د. نازك حامد الهاشمي
لخلق وبناء مجتمع مستدام، من الضروري ألا تكون هناك حدوداً فاصلة بين الاقتصاد والسياسة والمجتمع، حيث أن هذه العناصر مترابطة وتعتمد على بعضها البعض؛ إذ أن الاقتصاد يحدد القدرة المالية للدولة على تمويل المشاريع التنموية والاجتماعية، بينما تؤثر السياسات الحكومية على كيفية توزيع الموارد وتحقيق العدالة الاجتماعية.
إن التنمية البشرية ليست مجرد هدف في حد ذاتها، بل هي وسيلة لتحقيق التنمية الاقتصادية المستدامة والشاملة، مما يخلق تحسنا متدرجاً ومستمراً في جودة الحياة للأفراد، والنمو الاقتصادي للدول. وتعتبر تنمية الإنسان هي ركيزة أساسية للتنمية الاقتصادية، حيث يعتمد التقدم الاقتصادي على تحسين قدرات وموارد الإنسان، فهو العنصر الأساسي في الإنتاج والإبداع؛ وإن استثمار الجهود في تنمية الإنسان من خلال التعليم والصحة والتدريب يعزز من إنتاجيته وفاعليته في تعزيز الاقتصاد. وينبغي تذكر أن الاستدامة في تنمية الإنسان ليست مجرد عملية تعليمية محددة ومحدودة، بل هي نهج شامل يتطلب تخطيطًا طويل الأجل وجهودًا مستمرة لنشر الوعي وتعزيز القيم البيئية والاجتماعية. ويتطلب ذلك التعليم بالتدرج تشجيع المسؤولية الاجتماعية واستخدام التكنولوجيا وتحفيز التفكير النقدي، مع التركيز على أهمية التنمية المستدامة وحماية الموارد الطبيعية. ويجب أن يرتكز هذا النهج على التعليم المجود والتوعية المستدامة، حيث أن التعليم هو الركيزة الأساسية لتطوير الوعي البيئي والاجتماعي.
ويمكن تحقيق كل أو جل ما سبق ذكره من خلال إدراج مفاهيم الاستدامة في المناهج الدراسية والتدريب المهني لتحسين كفاءة الموارد. ويتضمن التخطيط المتدرج رفع الوعي من خلال تقديم معلومات بسيطة في البداية، ثم الانتقال تدريجيًا إلى مفاهيم أكثر تعقيدًا مثل إدارة المخلفات والاقتصاد الدائري. ومن المهم أيضًا تعزيز المسؤولية الاجتماعية من خلال تعليم الأفراد أهمية اتخاذ قرارات تعود بالفائدة على المجتمع والبيئة، ومشاركة القطاع الخاص بفعالية في تبني ممارسات مستدامة ودعم المبادرات البيئية.
يسهم إدراك السكان لدورهم في إدارة المجتمع من خلال المحافظة على النظام والنظافة في تعزيز جودة الحياة والبيئة. وعندما يدرك الأفراد أهمية الحفاظ على نظافة محيطهم، يتجلى ذلك في مشاركتهم الفعالة في الأنشطة التطوعية التي تهدف إلى تحسين بيئتهم. إن التطوع للقيام بمثل تلك الأعمال لا يساهم في تحسين المظهر الجمالي فحسب، بل يساهم أيضاً مساهمة مقدرة في تعزيز الوعي البيئي، مما يشجع المجتمعات على اتخاذ خطوات إيجابية نحو الاستدامة. يُعتبر التطوع في خدمة المجتمع عند العديد من الثقافات شرطًا أساسيًا للعمل أو حتى الدراسة، مما يعكس العلاقة التبادلية بين الفرد ومجتمعه. ويُساعد هذا الشرط الأفراد على تطوير مهاراتهم الشخصية والاجتماعية، ويعزز شعورهم بالمسؤولية تجاه المجتمع، مما يؤدي إلى خلق مجتمع أكثر تماسكًا وفعالية. في أفريقيا، تعتبر مبادرات مثل برنامج "مبادرة نظافة نيروبي" في كينيا مثالاً على نجاح المجتمعات في تحسين النظافة العامة من خلال العمل التطوعي؛ حيث تشارك مجموعات من الشباب في حملات تنظيف الشوارع والحدائق العامة، مما يعزز الشعور بالفخر والانتماء. كذلك، في مدينة "أكرا" في غانا، أسس المجتمع مبادرات طوعية لتنظيف الأنهار والشواطئ، مما ساهم في الحد من تلوث المياه وتعزيز الوعي حول أهمية الحفاظ على البيئة.
وتعد الإدارة الحياتية (أو إدارة الحياة) ذات علاقة وثيقة بتنمية الإنسان، حيث تشمل تنظيم الأوقات واتخاذ القرارات الصائبة، وتطوير المهارات اللازمة لتحقيق أهداف الحياة. إن هذه الإدارة تساعد الإنسان في تطوير جوانب مختلفة من حياته مثل العمل والعلاقات الاجتماعية والصحة النفسية والجسدية والتوازن بين الحياة الشخصية والمهنية. وتُعد الإدارة الحياتية عنصرًا حيويًا في تنمية الإنسان، حيث تساعد في تحقيق الأهداف الشخصية والمهنية من خلال تحديد الأهداف ووضع خطط فعّالة. كما تعزز القدرة على التحكم في التوتر وإدارة الأزمات بمرونة. وعلاوةً على ذلك، تتيح الإدارة الحياتية للفرد الاستفادة من الفرص التي تظهر في حياته، سواءً أكانت فرص عمل أو تعلم مهارات جديدة.
وتظهر المشكلات عندما يمتلك الشخص "ذكاءً فعالاً" ولكنه يفتقر إلى "الإدراك الحياتي". يعني ذلك أنه قد يكون المرء ماهرًا في حل المشكلات أو تطبيق المنطق في مواقف محددة، لكنه يواجه صعوبة في فهم الآثار العميقة لقراراته في العالم الحقيقي والسياق الإنساني المحيط بها. ولا يعكس ذلك بالضرورة افتقارًا كاملًا للتفكير النقدي، بل قد يشير إلى فجوة في الحكمة العملية والتعاطف، وهما عنصران أساسيان في التفكير النقدي الشامل. فالتفكير النقدي لا يقتصر على التحليل المنطقي فحسب، بل يتطلب أيضًا استيعاب وجهات نظر متنوعة والتعرف على التحيزات السلبية، مما يعزز القدرة على تطبيق الحكم السليم في المواقف الحياتية. وفي قرارات تأخذ في اعتبارها الأبعاد العاطفية والاجتماعية والأخلاقية. هذا الأمر ينطبق أيضًا على القادة السياسيين الذين قد يكونون ممن تلقوا تعليماً عالياً إلا أنهم يفتقرون إلى الإدراك الحياتي. فقد يفشل هؤلاء القادة في اتخاذ قرارات حاسمة قد تحدد مصير دولهم، حيث تكون قراراتهم مبنية على تحليل سطحي أو تقديرات غير دقيقة للعواقب الاجتماعية والسياسية. لذا، فإن الفرد الذي يمتلك ذكاءً عالياً في مجال محدد ولكنه يفتقر إلى الإدراك الحياتي قد ينجح في حل المسائل المعقدة من الناحية النظرية، لكنه قد يغفل التأثيرات المحتملة لتلك الحلول على حياة الناس والمجتمع بشكل عام.
وعندما تفتقد الشعوب مهارة الإدراك، فإن ذلك يؤثر سلبًا على التنمية السياسية بشكل كبير. غياب الوعي بين أفراد المجتمع يُضعف المشاركة السياسية الفاعلة، حيث يصبح المواطنون غير قادرين على فهم حقوقهم وواجباتهم بشكل واضح، مما يمهّد الطريق أمام الفساد وسوء الإدارة. وفي ظل ضعف الإدراك السياسي، يمكن تضليل الرأي العام بسهولة من خلال الدعاية الموجهة أو المعلومات المغلوطة التي تروجها بعض الجهات لتحقيق مصالحها الخاصة. يُستغل المواطنون في هذه الحالات من قبل السياسيين أو الجماعات ذات النفوذ، حيث يتم التلاعب بهم لدعم سياسات أو قرارات قد لا تكون في مصلحتهم.
ويُمكن توجيه الرأي العام نحو قضايا جانبية وتجاهل القضايا الأكثر أهمية من خلال السيطرة على وسائل الإعلام أو نشر أخبار غير دقيقة. كذلك، قد يتم تشتيت انتباه المواطنين عن حالات الفساد أو الانتهاكات، وهذا مما من شأنه أن يفضي إلى غياب الضغط المجتمعي اللازم لإصلاح الأنظمة السياسية وتحقيق المساءلة. وفي النهاية، يؤدي غياب الإدراك إلى عزل المجتمع عن المشاركة في القرارات الحاسمة، مما يضر بالتنمية السياسية. واقتصاديًا، قد تواجه الشعوب التي تفتقر إلى الإدراك صعوبة في تبني التقنيات الحديثة وتحسين الإنتاجية. ومن شأن هذا الوضع إعاقة قدرتهم على التكيف مع التغيرات الاقتصادية، مما يؤدي إلى تباطؤ النمو وتراجع القدرة التنافسية. كما، يؤدي ضعف الإدراك إلى تفاقم المشكلات الاجتماعية، وانتشار سلوكيات غير صحية، وزيادة التمييز والعنف، مما يعيق التماسك الاجتماعي. ويعد تعزيز الانقسامات القبلية أحد اثاره، حيث يميل الأفراد إلى الانتماء بشكل أقوى إلى قبائلهم، مما يزيد من النزاعات ويعزز من خطاب الكراهية والتطرف وغيرها، مما يؤدي ان تسهم هذه الظروف مجتمعة في صعوبة الحوار بين الثقافات أو القبائل المختلفة داخل الدولة الواحدة وتتفشي الصور النمطية السلبية والمعلومات الخاطئة، وتعزز من التوترات والصراعات القبلية. ومن ثم يصبح من السهل انتشار خطاب الكراهية والمعلومات المضللة، حيث يتبنى الأفراد أفكارًا متطرفة تتعلق بقبيلتهم أو جماعتهم، مما يزيد من الاستقطاب ويؤدي إلى تصاعد النزاعات.
إن غياب الوعي والمعرفة لدى الأفراد، ولا سيما الشريحة الأكثر تعليمًا، يؤدي إلى ضعف المشاركة في نقل المعرفة إلى المجتمع والمشاركة الفعالة في اتخاذ القرارات. ويسهم هذا بدوره في زيادة الفساد وتفشي الممارسات غير الفعالة. كما أن قلة الإدراك عند المتعلمين في بعض المجتمعات قد تؤدي إلى تأثيرات سلبية على عدة مستويات، بدءًا من التعليم، ووصولًا إلى الحياة الاجتماعية بشكل عام. حيث يظهر ضعف التفكير النقدي كظاهرة بارزة، مما يجعل المتعلمين أقل قدرة على تحليل المعلومات بعمق، ويعرضهم للأفكار الخاطئة والمعلومات المضللة. ومع تراجع مستوى الإدراك، تتضاءل القدرة على التفكير الإبداعي واقتراح حلول جديدة للمشكلات، مما يؤثر سلبًا على تقدم المجتمع في مختلف المجالات. كما تتجلى هذه التأثيرات أيضًا في انعدام الاهتمام بالمشاركة المجتمعية، مما يزيد من العزلة بين المتعلمين والشرائح الأخرى، سواء تلك الأقل تعليمًا أو غير المتعلمة. وبالتالي، يتقلص دورهم في بناء الدولة، مما يعيق عملية التنمية الشاملة ويقلل من فعالية المشاركة المدنية. لذا، يُعتبر تعزيز الإدراك والوعي بين المتعلمين ضرورة ملحة لتحقيق مجتمع أكثر تماسكًا وتقدمًا، حيث يسهم ذلك في تعزيز قدرة الأفراد على المساهمة الفعالة في بناء مستقبل أفضل.
إن هنالك أمثلة عديدة لدول نامية استطاعت أن تحقق الاستدامة في التنمية ببناء مجتمعات متوازنة مستقرة مثل دولة رواندا، التي تمكنت بعد الإبادة الجماعية في عام 1994م من التركيز على التعليم والتكنولوجيا والابتكار، وتحقيق نمو ملحوظ في أقل من 25 عامًا. (وفقاً لتقارير البنك الدولي ومنظمة الأمم المتحدة). وهناك مثال آخر في آسيا هو دولة كوريا الجنوبية، التي أفلحت بعد الحرب الكورية (1950-1953م)، في حوالي أربعين عامًا فقط تحقيق تقدم اقتصادي هائل. فقد شرعت في الاستثمار في التعليم والتكنولوجيا منذ الستينيات، مما حولها إلى قوة اقتصادية عالمية بحلول التسعينيات.
لذا يمكن القول بأنه من الضروري تعزيز الإدراك والوعي من خلال الاستثمار في التعليم والتدريب، وممارسة نقل المعرفة من أجل تنمية مهارة الإدراك، إذ أن ذلك يساهم ذلك في بناء مجتمع قادر على الابتكار والإبداع، ويعزز من قدرة الدولة على تحقيق التنمية المستدامة. إن الارتقاء بمستوى الإدراك يسهم في تحسين نوعية الحياة، وتعزيز التماسك الاجتماعي، وفتح آفاق جديدة للنمو والتطور، بالتالي، فإن تعزيز الإدراك ليس مجرد خيار، بل هو شرط أساسي لتفعيل الطاقات الكامنة وبناء مجتمع متكامل قادر على مواجهة التحديات المعاصرة.
nazikelhashmi@hotmail.com
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: التنمیة المستدامة التفکیر النقدی تنمیة الإنسان القدرة على الفعالة فی یؤدی إلى فی تعزیز قدرة على یعزز من من خلال
إقرأ أيضاً:
الذكاء الاصطناعي يتفوق على الذكاء البشري في التعليم
في مقالة بعنوان "انطلاق عصر الذكاء الاصطناعي"، نشرها بيل غيتس في مارس/آذار 2023، توقع أن تصبح تقنيات الذكاء الاصطناعي الأداة المحورية في التعليم، مما سيؤدي إلى تحول جذري في طرق التدريس وأساليب التعلم.
وأوضح غيتس أن هذه التقنيات ستتمكن من التعرف على اهتمامات المتعلم وأساليبه الشخصية في التعلم، مما يتيح لها تصميم محتوى مخصص له يحافظ على تفاعل عقله ونشاطه.
كما أشار إلى أن هذه التقنيات ستقيس بشكل مستمر مستوى فهم المتعلم، وستراقب علامات فقدان الاهتمام أو التركيز عليه، إضافة إلى أنها ستتعرف على أنواع التحفيز التي يتجاوب معها كل فرد بشكل أفضل، وتقدم له تعليقات فورية وإرشادات مباشرة حول أدائه.
وفي مقابلة أجراها البروفسور آرثر بروكس من جامعة هارفارد معه في فبراير/شباط 2025، توقع غيتس أن يؤدي انتشار تقنيات الذكاء الاصطناعي المتطورة إلى تقليل الاعتماد التقليدي على المعلمين، حيث ستوفر هذه التقنيات فرصاً تعليمية عالية الجودة بشكل مجاني ومتاحة على نطاق واسع للجميع. وأكد أن الذكاء الاصطناعي سيسهم بشكل كبير في تحقيق المساواة في التعليم، عبر إتاحة فرص التعلم الجيد لمختلف الفئات الاجتماعية والاقتصادية، مما يعزز من إمكانية وصول الجميع إلى مستوى تعليمي متميز ومتطور.
أما توماس فراي، المدير التنفيذي لمعهد دافنشي الأميركي وأحد أشهر المتحدثين عن المستقبل، فتوقع أنه "بحلول عام 2030، ستكون أكبر شركة على الإنترنت هي شركة قائمة على التعليم، لم نسمع بها حتى الآن". وحظي هذا التوقع بتأييد العديد من المفكرين ورواد الأعمال. فإذا تمكنت منصة تعليمية تديرها تقنيات الذكاء الاصطناعي من الهيمنة على المشهد التعليمي العالمي، سيكون بإمكانها الوصول إلى أكثر من 1.5 مليار طالب ومتدرب في مختلف أنحاء العالم وبالعديد من اللغات.
إعلانويمكن لهذه المنصة أن تكون مجانية كلياً أو جزئياً بتمويل من عائدات الإعلانات، مثل نموذج الأعمال الذي اعتمده محرك البحث غوغل. ويعزز من واقعية هذا التوقع ما صرح به المنتدى الاقتصادي العالمي من أن حجم سوق التعليم العالمي قد يصل إلى 10 تريليونات دولار بحلول عام 2030، وأن تلعب تكنولوجيا التعليم دوراً محورياً وحاسماً في تحقيق ذلك.
في كتاب جان كلود برينجييه "محادثات مع جان بياجيه" الصادر عام 1980 يقول جان بياجيه، عالم النفس والفيلسوف السويسري الذي طور نظرية التطور المعرفي عند الأطفال: "التعليم، بالنسبة لمعظم الناس، يعني محاولة جعل الطفل يشبه الشخص البالغ النمطي في مجتمعه، لكن بالنسبة لي، التعليم يعني إعداد مبدعين. يجب إعداد مخترعين، مبتكرين، لا مقلدين أو منساقين مع التيار السائد".
ويُعتبر جان بياجيه الأب الروحي لنظرية التعلم البنائي أو البنائية (Constructivism) التي تعتبر من أهم النظريات التربوية الحديثة، وتقوم على فكرة أن المتعلم لا يستقبل المعرفة بشكل سلبي، بل يبنيها بنفسه من خلال التفاعل مع البيئة والخبرة والتجريب وربط المعلومات الجديدة بالمعرفة السابقة.
تتمثل المبادئ الأساسية لنظرية التعلم البنائي فيما يلي:
المتعلم يبني معرفته بنفسه من خلال التجارب والتفاعل. التعلم نشاط ذاتي، ولا يقوم فقط على التلقين. الخبرات السابقة مهمة لفهم المعلومات الجديدة. الخطأ جزء طبيعي من التعلم، لأنه يساعد على تعديل الفهم. المعلم ليس ناقلا للمعرفة، بل مرشداً يُسهّل بناءها. البيئة التعليمية يجب أن تكون مفتوحة، داعمة، ومحفّزة على التساؤل والتجريب.واجه تطبيق هذه النظرية صعوبات عديدة بدأت تتقلص مع التطور التكنولوجي السريع، الذي وفر أدوات وتقنيات تسهل عملية التعلم التفاعلي والبنائي.
التقنيات الحديثة تُعيد تشكيل التعليمبدأت التكنولوجيا بالدخول إلى الفصول الدراسية منذ عشرينيات القرن الماضي، فمن أجهزة العرض (بروجكتور) والراديو وأشرطة الفيديو، إلى الحواسيب الشخصية والسبورات التفاعلية المتصلة بالإنترنت. وتطور الأمر إلى دمج الواقع الممتد (XR)، الذي يشمل الواقع المعزز والافتراضي والمختلط بها، مما منح الطلاب تجارب غنية يصعب تحقيقها في بيئات التعليم التقليدية.
في نوفمبر/تشرين الثاني 2018، أصبحت جامعة "إمبريال كوليدج لندن" أول من استخدم تقنية الهولوغرام في المحاضرات، فقد نظّمت الجامعة مؤتمراً بعنوان "المرأة في التكنولوجيا"، استضافت فيه شخصيات من الولايات المتحدة لم يسافروا إلى لندن، بل تم عرض صورهم المجسّمة بتقنية الهولوغرام ثلاثية الأبعاد على المسرح، وظهروا كأنهم يقفون فعلياً أمام الجمهور، يتحدثون ويتفاعلون معه.
وفّر هذا التطور تجربة واقعية دون الحاجة إلى السفر، وبدأت جامعات عديدة حول العالم باعتماد هذه التقنية بديلا أكثر تطوراً من مؤتمرات الفيديو، لكن لا يزال استخدام هذه التقنية محدوداً بسبب التكلفة وتعقيدات التشغيل، غير أنها تنمو بسرعة مع تطور التكنولوجيا وانخفاض أسعارها.
إعلانومع تطور الذكاء الاصطناعي والتقنيات التفاعلية بدأت التطبيقات التكنولوجية الموجهة للتعليم تتسع. ففي سبتمبر/ أيلول 2020، أنشأت جامعة نوتنغهام في المملكة المتحدة أول وحدة تعليمية متكاملة للتدريس باستخدام الواقع الافتراضي (VR)، حيث يخوض الطلاب تجارب هندسية كاملة في بيئة افتراضية تُحاكي العالم الحقيقي.
استخدم الطلاب فيها جزيرة افتراضية أطلق عليها اسم نوتوبيا (Nottopia) كبيئة تفاعلية لتعليم تصميم المنتجات ومحاكاة المشاريع الهندسية والتعاون داخل فضاءات رقمية ثلاثية الأبعاد. مصطلح نوتوبيا مركب من كلمتين Nott + Utopia، كلمة "نوت" مقتطعة من اسم الجامعة نوتنغهام، و"توبيا" مأخوذة من كلمة Utopia، وهي مصطلح يوناني الأصل يعني "المدينة الفاضلة أو المثالية"، وبذلك نوتوبيا تعني "المدينة المثالية الافتراضية الخاصة بجامعة نوتنغهام".
وفي عام 2023 وافق مجلس المدارس المستقلة في أريزونا على إنشاء مدرسة جديدة عبر الإنترنت باسم "Unbound Academy"، تعتمد على الذكاء الاصطناعي في التدريس بدلاً من المعلمين التقليديين. بدأت هذه المدرسة عملها واستقبال الطلاب في خريف 2024، وتهدف إلى تقديم تعليم مخصص وفعّال من خلال نموذج "التعلم لمدة ساعتين"، حيث يتم تدريس المواد الأساسية مثل الرياضيات والقراءة والعلوم باستخدام الذكاء الاصطناعي، مما يتيح للطلاب إكمال مناهجهم الدراسية في وقت أقصر، ويمنحهم بقية اليوم لتطوير مهارات الحياة واستكشاف اهتماماتهم الشخصية.
يستخدم الذكاء الاصطناعي لتكييف المحتوى مع مستوى كل طالب، مما يسمح بتعلم مخصص يتناسب مع احتياجاتهم الفردية.
وأظهرت الدراسات أنه بإمكان الطلاب إكمال مستوى دراسي كامل في 80 يوما فقط باستخدام هذا النموذج.
وفي17 ديسمبر/كانون الأول 2024 قدم الروبوت "كاتشيا" دروساً لطلاب مدرسة "وليامز" الثانوية في مدينة ديلمنهورست شمال ألمانيا. و"كاتشيا" هو روبوت بشري الشكل يعمل بالذكاء الاصطناعي، تم تطويره بواسطة شركة هيدوبا للأبحاث (Hidoba Research) ومقرها هونغ كونغ.
قاد هذا الروبوت يوماً دراسياً كاملاً تضمن محاضرة تفاعلية بعنوان "الفرق بين تفكير الذكاء الاصطناعي وتفكير البشر"، حيث طرح أسئلة على الطلاب للتأكد من فهمهم للمحاضرة، وأدار أيضاً مناظرة حول تأثير الذكاء الاصطناعي على المجتمع.
يرى لويس فون آن، مؤسس ورئيس شركة دولينغو التنفيذي، أنه لا يوجد شيء لا يستطيع الذكاء الاصطناعي تدريسه، ولكنه يقول إن المدارس لن تنقرض لأن العائلات بحاجة إلى من يرعى أطفالها. وشركة دولينغو واحدة من أكثر منصات تعليم اللغات انتشاراً في العالم، خاصة في مجال التعلم التفاعلي الذاتي، وقد أعلنت مؤخراً أنها ستستبدل الذكاء الاصطناعي بقسم من موظفيها المتعاقدين بشكل دائم.
وفي لقاء حديث مع طلاب جامعة كامبريدج قال ديميس هاسابيس الرئيس التنفيذي لشركة غوغل ديب مايند: "التغيير سيكون العامل الثابت الوحيد في العقد المقبل، وبشكل خاص فيما يتعلق بالذكاء الاصطناعي، المدعوم بالواقع الافتراضي والواقع المعزز، كما أن مجالات الحوسبة الكمومية تبدو واعدة خلال السنوات الخمس أو العشر القادمة". ويضيف: "كلما حدث تغيير، ولدت معه فرص هائلة أيضاً".
ويتوقع بيل غيتس أيضاً أن يؤدي انتشار الذكاء الاصطناعي في البلدان المتقدمة إلى تقليص أسبوع العمل إلى يومين فقط خلال العقد القادم، وإذا تحقق ذلك، فمن الممكن أن يؤدي إلى زيادة كبيرة في نسبة التعليم المنزلي التي تبلغ اليوم في الولايات المتحدة 6.73%.
ولكن هذا لن يؤدي إلى إلغاء المدارس، بل إلى تغيير دورها وبنيتها، حيث يمكن لها أن تلعب دورا اجتماعيا أكثر من الدور التعليمي الراهن، الذي يتوقع أن يقوده الذكاء الاصطناعي تحت إشراف خبراء، مما سيؤدي إلى تراجع كبير في أعداد المعلمين.
تجري منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية (OECD) كل 3 سنوات اختبار برنامج التقييم الدولي للطلبة (PISA) الذي يعتبر الأكثر موثوقية وشيوعاً في قياس جودة التعليم، ويقيس قدرات الطلاب (بعمر 15 عاماً) في الرياضيات والقراءة والعلوم، ويستخدم لمقارنة جودة التعليم بين الدول المشاركة. لا تركز هذه الاختبارات على الحفظ أو المنهج الدراسي، بل على القدرة على تطبيق المعرفة في الحياة الواقعية.
إعلانوشارك في آخر اختبار أجري عام 2022، نحو 690 ألف طالب وطالبة من 81 بلداً منها 6 بلدان عربية، وأظهرت النتائج تدنى مستوى البلدان العربية في التعليم. ففي مادة الرياضيات، تصدرت الإمارات البلدان العربية لكنها جاءت في المرتبة 43 عالمياً، تلتها قطر عربياً وجاءت في المرتبة 51 عالمياً، تلتهما المملكة العربية السعودية عربياً وجاءت في المرتبة 62 عالمياً، وجاءت فلسطين في المرتبة 70، والمغرب في المرتبة 71، والأردن في المرتبة 73 عالمياً.
وعلى الصعيد العالمي جاءت سنغافورة في المرتبة الأولى، تلتها تايوان ثم ماكاو (الصين)، ثم هونغ كونغ (الصين) فاليابان. أما جمهورية الصين الشعبية التي كثيراً ما تحتل المراتب الأولى وخاصة في الرياضيات، فلم تشارك في نسخة عام 2022، بسبب كوفيد-19.
نأمل أن تكون مشاركة البلدان العربية أوسع ونتائجها أفضل في اختبارات عام 2025 المتوقع أن تظهر نتائجها أوائل عام 2026. يمكن للبلدان العربية الاستفادة من تجربة سنغافورة التي أدخلت إصلاحات لتعزيز التفكير الإبداعي في التعليم من خلال مبادرات مثل " دَرِّس أقل، وتعلَّم أكثر"، التي تُشجع المدارس على تقليل التركيز على الحفظ وزيادة التركيز على التعلم النشط والتفكير الناقد.
وفي أولمبياد الرياضيات الدولي الـ65 الذي أُقيم في مدينة باث بالمملكة المتحدة في الفترة من 11 إلى 22 يوليو/تموز 2024، شاركت 108 دول، من بينها 7 دول عربية، ولم يتمكن أي فريق عربي من إحراز مركز متقدم.
واحتلت المملكة العربية السعودية المرتبة الأولى عربياً و41 عالمياً، تلتها تونس في المرتبة 73 عالمياً، ثم سوريا في المرتبة 75 عالمياً، فالعراق في المرتبة 81 عالمياً، فسلطنة عمان في المرتبة 105 عالمياً، وأخيراً دولة الإمارات في المرتبة 107 عالمياً. وعلى الصعيد العالمي، احتلت الولايات المتحدة المرتبة الأولى تلتها الصين، ثم كوريا الجنوبية.
تُعتبر البلدان العربية متأخرة أيضاً على صعيد التعليم الجامعي، فوفق تصنيف شنغهاي العالمي للجامعات لعام 2024، احتلت جامعة الملك سعود المرتبة 90 عالمياً، مما يجعلها أول جامعة عربية تصل إلى قائمة أفضل 100 جامعة في تاريخ التصنيف. وجاءت 5 جامعات سعودية وجامعة مصرية واحدة ضمن الجامعات الـ500 الأولى عالمياً وفقاً لهذا التصنيف.
يُعد تصنيف شنغهاي العالمي للجامعات من أكثر التصنيفات الجامعية موثوقية وتأثيراً عالمياً، وذلك لعدة أسباب موضوعية تتعلق بمنهجيته وشفافيته.
كيف يمكننا تطوير التعليم في البلدان العربية؟لا يمكن وضع كل البلدان العربية في سلة واحدة، إذ إن البنية الأساسية لتقنية المعلومات والاتصالات المطلوبة للتعامل مع الذكاء الاصطناعي متوفرة في بلدان مجلس التعاون الخليجي، في حين لاتزال ضعيفة في العديد من البلدان العربية. ولايزال استخدام الإنترنت ضئيلاً في بلدان عربية كاليمن والسودان وسوريا، حيث يتطلب تحسينه تحقيق الأمن والسلام الاجتماعي أولاً.
أما البلدان التي تملك بنية أساسية متطورة لتقنية المعلومات والاتصالات كبلدان مجلس التعاون الخليجي، فالمطلوب منها وضع إستراتيجية لتنمية المهارات الأساسية للمتعلمين المطلوبة في حقبة الذكاء الاصطناعي، وأهمها:
تعلّم كيفية التعلم: إن القدرة على التكيف والتعلم الذاتي وإعادة اكتساب المهارات باستمرار أكثر قيمة من أي معرفة جامدة، في حقبة يتطور فيها الذكاء الاصطناعي بسرعة. التفكير الناقد وحل المشكلات: مع توليد الذكاء الاصطناعي لبيانات ومحتويات هائلة، يجب أن يكون البشر قادرين على التحليل والتساؤل واتخاذ قرارات أخلاقية ودقيقة. محو أمية البيانات: يُعد فهم كيفية تفسير البيانات وتصور الاتجاهات واكتشاف التحيز أمراً بالغ الأهمية، حتى لغير المبرمجين. الإبداع والابتكار: بما أن الذكاء الاصطناعي يُؤتمت المهام الروتينية، يصبح ابتكار أفكار وروابط وإستراتيجيات جديدة لا يستطيع الذكاء الاصطناعي القيام بها، مهمة أساسية للإنسان. التواصل والذكاء العاطفي: لا تزال القيادة والتعاون والتواصل مع البشر أمراً أساسياً، فلا يمكن للذكاء الاصطناعي أن يحل محل التعاطف أو الإقناع أو الحضور القيادي في الأمد المنظور.يقول الفيلسوف وعالم اللغويات الأميركي ناعوم تشومسكي: "الغرض من التعليم هو مساعدة الطلاب على تحديد كيفية التعلم بأنفسهم، إنه يتعلق بتنمية عقل حر ومستقل".