غزة.. بين ألم الحرب وأمل الحياة
تاريخ النشر: 8th, October 2024 GMT
كل العالم يتحدث عن المأساة التي يعيشها أهل غزة بعد عام كامل على بدء حرب الإبادة في القطاع، لكن لا أحد يستطيع أن يفعل شيئا حقيقيا يمكن أن يوقف الحرب ويخمد نيرانها.. حتى أمين عام الأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش كان يتحدث مساء أمس بكثير من الغصة والألم والحزن، ولكن ألمه وألم ملايين المتعاطفين مع ضحايا الإبادة لا يشبه أبدا ألم أهل غزة ولبنان في هذه اللحظة الصعبة.
تغرق غزة على وجه التحديد في مأساة إنسانية يزداد عمقها وفداحتها بمرور الأيام، رغم أن المآسي عندما تصل إلى ذروتها تبدأ في التراجع لكن مأساة غزة منذ القصف الأول وصلت إلى ذروتها وما زالت تتفاعل في منطقة التذروة دون أي أفق لانحدارها في ظل غياب كامل للإرادة الدولية لوقف الحرب وكبح جماح نتنياهو المتعطش للدم والدمار. لم تعد تحديات غزة متمثلة في سيل النيران التي تسقط عليهم ليل نهار فذاك أصبح جزءا من حياتهم اليومية ولكن معنى المأساة يتضح بشكل جلي في الحياة الممزقة بين جدران الحصار وظلال الموت.
تعاني العائلات التي نجت من الموت من عذاب الجوع والعطش، ومن رؤية الأطفال وهم يتضورون جوعا بسبب حرب التجويع الظالمة التي ما زال العالم يصمت عنها وعن أثرها المروع في نفوس شعب شعر بالمعنى الحقيقي للخذلان الإنساني. وترسم التحذيرات الصادرة عن المنظمات الدولية صورة قاتمة لمستقبل غزة؛ فحتى الأطباء والمسعفين يكافجون من أجل النجاة في ظل خروج النظام الصحي عن العمل بشكل كامل وفي ظل استهداف الطواقم الطبية وقنصها من قبل جيش الاحتلال الهمجي.
إن العالم مطالب في هذه اللحظة أن ينتشل انسانيته المعطلة ويكافح بشكل حقيقي لوقف هذه الحرب التي تكشف خطوط الحزن والخوف على وجوه نساء غزة مرارتها.. وهذا أضعف الإيمان، أو هو تلويحة الأمل وسط ظلام دامس.
إن أي فعل لا يوقف الحرب، ولا يوقف قتل الأطفال والنساء واستخدام حرب الجوع والعطش لا يعول عليه أبدا.. وسيبقى خارج سياق التاريخ حتى لو كان من أمين عام الأمم المتحدة.
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
الاستعمار الرقمي ودروس العدوان على إيران
لا يجب أن يمر علينا خبر وقف إيران لاستخدام برامج تحديد المواقع والملاحة الأمريكية «جي بي اس» على أراضيها واستبداله بالنظام الصيني «بيدو» مرور الكرام. هذا التحول الإيراني له دلالاته وتبعاته العالمية، خاصة بعد استخدام إسرائيل والولايات المتحدة الواسع لهذه البرامج في العدوان على إيران واستهداف علمائها وقادتها العسكريين، والسيطرة على أجوائها وتحييد دفاعاتها الجوية طوال أيام الحرب الأخيرة.
ورغم الدروس الكثيرة التي يمكن أن نتعلمها من هذه الحرب فان الدرس الأساسي والمحور- في ظني- هو الاعتراف بتدني قدراتنا كدول عالم نامية في المجال الرقمي، وعدم قدرتنا على مواجهة التفوق التقني الأمريكي- الصهيوني، وضرورة العمل على حماية أنفسنا وأوطاننا من الاستهداف الرقمي الذي يسعى إلى إبقائنا في موضع التبعية الرقمية. انضمت إيران بهذا التحرك المتأخر إلى دول عديدة في العالم اتجهت في السنوات الأخيرة مدفوعة برغبتها في الحفاظ على أمنها القومي إلى وقف استخدام هذه البرامج على أراضيها واستبدالها بأنظمة وطنية أكثر أمنا، حتى وإن لم تكن بالضرورة أكثر كفاءة من الأنظمة الأمريكية.
ولعل من أبرز الدول التي تسعى إلى تحقيق الاستقلال الرقمي، روسيا، التي نجحت في تطوير نظام ملاحة وتحديد المواقع يعتمد على الأقمار الاصطناعية يسمى «جلوناس»، يتم استخدامه في الأغراض المدنية والعسكرية. وأسست الهند نظام ملاحة إقليميا خاصا بها يسمى «نافيسي» مصمما لتقديم خدمات تحديد المواقع في الهند والدول المحيطة بها. وطورت كوريا الشمالية أنظمة ملاحتها الخاصة ليس فقط بسبب العقوبات الدولية المفروضة عليها، ولكن أيضا لأسباب أمنية أيضا تمنعها من استخدام الأنظمة العالمية. ورغم تحالفها القوي مع الولايات المتحدة أطلقت دول الاتحاد الأوروبي نظام ملاحة خاصا بها يسمى «جاليليو» ليكون بديلا مستقلا للنظام الأمريكي، يوفر لدول الاتحاد المزيد من الاستقلالية والأمن.
لم تكتف إيران بذلك، واستفادت من دروس المواجهة غير المتكافئة التي فرضتها عليها الولايات المتحدة وإسرائيل، ودعت مواطنيها إلى التوقف عن استخدام بعض تطبيقات شبكات التواصل الاجتماعي مثل «واتساب»، و«تلغرام» وغيرهما من التطبيقات التي تعتمد على نظام تحديد المواقع، وذلك بعد أن تبين أن الشركات الأمريكية التي تدير هذه التطبيقات تواطأت في تمرير معلومات حساسة إلى الأمريكيين والإسرائيليين ساعدتهم في استهداف المواقع الإيرانية واغتيال الشخصيات المؤثرة خلال الحرب. وقد أثارت الخطوة الأخرى مخاوف شركة «ميتا» المالكة لواتساب وفيسبوك خشية أن تسير دول أخرى في العالم على نفس النهج الإيراني الجديد.
كل ما سبق يقودنا إلى إدراك حقيقة أن هناك احتلالا أمريكيا رقميا للعالم، سمح لها عبر شركات التقنية العملاقة المرتبطة بالتأكيد بالمخابرات المركزية الأمريكية «سي آي آيه» بالوصول إلى قلب كل دولة ومراقبة أنظمتها التقنية، واستنزافها سياسيا واقتصاديا، دون حاجة لغزو عسكري أو احتلال أراض. إنه استعمار من نوع جديد يختلف تماما عن صور وممارسات الاستعمار القديم. استعمار لا يقوم على إخضاع الدول والشعوب بقوة السلاح أو الاقتصاد فقط، وإنما بالسيطرة أيضا على أنظمتها الرقمية وانتهاك سيادتها بالخوارزميات والأنظمة التكنولوجية شديدة التعقيد، التي تستطيع تحديد قائمة الأهداف في الصراعات العسكرية وضربها عن بعد، وإشعال النزاعات والحروب الأهلية والإقليمية وتأجيج الثورات وهندسة الانقلابات في الدول والأقاليم التي لا ترضى عنها الإدارة الأمريكية وحلفائها.
حقيقة الأمر أن الولايات المتحدة تسيطر على السوق الرقمي سيطرة شبه كاملة، وباستثناء محاولات محدودة لتحقيق الاستقلال الرقمي كما في حالات الصين وروسيا والهند وكوريا الشمالية، والاتحاد الأوروبي، وإيران الآن، تبقى دول العالم محتلة رقميا من جانب الولايات المتحدة، سواء على مستوى الأجهزة التي يتم استخدامها في الوصول إلى الإنترنت وتطبيقات التواصل الاجتماعي، أو على مستوى قدرة تلك البرامج والأنظمة على الوصول إلى أدق التفاصيل عن الدول والشعوب، ووأد أية محاولة للتمرد على السيد الأمريكي القوي.
وكما تواطأت شركات إنتاج أجهزة البيجر التي استخدمتها إسرائيل في اغتيال عدد كبير من قادة حزب الله في حربها على لبنان، تواطأت شركات عالمية أخرى متخصصة في إنتاج الهواتف المحمولة لتسهيل عملية استهداف القادة العسكريين والعلماء الإيرانيين الذين كانوا يستخدمون تلك الأجهزة.
وقد اعترفت مصادر إسرائيلية بذلك، وأكدت «إن فرق «الموساد» الإسرائيلي التي انتشرت في إيران قبل الحرب استقدمت أجهزة من الخارج عبر شركات تجارية محلية، في سيناريو شبيه بتفجيرات البيجر التي طالت الصيف الماضي المئات من عناصر حزب الله في لبنان». وإذا كان الشيء بالشيء يذكر فإننا يجب ألا ننسى أن اغتيال شخصيات فلسطينية ولبنانية رفيعة المستوى مثل اغتيال إسماعيل هنية رئيس المكتب السياسي لحركة المقاومة الإسلامية «حماس» في غرفته بفندق في طهران منذ عام تقريبا، وموجة الاغتيالات التي طالت قادة من الحركة مثل صالح العاروري، وقادة حزب الله في لبنان وعلى رأسهم حسن نصر الله الأمين العام للحزب وعدد من قادته العسكريين والميدانيين، تمت كلها عبر اختراق شبكات الاتصال.
في تقديري أن هذه الاغتيالات لم تكن لتتم على هذا النحو الكاسح لولا هذا الاستعمار الرقمي الذي مكن العدو من تحديد مواقع القادة بدقة واستهدافهم بشكل مباشر. في مقابل ذلك فإن استمرار الحرب الإسرائيلية الغاشمة على غزة، واستمرار نجاح المقاومة في استهداف الجنود الإسرائيليين وعجز إسرائيل بكل ما لديها من قوة على الوصول إلى أماكن احتجاز أسراها يؤكد حقيقة إمكانية العمل دون أجهزة وبرامج اتصالات أمريكية بعد أن نجحت المقاومة في بناء نظامها الخاص وإنتاج سلاحها بإمكانات محدودة للغاية وما زالت رغم هدم غزة كلها تقريبا قادرة على إيلام العدو ومنع وصوله إلى أسراه داخل القطاع.
إن التحرر الوطني من التبعية الرقمية للولايات المتحدة أصبح ضرورة، خاصة في هذا العصر الذي تحولت فيه الولايات المتحدة وحلفاؤها القريبون جدا منها مثل إسرائيل إلى محتل رقمي يمكن أن تصل ذراعه الطويلة إلى أي مكان في العالم. لم تعد الولايات المتحدة مؤتمنة على العالم وهي تكيل بمكيالين وتتعامل مع العالم بمنطق استخدام القوة المفرطة على جميع الأصعدة.
من هنا يتوجب على دول العالم أن تسعى إلى تحقيق سيادتها الرقمية على أراضيها، خاصة تلك الدول التي تتوافر لها إمكانات بشرية وموارد اقتصادية قادرة على إنتاج الأنظمة والبرامج والتطبيقات وأجهزة الاتصالات المؤمنة من الاختراق. لقد ناضلت دول العالم لسنوات طويلة للتحرر من الاستعمار الأوربي التقليدي ونجحت بعد عناء في الحصول على استقلالها، وعليها الآن أن تناضل من أجل التحرر من الاستعمار الأمريكي الرقمي، الذي لا يهدد الأمن الوطني لكل دولة على حدة، وإنما يهدد الأمن والسلم العالميين.