الضغوط الخارجية عليه، خصوصا الأميركية منها.

مسيرة شعبية أردنية ضد التطبيع مع إسرائيل (مواقع التواصل) تراجع التطبيع

وعلى صعيد العلاقات الإقليمية، تباطأ مسار التطبيع الإقليمي، وبدا أن المسار السعودي معلق بإبداء حكومة الاحتلال توجها لتسوية القضية الفلسطينية على أساس حل الدولتين، في حين نأت الإمارات بنفسها عن تصريحات إسرائيلية بشأن تحمّل تكلفة إعادة إعمار القطاع.

كما طفا على السطح خلاف إسرائيلي مصري بشأن تهجير سكان القطاع والسيطرة الإسرائيلية على محور صلاح الدين "فيلادلفيا" ومعبر رفح.

وبالتوازي، شهدت العلاقة مع الأردن توترا على خلفية المخاوف من تهجير سكان الضفة والتوجه لتصفية القضية الفلسطينية.

ورغم أن كانت الخلافات السابقة دون مستوى تقويض أوجه التطبيع والسلام السابقة فإن عملية طوفان الأقصى كان لها أثر في إبطاء وتيرتها المتسارعة، كما أنها جعلت الاتفاقيات مثار تساؤل شعبي بشأن فاعليتها في وقف العدوان.

ثغرة في جدار الأمن

شكلت عملية طوفان الأقصى إثباتا لإمكانية خرق جدار الأمن والردع الذي كان الاحتلال يضفي عليه هالة أسطورية، خصوصا من جانب تكنولوجيا التنصت، وكلفت الحرب إسرائيل فاتورة باهظة من القتلى والمصابين والمعاقين والنازحين، وهو ما تحاول التستر عليه.

فوفقا لأرقام نشرها معهد أبحاث الأمن القومي الإسرائيلي في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2024، فإن عدد قتلى الجيش الإسرائيلي خلال سنة من الحرب بلغ 1697 جنديا وضابطا وأصيب نحو 5 آلاف، بينهم 695 جراحهم خطيرة.

وبلغ عدد المصابين المدنيين الإسرائيليين 19 ألفا، وعدد الإسرائيليين الذين نزحوا من الشمال والجنوب خلال الحرب 143 ألفا.

وشكّل هجوم 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 وفشل الجيش في التنبؤ به ومواجهته ضربة غير مسبوقة لثقة الجمهور الإسرائيلي بجيشه ودولته، ومما عزز هذا الأمر مستوى النقد والاتهامات التي طالت قادة الجيش والأمن من قبل وزراء اليمين في حكومة نتنياهو.

كما أضعفت الحرب الشعور الشعبي بالأمان، وأنتجت موجة واسعة للهجرة العكسية واستعدادا غير مسبوق للهجرة إلى الخارج.

وكشف استطلاع للرأي أجرته قناة "كان" التابعة لهيئة البث الرسمية الإسرائيلية في أكتوبر/تشرين الأول 2024 أن نحو ربع الإسرائيليين فكروا في الهجرة للخارج خلال العام الماضي بسبب الأوضاع السياسية والأمنية الراهنة.

وفي سبتمبر/أيلول الماضي كشفت معطيات رسمية صدرت عن دائرة الإحصاء المركزية عن تزايد ملحوظ في ظاهرة هجرة الإسرائيليين إلى الخارج.

في المقابل، سعت إسرائيل إلى ترميم جدار الردع من خلال إيقاع قدر هائل من الدمار والضحايا في قطاع غزة، وهو ما تأمل أن يوفر لها فرصة لتهجير جزء من سكان القطاع حالما تسنح لها الفرصة لذلك.

وتمكنت على الجبهة الشمالية من تعويض جزء من خسائر صورتها من خلال الاستهدافات النوعية لبنية حزب الله الأمنية، وعلى رأسها القدرة على تفخيخ وتفجير آلاف أجهزة النداء الآلي "البيجر" وأجهزة الاتصال اللاسلكي، والقدرة السريعة على الوصول إلى قيادات الصف الأول سياسيا وعسكريا، وفي مقدمتهم الرجل الأول في الحزب حسن نصر الله، وهو ما أضعف خصما كانت تتحسب كثيرا لقدراته على مدار السنين السابقة.

وعلى الرغم من ذلك فإن التصعيد أوصل إسرائيل المنطقة إلى حافة الحرب الإقليمية، مع الاشتباك المباشر مع إيران لمرتين، والذي يشكل التهديد الأكبر لأمنها، إضافة إلى ما يشكله من تهديد لمصالح الولايات المتحدة وحلفائها في الإقليم.

دعم مكلف

وخلال عام زادت الحرب تكلفة إسرائيل على رعاتها الغربيين -وفي مقدمتهم الولايات المتحدة- وتباينت أولوياتها مع أولوياتهم، مما يدفع بها إلى تكون عبئا عليهم بدلا من أن تكون حليفة أو أداة إقليمية فاعلة لتحقيق مصالح استعمارية لدول كبرى.

كما برزت حاجتها إلى الحماية الدولية بدلا من أن تكون مركزا وسندا لتحالف إقليمي سعت اتفاقات السلام والتطبيع إلى بنائه، وتراجعت بالمحصلة مكانتها السياسية وانفتح مستقبلها على مخاطر أكبر، وهو ما يوحي به تراجع التصنيف الائتماني لها والمبني على استقراء المخاطر المستقبلية المتوقعة لها.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حراك الجامعات حريات الجامعات أکتوبر تشرین الأول طوفان الأقصى إلى إسرائیل مایو أیار وهو ما فی غزة

إقرأ أيضاً:

حماس وإسرائيل بعد عامين من طوفان الأقصى

مع مرور عامين على عملية طوفان الأقصى التي نفذتها المقاومة الفلسطينية على إسرائيل، وحرب الإبادة التي يشنها جيش الاحتلال على قطاع غزة، يبرز سؤال تقييم لمكانة كل من حركة حماس ودولة الاحتلال وظروفهما ومشروع كل منهما، وهو أمر يثير تباينا واسعا، لاختلاف منهجيات التقييم ومعاييره.

وتبرز معضلة التقييم بفعل طبيعة الصراع؛ كونه صراعا تحرر من استعمار من جهة، ولتداخله مع جوانب صراع حضاري ذي أبعاد دينية وتاريخية متشابكة.

اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2عامان على حرب الإبادة في غزة.. حصيلة المأساة الإنسانية تتكشفlist 2 of 2معاناة أهالي غزة خلال عامي الإبادة الإسرائيليةend of list

وفي حروب التحرر يكون للوعي الجمعي بشأن قيم الحرية والكرامة دورا محوريا في الصراع، وهي مفردات يصعب قياسها وتقييمها ممن يعتمدون أدوات تقييم مادية صرفة، وهو ما يظهر في تباين تقييمات بعض الدراسات التي تناولت هذا الموضوع.

معضلة منهجية التقييم

وفي هذا الصدد، تلفت الانتباه نتائج دراسة بخصوص التفاعل بين المكونات النفسية والاجتماعية لـ"إرادة القتال"، أعدّها 4 من الباحثين في جامعة ماساتشوستس-بوسطن في يونيو/حزيران 2025 بعنوان "كيف ترى غزة حرب 2023-2025 ومستقبل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني".

وكانت خلاصة هذه الدراسة بناء على مسح تمثيلي لآراء سكان القطاع في أوائل عام 2025 أن الحرب رسّخت إصرارهم على القضاء على إسرائيل، ورفضهم حلولا من قبيل الدولة الديمقراطية الثنائية القومية.

كما أكدت تمسكهم بقيم جوهرية راسخة تتعلق بالهوية الوطنية والدينية والتعلق بالأرض، وهي قيم يشيرون إلى نيتهم التمسك بها حتى مع تضحيات شخصية كبيرة، خلافا للافتراض القائل إنهم قد يكونون أكثر ميلا للتنازل عن تطلعاتهم السياسية الأكبر لمصلحة احتياجات مادية أكثر إلحاحا.

وهي نتيجة تؤكد مركزية البعد المعنوي والروحي في تقييم أهل القطاع لمسار الصراع، رغم حجم الدمار والمعاناة الهائلة التي تعرضوا لها على مدار عام ونصف، لدى إجراء هذه الدراسة.

وتعرض الدراسة خلاصة مشتركة لمجموعة من الدراسات المشابهة في العديد من البلدان والسياقات في أميركا الشمالية والوسطى، وأوروبا الغربية والشرقية، والشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وجنوب شرق آسيا.

إعلان

ومفاد هذه الخلاصة أن الأشخاص المستطلعة آراؤهم "يتخذون قرارات مصيرية بناء على أسس أخلاقية تنطوي على مخاطر شخصية ومجتمعية جسيمة، إنهم يبحثون عن قادة يبدو أنهم يُجسّدون هذه المخاوف، وأن هذه الالتزامات العميقة يُمكن أن تُمكّنهم من التفوق على خصوم يتمتعون بموارد أكبر بكثير أو تكبد خسائر فادحة في نضالات مقدسة".

وتشير الدراسة إلى الخلاف المستمر بين "الواقعيين" و"الأخلاقيين" في مجالات العلوم السياسية والعلاقات الدولية، كما هو الحال في السياسة الخارجية والدوائر العسكرية، بشأن الأهمية النسبية للعوامل المادية (الأرض، الاقتصاد، الأمن المادي، توازن القوى) مقابل العوامل المحملة بالقيم (العدالة، المُثل، مبادئ الصواب والخطأ، الهوية) في تحفيز الحروب، واستدامتها، وإنهائها.

ويظهر هذا الانقسام في التقييمات الحالية للحرب، وفقا لتباين المرجعيات الفكرية لمن يقيمها، فمثلا يتمحور تقييم طائفة من الباحثين والمحللين حول الدمار والمعاناة الإنسانية، وصولا إلى القول بعبثية المقاومة والتمركز حول فكرة الهزيمة.

في المقابل، يظهر موقف ومنظور مغاير لدى طائفة أخرى تركز على الأبعاد المعنوية، وحتمية مقاومة الاحتلال، وجدواها على المدى البعيد، مستشهدين بتجارب التحرر السابقة وما تخللته نضالات الشعوب من آلام وتضحيات.

40% من الشباب الأميركيين عبروا عن دعمهم لحماس (الفرنسية)حماس بعد عامين من الحرب

وبمحاولة مراعاة العوامل المتنوعة المذكورة يمكن تقييم حالة حركة حماس بعد عامين من الحرب على النحو التالي:

فعلى صعيد المشروع، كان برنامج الاشتباك مع إسرائيل واستنزافها عسكريا واقتصاديا وسياسيا فاعلا في المنطقة على مدار العامين الماضيين، مقابل تراجع برنامج التطبيع والسلام. وهو برنامج حماس الذي أُسست لتحقيقه.

وفي المقابل، فقد تسبب حجم الجرائم الإسرائيلية في خلق موقف شعبي فلسطيني لا يدعم جولات أخرى من المواجهة العسكرية في غزة في المدى المنظور، إضافة إلى تراجع القدرات العسكرية لحماس في القطاع إلى حد كبير، بفعل ما تعرضت له من استهداف وتشديد للحصار على مدار عامين.

في حين تبقى احتمالات الصدام العسكري حاضرة في المحيط الإقليمي لدولة الاحتلال، بفعل تغير سياستها الأمنية، وتحفز دول الإقليم تجاهها.

أما بخصوص المكانة الشعبية، فيبرز تصاعد شعبية الحركة أو مواقفها في أنحاء العالم، وفقا لما تظهره العديد من استطلاعات الرأي.

فعلى سبيل المثال، في استطلاع للرأي أجرته مؤسسة هارفارد هاريس في يوليو/تموز 2025، أجاب 40% من الشباب الأميركيين عند سؤالهم عمّن يدعمون أكثر، إسرائيل أم حماس، بأنهم يدعمون حماس.

وبالمقابل، يظهر تضرر الحاضنة الشعبية لها في قطاع غزة، وذلك بفعل مستوى جرائم الاحتلال عقب السابع من أكتوبر/تشرين الأول، ولكون مستوى مشاركة بقية الجغرافيات في المواجهة دون مستوى ردع الاحتلال عن الاستمرار في جرائمه لعامين.

كما يتعرض دور حماس داخل فلسطين لضغط شديد، بفعل التشديد الغربي والإسرائيلي على تحييد حضورها الرسمي. وفي السياق ذاته، يظهر تعرض بنيتها المدنية والعسكرية لضربات كبرى، وخصوصا في غزة.

إعلان

وبالتوازي، تتكثف الجهود الإسرائيلية والغربية لملاحقة الحركة وتقييد دورها وحضورها في الشتات، من خلال الاغتيالات والملاحقة الأمنية وتجفيف منابع التمويل، وتقويض علاقاتها السياسية، ومحاربة دعايتها وروايتها.

وبينما وفر تولّي حماس السلطة في قطاع غزة رافدا أساسيا للموارد البشرية والمادية وللشرعية والدور السياسي، فإن "الإطباق" الأميركي الإسرائيلي على دور الحركة في الحكم، وجعل غيابها شرطا أساسيا لوقف الحرب يشكل تهديدا مهما لمدى قوتها وتأثيرها في غزة وفلسطين في المرحلة القادمة.

كما تشكل الاستجابة لتحدي مساعي نزع سلاح الحركة أمرا جوهريا في ضمان بقائها الفعال كحركة مقاومة إسلامية.

وبالخلاصة تظهر المفارقة التالية؛ إذ يمكن القول إن فكرة حماس الأساسية المتمثلة في رفض الاحتلال ومقاومته بشتى الوسائل قد نالت انتشارا وسجلت تقدما غير مسبوق، وهو ما تظهره المواقف والأنشطة الشعبية والرسمية بهذا الخصوص، ومن أحدثها أسطول الصمود لكسر الحصار عن غزة، والمظاهرات الضخمة الرافضة للاحتلال وسياساته، وتوجهات الرأي العام في العالم العربي وغيره.

وبالمقابل، أدت الحرب إلى إضعاف البنية التنظيمية والدور السياسي لحماس داخل فلسطين، وهو ما يوفر بيئة مرشحة لتركز العمل المقاوم للاحتلال خارج فلسطين في الأعوام القادمة، سواء من حركة حماس أو من سواها.

رئيس الأركان الإسرائيلي إيال زامير في غزة (الصحافة الإسرائيلية)إسرائيل بعد عامين من الحرب

استعادت إسرائيل بفعل عملياتها العسكرية قدرا من الردع العسكري، وزادت من حرية حركتها، وأضعفت خصومها الأساسيين عسكريا، وفي مقدمتهم حزب الله وإيران.

فقد أسفرت الحرب عن إضعاف "محور المقاومة" بشكل غير مسبوق، وذلك بالضربات الأميركية والإسرائيلية لإيران، وبإسقاط النظام السوري، وتدمير جزء كبير من منظومة أسلحة حزب الله، وتحييد وجوده في جنوب نهر الليطاني إلى حد بعيد، وإضعاف مكانته السياسية في لبنان.

وبالمقابل، تعرضت الشرعية الدولية لإسرائيل لتراجع غير مسبوق، وتشكل أحكام المحاكم الدولية تهديدا جديا لدولة الاحتلال وقيادتها بهذا الخصوص في الفترة القادمة.

ويرجح أن تقوض جرائم الاحتلال ورد الفعل الشعبي تجاهها فرص قبول إسرائيل في المنطقة على المدى البعيد، وهو ما يظهره التحفز الرسمي والشعبي تجاه عدوانيتها وتوسعيتها المتزايدة.

بالتوازي، أسهمت الحرب في استنزاف دولة الاحتلال سياسيا واقتصاديا وعسكريا، وتزايد دور التيارات الدينية والقومية المتطرفة، ووصل الانقسام الاجتماعي إلى مستويات دفعت رئيس الدولة إلى التحذير من مخاطر الحرب الأهلية. وذلك إضافة إلى عدم عودة نسبة كبيرة من سكان غلاف غزة إلى منازلهم.

الاقتصاد والهجرة العكسية

وفي هذا السياق، أشار تقرير للبروفيسور سيرجيو ديلا بيرجولا، نشره معهد الدراسات اليهودية في يناير/كانون الثاني 2025، إلى أن عملية السابع من أكتوبر/تشرين الأول والحرب التي تلت ذلك على جبهات عدة، وما نتج عنها من مئات الخسائر العسكرية والمدنية، وتشريد مئات الآلاف في الشمال والجنوب، واستمرار تجنيد أعداد كبيرة من الشباب في جيش الاحتياط، قد تسببت في أزمة اجتماعية واقتصادية ووجودية غير مسبوقة في إسرائيل.

وشهدت إسرائيل ميزان هجرة دولية سلبيا غير مألوف، لم يسبق أن حدث هذا الميزان السلبي إلا نادرا، بضع مرات في ثمانينيات القرن الماضي، ومرة ​​في خمسينياته، ومرة ​​في عشرينياته. ومع ذلك، عندما حدث كان السبب الرئيسي لمغادرة إسرائيل أزمة اقتصادية كامنة.

وفي التداعيات الاقتصادية للحرب، توقع تقرير نشره موقع "غلوباليست" في أغسطس/آب 2025 أن يتجاوز الدين العام لإسرائيل 70% من الناتج الإجمالي لعام 2025، كما توقع أن يصل عجز الموازنة الحكومية إلى نحو 16% من الناتج المحلي الإجمالي سنويا طوال ما تبقى من هذا العقد.

إعلان

وأشار إلى انخفاض ثقة المستهلكين في إسرائيل بشكل حاد بعد اندلاع الحرب، مما أدى إلى انخفاض الإنفاق الأسري وتباطؤ النمو الاقتصادي، وإلى تضرر قطاع التكنولوجيا الفائقة الذي غادر إسرائيل حوالي 8300 من موظفيه، في الفترة ما بين أكتوبر/تشرين الأول 2023 ويوليو/تموز 2024، وهو ما يمثل حوالي 2.1% من القوى العاملة في هذا المجال في البلاد.

ولكن الدور العسكري المباشر لإسرائيل توسع بوضوح، وهو ما يشكل ميزة في الوقت الحاضر، إلا أنه يفتح الباب لتداعيات متباينة في المستقبل؛ إذ قد تدفع هذه الميزة بعض الأطراف العربية إلى توثيق العلاقة بدولة الاحتلال خوفا أو طمعا.

وقد يدفع هذا التمدد الأطراف الإقليمية إلى التقارب لإعادة التوازن إلى السياسة الإقليمية ومنع هيمنة طرف عليها. كما أن إسرائيل قد تعاني من تأثير التمدد المفرط للدور، مما يضعها أمام مخاطر انكفاء الدور والأمن في مرحلة لاحقة.

وتظهر مؤشرات على التحسب الإقليمي لتوسع الهيمنة الإسرائيلية، ومن ذلك اتفاقية الدفاع المشترك التي وقعتها السعودية مع باكستان عقب العدوان الإسرائيلي على قطر، وسعي الكويت إلى عقد اتفاقية دفاع مشترك مع تركيا.

وذلك إضافة إلى استعدادات كل من مصر وتركيا لسيناريو الصدام مع إسرائيل، وهو ما تمثل في الاستنفار العسكري المصري في سيناء، وزيادة المناورات العسكرية واتفاقات التسلح المصرية الصينية، في حين تسابق تركيا الزمن لتطوير ترسانتها العسكرية والاستعداد لسيناريو الحرب، بما يشمل قرارها بإنشاء ملاجئ عامة لكافة سكانها.

التأييد الدولي تصاعد لقضية فلسطين خلال العامين (رويترز)الاعترافات بدولة فلسطين

وعلى الصعيد الدبلوماسي، تشكل الاعترافات الدولية بالدولة الفلسطينية نكسة دبلوماسية لبرنامج اليمين الإسرائيلي الذي يرفضها بشكل قطعي.

وتكمن أهمية هذه الاعترافات في نزع الشرعية الدولية عن مساعي التوسع الإسرائيلي، وإن كانت غير مرتبطة غالبا بإجراءات فعلية، خصوصا من الدول الأوروبية.

ويبقى الإصرار الأميركي الأوروبي على مساندة دولة الاحتلال سياسيا وعسكريا واقتصاديا حجر الزاوية في إدامة وجودها وحماية دورها باعتبارها امتدادا لهيمنة غربية استعمارية قديمة ومتجددة، وهو ما ظهر بشكل صادم في العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة على المحكمة الجنائية الدولية بسبب إصدارها مذكرات اعتقال بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي ووزير دفاعه.

ويضاف إلى ذلك، استمرار تدفق المساعدات العسكرية على مدار سنتين، رغم حجم المجازر الاستثنائي الذي أثار حفيظة عموم المؤسسات الدولية المعنية بحقوق الإنسان والقانون الدولي، وهو ما يشير إلى أن أي مشروع لمقاومة الاحتلال سيبقى قاصرا ما لم يتكامل مع مشروع عالمي لمواجهة الهيمنة الغربية المتحالفة مع الصهيونية.

خلاصات: أضعفت الحرب كلا من حماس وإسرائيل، واستنزفتهما إلى حد غير مسبوق. فرضت حماس مشروعها، ونشرت فكر مقاومة الاحتلال على مدار عامين. تضررت بنية حماس العسكرية للغاية في الحرب. تضرر الردع الإسرائيلي بشدة بفعل عملية طوفان الأقصى، لكن إسرائيل تمكنت من استعادة قدر كبير منه. تضررت سمعة إسرائيل دوليا، كما تأثرت سلبا فرص التطبيع مع دول المنطقة. دفعت إسرائيل وداعموها نتيجة لحرب الإبادة في غزة ثمنا باهظا على صعيد الشرعية الدولية. تضررت فرص قبول دولة الاحتلال في المنطقة واستقرار الأنظمة المتحالفة معها.

مقالات مشابهة

  • تطورات "طوفان الأقصى" والعدوان الإسرائيلي على غزة 8 أكتوبر
  • عامان على طوفان الأقصى: خسائر بشرية واقتصادية غير مسبوقة تهز إسرائيل (أرقام)
  • بين طوفان الأقصى وتسونامي الأكاذيب .. الأمم المتحدة في خدمة الاحتلال الإسرائيلي
  • حماس وإسرائيل بعد عامين من طوفان الأقصى
  • "الشعبية": "طوفان الأقصى" شكلت صرخةً مدوية في وجه الطغيان الإسرائيلي
  • من “طوفان الأقصى” إلى خطة ترامب للسلام: أبرز محطات الحرب والصراع في غزة والمنطقة
  • من طوفان الأقصى إلى خطة ترامب للسلام: أبرز محطات الحرب والصراع في غزة والمنطقة
  • تطورات "طوفان الأقصى" والعدوان الإسرائيلي على غزة 7 أكتوبر
  • كيف كشف طوفان الأقصى حلم دولة الاحتلال لمشروع إسرائيل الكبرى؟
  • تطورات "طوفان الأقصى" والعدوان الإسرائيلي على غزة 6 أكتوبر