عربي21:
2025-08-15@19:18:11 GMT

مبارك.. كلمة أخيرة!

تاريخ النشر: 28th, October 2024 GMT

منذ وقوع الانقلاب العسكري في مصر، وأنا أعتبر أن الرئيس مبارك ليس معركتنا، وتوقفت حتى عن وصفه بـ"المخلوع"!

فدولته لا تحكم الآن، ومن يقول إن الحكم الحالي هو حكم الدولة المصرية العميقة، يبالغ في تقدير الأمور، فقد أنشأ الحكم العسكري الحالي دولة أخرى، غير تلك الدولة التي تعرفها مصر منذ القدم، ولم يكن ما فعله عبد الناصر إلا إجراء تحسينات عليها، فانتقم من الإقطاعيين وأبقى على جسم هذه الدولة، وخاصم الوفد وعددا من قيادات الأحزاب الأخرى، لكنه استعان بالجسم السياسي العام في استمرار دولته، بل إن دولته ضمت إخوانا سابقين، مثل الشيخ الباقوري، وعبد العزيز كامل؛ فلم يخترع دولة من الهواء كما الحاصل الآن!

وإزاء حالة الحنق على السياسات الحالية والتضرر منها، فإنني أعتبر أن دولة مبارك تمثل الآن رافدا كبيرا من روافد التغيير، هذا التغيير الذي لم يعد موضوعا خاصا بثوار يناير، أو حتى بالسياسيين، وإنما صار حلما يراود العامة الذين يشكلون القطاع العريض من دولة مبارك، والذين عملوا على استمرارها لثلاثين عاما، ولم تكن لديهم مشكلة مع توريث الحكم، ما دامت السياسات توفر الاستقرار، والحد الأدنى اللازم من المعيشة، أما الاستبداد والقمع فهذا ليس موضوع هذه الطبقة، التي اعتادت على أن النظر فيما في أيدي الحكام ليس من اختصاصها العام، فهذا يقع في دائرة اهتمام النخبة السياسية!

أعتبر أن دولة مبارك تمثل الآن رافدا كبيرا من روافد التغيير، هذا التغيير الذي لم يعد موضوعا خاصا بثوار يناير، أو حتى بالسياسيين، وإنما صار حلما يراود العامة الذين يشكلون القطاع العريض من دولة مبارك، والذين عملوا على استمرارها لثلاثين عاما، ولم تكن لديهم مشكلة مع توريث الحكم، ما دامت السياسات توفر الاستقرار، والحد الأدنى اللازم من المعيشة، أما الاستبداد والقمع فهذا ليس موضوع هذه الطبقة، التي اعتادت على أن النظر فيما في أيدي الحكام ليس من اختصاصها العام، فهذا يقع في دائرة اهتمام النخبة السياسية
"ولا يوم من أيامك يا مبارك":

ولا يزعجني هتاف "ولا يوم من أيامك يا مبارك"، بل أعتبره قيمة مضافة لقضية التغيير، فمع هذا الهتاف لن ينتقل الحكم من السيسي إلى الرئيس الراحل، فقد أفضى الرجل إلى ما قدم، وصار موضوعا للمؤرخين، وربما يكون موضوعنا إذا حدث التغيير وعادت إلينا مصر المختطفة، ليس من جانب نظام، ولكن من قبل شخص، يتصرف فيها وفي مقدراتها تصرف المالك فيما يملك!

الإزعاج الحقيقي من هذه الدعوة التي تتنامى بأن السبب فيما نحن فيه هو بسبب ثورة يناير، التي عزلت مبارك، وجاءت بالسيسي الذي أدخل البلد في دوامة الفقر والعوز، وفرط في مقدراتها، حتى أوصلنا إلى ما وصفه هو بنفسه بأنه أجواء نكسة 1967، هكذا بدون حرب، ودون تحمل للمسؤولية ولو بشكل تمثيلي فيعلن التنحي، كما فعل عبد الناصر، لعلنا نخرج للشوارع ونهتف: لا تتنحى.

لكن ما يعرف منه بالضرورة أنه ليس مغامرا ليفعل، كما أنه لن يفعل ما فعله عبد الناصر بإبعاد المسؤولين عن الهزيمة والإطاحة بهم، لأنه وحده من يحكم، إلا إذا كان مطلوبا منه أن يقطع نفسه إربا إربا، فيتخلص إربا منه من أجزائه الأخرى!

فهل أخطأنا حقا في حق مبارك، وأن ما يجري الآن هو بسبب تنكرنا للنعمة التي كنا نرفل فيها، فكانت النقمة عقوبة لنا على ذلك؟!

البعض يقارن بين مبارك والسيسي، وبين الأوضاع في عهد الرئيس الأسبق والحاكم الحالي، وبطبيعة الحال فإن المقارنة ليست لصالح الجنرال، ولو مع أي حاكم أو بديل آخر، ولو كان هذا الحاكم هو جمال عبد الناصر، ولو كان البديل هو جمال مبارك.. هذا أمر مفروغ منه!

قبل أن أهم بكتابة هذه السطور، طالعت خبرا يبشر بأن الجيش على وشك الانتهاء من إقامة مصنع لتجفيف البصل، هو بحكم ما جرت به العادة، الأول من نوعه، والأكبر على مستوى العالم، والأعظم في تاريخ المنطقة، فتذكرت على الفور مأساة مصنع تجفيف البصل بمحافظة سوهاج، وهي المأساة التي تعد جزءا من سياسات مبارك، الذي بدأ مرحلة الخصخصة، وباع أملاك الدولة بتراب الفلوس، ومصانع لم تكن تخسر، وكان سعر الأراضي المقامة عليها وحده أكبر من السعر الذي بيعت به، وهو ملف فساد ضخم، وتفريط كان يكفي لعزله ثم يعاد ثم يعزل، عقوبة على هذا التدمير الممنهج!

إن مصنع تجفيف إنتاج البصل في سوهاج كان مقاما على 17 فدانا، ويعمل فيه ثلاثة آلاف و580 عاملا، وأقامه عبد الناصر في سنة 1960، وكان أكبر مصنع في أفريقيا والشرق الأوسط، وكان كل نإتاجه يتم تصديره، بما في ذلك قشرة البصل التي كانت تصدر لعواصم أوروبية لصناعة العطور والمستحضرات الطبية، كما كانت تُستخدم قشور البصل علفا حيوانيا.

وهذا المصنع كان يصنع ويجفف 52 ألف طن بصل سنويا، ويسهم بنصيبه في توفير العملة الصعبة، لكن تم خصخصة الشركة المالكة له في سنة 1996، ثم بيع هو نفسه لمستثمر، بمخزون من البصل يزيد عن السعر الذي بيع به المصنع بثلاثة ملايين جنيه، وكان طبيعيا أن يتم الإعلان عن توقفه تماما عن الإنتاج في 2008، الأمر نفسه الذي حدث لكثير من شركات القطاع العام التي بيعت لسماسرة الأراضي فلم يكن عين المشترين على الإنتاج وإنما على الأراضي، فمن المسؤول عن كل هذا الخراب؟!

إن هذا كان جانبا من سياسات مبارك غير المفهومة، ومع النقد لما أقدم عليه، واستدعى ترقية وزيرا لقطاع الأعمال ليكون رئيسا للحكومة، فلم يوضح الدروس المستفادة من سياساته هذه، ونأتي لبيت القصيد!

الفراغ السياسي:

فقد دمر مؤسسات البلد، فلم يجد من يسلمه الحكم إلا المجلس العسكري، والذي لم يكن مؤهلا لذلك. ولا يقولن أحد أن هذا من طبائع الأمور، فمن الخطأ أن مصر كانت في هذه الفترة تحكم حكما عسكريا، يجعل من الحكم اختصاصا للعسكر، فقد أنهى جمال عبد الناصر سيطرة الجيش على الحكم ومزاحمته له فيه منذ هزيمة 1967، ومع عام 1968 كان الجيش وأجهزته خارج الحكم تماما، وما فعله مبارك أن دشن حكما بوليسيا الكلمة العليا فيه لوزير الداخلية، ومن هنا كانت الكارثة!

فإن أقلقك أن تقوم الثورة، والرقم الوحيد الصحيح في المعادلة السياسية هم الإخوان المسلمون، فلا بد من العلم أن سياسة مبارك هي التي أنتجت هذا الاختلال!

لقد استلم مبارك الحكم ولدينا تجربة حزبية وليدة، ولم يكن الإخوان هم التيار الأقوى فيها، فقد كانت القوة لحزب الوفد، لكنه ترك السياسة ملفا أمنيا، ودمر الأمنُ الأحزابَ، وتولى الانشقاقات داخلها، وبدا غير مدرك للأمر وهو يقوم بين الحين والآخر بحملات أمنية على الإخوان، تعمل على تقويتهم، وجذب الشرعية لهم، وكان هدف الرئيس أن يستخدم قوتهم فزاعة للغرب، على النحو الذي حدث في الانتخابات البرلمانية في سنة 2005!

لقد كان نظام مبارك يحرق كل شخصية يتوسم فيها الناس خيرا، ويعمل على ضرب كل من له شعبية ولو كانت شعبية دينية، لا تصطدم بحكمه، حتى أنه كان يخاف من شعبية الجنائز، كما حدث عقب وفاة الشيخ الشعراوي، وفي جنازة فؤاد سراج الدين!

ثم استفز الناس بما جرى في سنة انتخابات 2010، عندما تولى أمرها مجموعة لا يحسنون تقدير الأمور برئاسة نجله، وعضوية أحمد عز، وكانت أداة التنفيذ فيها هو وزير الداخلية حبيب العادلي، فأيقن الناس أن باب التغيير ولو الشكلي منه مغلق بالضبة والمفتاح، فأين يذهب الناس، إلا إذا كان يتم النظر للبشر على أنهم قطعان، ماذا يضرهم إذا أكلوا وشربوا، حتى لو كان أكلا بالسم الهاري، وطعاما استخدمت فيه المبيدات المسرطنة؟

البديل بدون الثورة:

لا بأس، فماذا لو لم تقم الثورة على مبارك، واستمر في الحكم؟ فأعتقد أن هذا لن يقدم ولن يؤخر في نهاية أجله، فكيف كان سيتم ملء الفراغ في بلد بلا مؤسسات، وبدون حياة سياسية سليمة، وليس هناك سوى الإخوان الذي يعتمدون على شرعيتهم في الشارع، والجيش بحكم امتلاكه للقوة المميتة؟! مع الملاحظة، أن مبارك وإن كان قادرا على توريث الحكم في حياته، ولا أظنه كان راغبا في ذلك، فلن يكون التوريث ممكنا بعد وفاته، فماذا سيحدث إزاء هذا الفراغ، وتدمير الحياة السياسية بواسطة الحكم البوليسي الذي تأسس في عهده؟!

لقد مكنت الثورة الشعب ليختار حاكمه لأول مرة في تاريخه، وقد اختارت الأغلبية الرئيس محمد مرسي، فماذا لو تم دعم هذه التجربة، وكانت نهاية حكم الرجل في 2018، إذا فاز لدورة ثانية، وقد صبرنا على مبارك ثلاثين سنة، فتسلم دولة من السادات ليسلمها أنقاض دولة، فليس فيها بديل سوى الإخوان والجيش، واحد بالصندوق والثاني بالسلاح؟!

إن من العبث القول إن ما يحدث الآن هو ذنب مبارك، والصحيح أنه ذنب الرئيس محمد مرسي، والذين خرجوا عليه يبغونها عوجا، وهم الذين سلموا بغبائهم الحكم إلى الوضع الحالي، وكانوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا.

استقيموا يرحمكم الله!

x.com/selimazouz1

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه الانقلاب مصر مبارك فساد مرسي مصر انقلاب مرسي مبارك فساد مقالات مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة تفاعلي سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة دولة مبارک عبد الناصر فی سنة لم یکن

إقرأ أيضاً:

الانبعاث الحضاري.. على طريق الأسئلة والتحدي والاستجابة.. مشاتل التغيير (31)

اختتمنا المقال السابق بأسئلة طرحها مشروع الانبعاث الحضاري؛ ذلك المشروع الذي لا يزال يستحق منا الاهتمام والتركيز، ونشير في هذا المقال إلى أسس ومرتكزات مهمة تسوغ للأسئلة المطروحة وأهميتها؛ ذلك أن أهمية السؤال الحقيقي النافع ضمن مشروع نهضوي كهذا يجب أن يولي الأسئلة اهتماما فائقا.

فاستراتيجية السؤال من أهم الاستراتيجيات المنهجية التي أكّد عليها أستاذنا حامد ربيع، وقد أشار إلى أن أسئلتها لا يجب أن تكون من نمط تلك الأسئلة المباشرة أو الاعتيادية، ولكنها غالبا ما يمكن إدراجها في صنف الأسئلة ذات الطابع الاستراتيجي والكلي والإشكالي. ورغم أن لاستراتيجية الأسئلة مكانتها منهجيا وبحثيا، إلا أن هذه الأهمية تزداد في مثل هذه المشروعات والقضايا الأساسية والمحورية، من مثل قضية النهضة والنهوض، خصوصا أن مثل هذه القضايا الكلية إنما تمتلك مفاهيم وأطرا وأطروحات ومجالات وعلاقات، وربما أبنية ومؤسّسات، تكون معقدة ومتشابكة إلى الدرجة التي تستدعي طرح أسئلةٍ ذات طبيعة خاصة ومتميّزة في توصيفها ومواصفاتها، تستوعب مثل هذه السياقات، وتلك المقولات، وآلياتها المنهجية وقواعدها التفسيرية؛ إنها الأسئلة الأساسية والمٌؤسِسة.

إذا كانت الأفكار والمشاعر والمنطلقات الحاكمة والمنعكسة في جوانب الحياة الأساسية لأي مجتمع إنساني؛ تشكل النموذج الحضاري وتصبغ الإنسان عقيدة وقيما وحسّا وتوجهات واهتمامات وسلوكا، فإن السؤال هو كيف يمكن بناء نموذج حضاري إسلامي يحكم حياة الأمة بالاستفادة من طاقة التغيير الهائلة، وبمَ يتعامل مع هذا الضعف المتراكم والخلل الخطير في موازين القوى الحضارية؟
أكدنا دائما وأبدا في مقالات سابقة أن السؤال الصحيح نصف الإجابة، بل ربما يكون شرطا للإجابات السليمة؛ ذلك أننا لو بدأنا بالسؤال الخطأ سيؤدّي بنا حتما إلى الإجابات الخطأ، لأن السؤال بداية للتفكير والتدبير والتغيير. ومن ثم علينا تجنّب كل مواطن الزلل في السؤال وتبصر مكامن الاختلاط فيه؛ الأسئلة الزائفة، والأسئلة التابعة، والأسئلة المخذولة، والأسئلة المنتقمة، والأسئلة الميتة، والأسئلة المحنطة، والأسئلة المفخّخة، وأسئلة خارج التصوّر العقلي، وأسئلة خارج الزمن، والأسئلة القاتلة، وأسئلة الالتفاف، فهي تورثنا، في النهاية، ذهولا وانفعالا عن مقاصد الأمة من الأسئلة النافعة والحقيقية.

ذلك كله لا يمكن أن نصل إليه من دون الاعتماد على استراتيجية السؤال التي تعدّ من أهم آليات تحليل مشاريع النهوض الحضارية، لقدرتها على سبر أغوار مثل هذه المشاريع من زواياها المختلفة، سواء على درجاتها الزمنية، الماضي والحاضر والمستقبل، أو من زاوية الرؤية والأطر الكلية والتحليلية والمفاهيمية والتفسيرية والإشكالات الأجدر بالتناول، أو الوقوف على الأطراف والفواعل، والمجالات، والقضايا، والعلاقات. ذلك كله يمكن الوقوف عليه من السؤال، ولكن كما سبقت الإشارة؛ السؤال النافع والحقيقي.

الأسئلة والتحدي: هل تبني الأمة نموذجها الحضاري بمرجعيتها الدينية الأصيلة أم تستمر تحت مظلة النموذج الحضاري السائد؟

وإذا كانت الأفكار والمشاعر والمنطلقات الحاكمة والمنعكسة في جوانب الحياة الأساسية لأي مجتمع إنساني؛ تشكل النموذج الحضاري وتصبغ الإنسان عقيدة وقيما وحسّا وتوجهات واهتمامات وسلوكا، فإن السؤال هو كيف يمكن بناء نموذج حضاري إسلامي يحكم حياة الأمة بالاستفادة من طاقة التغيير الهائلة، وبمَ يتعامل مع هذا الضعف المتراكم والخلل الخطير في موازين القوى الحضارية؟ وكيف يمكننا استثمار نهوض الأمم وبناء الحضارات في لحظات التحولات التاريخية الفاصلة؟ أسئلة حضارية مهمة ومشروعة؛ لا شك أنها تمثل تحديا هائلا. وفي تقديرنا أن التحدي الجوهري الأساسي يتحدد بناء على الإجابات التي تقدمها القوى الحية في الأمة عليه، وتتحدد مواقعها وأدوارها في خدمة أمتها وإقامة دينها في هذه اللحظة الفارقة. وهو تحد يتطلب عطاءات فكرية وحركية وعملية عميقة وعديدة، وحوارات وتجارب وممارسات متنوعة.

التحدي والاستجابة؛ طرح أرنولد توينبي نظريته في "التحدي والاستجابة"، معتبرا ذلك محركا للإنسان بشروط، فالإنسان يستجيب للتحدي متى كان في حدود قدراته، وإلا عجز. ونشأة الكيان تحدث نتيجة تحدٍ ما، إما للبيئة، أو للبشر، أو كليهما، وينهار الكيان حينما يعجز عن الاستجابة لهذه التحديات. وإن أهم شرطين لحدوث هذا التفاعل يكون بوجود قوة إبداعية (أشخاص مبدعين)، وبيئة ملائمة لغاية أو غير ملائمة لها.

في هذا السياق، يقول توينبي إنه كلما زاد التحدي تصاعدت قوة الاستجابة، وهذا يؤدي في نهاية المطاف إلى ما يصفه بـ"الوسيلة الذهبية" التي تحمل هذه الفكرة؛ أن الكيان يواجه التحديات عبر سلسلة من الاستجابات التي قد تكون غير فعالة أحيانا، ولكن من خلال التجربة والتعلم يصل إلى الحل الأمثل الذي يقوده نحو التقدم والرقي. إن الأمر يمر بدورة التحدي والاستجابة هذه؛ ذلك عندما تواجه تحديا فإن هذا يعني أنك تتطور، وأن هذا التحدي بمثابة جسر للانتقال لمرحلة جديدة تتطلب شجاعة أكبر ومهارات إضافية وحلولا إبداعية. يرى توينبي أن التحدي المفيد المنتج ينبغي ألا يكون صعبا، بحيث يعجز الإنسان عن التعامل معه، ولا يكون التحدي سهلا، بحيث لا يثير في الإنسان دوافعه للتحضر. وأكد أن صعوبة التحدي وسهولته أمر نسبي، فما تعتبره أمة صعبا قد لا تعتبره أمة أخرى كذلك.

بين الأسئلة والتحدي والاستجابة تقع هذه المحاولة من الدكتور حسين القزاز للاشتباك مع هذا التحدي الكبير، عبر تقديم أفكار أولية عامة عن السؤال المتعلق بكيفية السعي لإطلاق تلك المسيرة الحضارية. وهو يشير إلى أربع زوايا مقترحة للنظر فيها؛ ويمكن أن يُدار حوار بشأنها نستطلع به آفاقا ممكنة لإطلاق تجربة حضارية إسلامية جديدة تتبنى وتستصحب نموذجا حضاريا إسلاميا مستقلا؛ استلهاما لمفهوم التحدي في مواجهة الاستجابة على ما يرى توينبي.

الاستجابة الإحيائية في مفهومها القرآني "يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم" الذي أشرنا إليه من قبل:



الزاوية الأولى: محركات التاريخ الأجدر بالتركيز في لحظات التحولات التاريخية الفاصلة؛ كيف تنهض الأمم وتبنى الحضارات؟ ذلك أن الأمم تنهض بعد ضعف وتقوى بعد انكسار (والعكس). ودعنا بالتالي نفكر في المحركات الكبرى التي تعين في هذا النهوض ونحاول استصحاب تجلياتها المعاصرة، ثم دعنا نجتهد في التساؤل عن مساحات السعي المتاحة لنا في رحابها، لعلنا بذلك نتقدم خطوة مهمة في اتجاه كسر ذلك الحاجز الذهني النفسي الذي يعوق كثيرين منا عن طرح سؤال الانبعاث الحضاري الإسلامي أصلا. عندما نراجع سنن التبدل ومكنات البناء الحضاري، ونتأمل مكاننا من هذه السنن وأنصبتنا من تلك الممكنات، نطرح على أنفسنا السؤال: ألا نستطيع إذن وألا يجدر بنا أن نتتبع سنن هذه العوامل والمكنات والمحركات للتاريخ الإنساني ولنهوض الأمم ونأخذ بأسبابها؟

الزاوية الثانية: الوعي باللحظة ومكانتها ومُكْنَاتِها. الحياة الإنسانية في حالة مستمرة من التشكل والتغير، ومسيرات التجارب الحضارية الإنسانية تمر عبر دورات حياة يمكن تتبع بعض ملامحها العامة، وإن اختلفت تضاريسها وتفاصيلها وأحداثها الفارقة وتتابعها وانقطاعها وانتظامها وطفراتها؛ بين التجارب الحضارية المختلفة، وحتى داخل التجارب الممتدة زمنا والمتسعة مكانا بين مراحلها وأجزائها. والأمر الذي لا تختلف فيه تلك التجارب على تنوعها هو أن كلا منها هو بمثابة رحلة في التاريخ؛ تمر بمحطات متنوعة تتطور عبرها الحياة الإنسانية وتتغير وتتبدل أحوالها.

هكذا من المهم جدا لنا أن نميز طبيعة وخصائص المحطة التي نمر بها الآن: ملامح وفرص وإملاءات وإمكانات المرحلة الحضارية التي تعيشها أمتنا. وهي كما هو بادٍ لحظة مخاض حضاري صعب، واجب الوقت فيها هو العمل على استكمال شروط عبورها وعبورنا معها لذلك الانطلاق المنشود. ألا نستطيع ويجدر بنا أن نفقه طبيعة تلك اللحظة وأولوياتها، ونسعى جادين لإعلاء تلك الأولويات واستيفاء الوسع في تحقيق مقتضياتها؟

الزاوية الثالثة: واجبات أوقات على مستوى قطاعات الحياة/ المكونات الرئيسة للبنية الحضارية. لئن اهتمت الزاويتان السابق ذكرهما بمحركات تاريخ يمكن أن تدفع حركة الأمة كلها للأمام، وبمقتضيات لحظة علينا أن نراعي أولوياتها في حركتنا كلها، فإن هذه الزاوية الثالثة تُنَزِّلُ تلك الأفكار والمقتضيات على ساحات القطاعات الأساسية لحياة الأمم والشعوب. فالتركيز هنا هو على سؤال: كيف يمكن أن تنهض الأمة في رحاب مشروع إحياء إسلامي في كل من مساحات الحياة الأساسية: معرفة وثقافة وتشكيلات مجتمعية أساسية وأنظمة سياسية واقتصادية وإدارية كلية وأنظمة وسيطة؛ من تعليم وصحة وقضاء وأمن وغيره وعلاقة للناس بالمكان الذي يعيشون فيه إعمارا وصيانة وتطويرا؟ ألا نستطيع ويجدر بنا: أن يعمل كل منا بتركيز في الجانب الوظيفي الذي يتقنه وفي قطاعات الحياة الأساسية التي يستطيع العطاء فيها، على تقديم فكر ونماذج وممارسات إسلامية مفارقة في فلسفتها وبنيتها لتلك النماذج العلمانية والممارسات الملتبسة التي تسود مساحات الحياة اليوم؟

طرح أفكار على هذه المستويات ونقاشها في الساحات الفكرية والعملية واحد من مدخلات كثيرة مطلوبة في مقاربة هذه التحديات الحضارية الكبرى التي تواجهها أمتنا والاستفادة من فرصها السانحة، إنها مشاتل التغيير حينما تتواكب مع أسئلة حضارية وقضايا فكرية تتعلق بمسألة النهوض؛ واستجابات واعية حيوية كمقدمات تأسيسية للحركة والنشاط والفاعلية
الزاوية الرابعة: استشراف مسارات أحداث كبرى وتطورات حياة حثيثة وتدافع هائل/ تحف بالتحولات المستهدفة وتتشكل معها؛ لن تنطلق تلك المسيرة الحضارية الجديدة في فراغ أو تنزل على أرض ساكنة. على العكس تماما، الأمة تعيش حالات وأنواعا ودرجات من التدافع الشديد، والإنسانية كلها معها. وبالتالي فعلى القائمين على مشروع الانبعاث الحضاري للأمة في هذه الظروف أن يهيئوا أنفسهم للتعامل مع أوجه التدافع تلك. عليهم أولا أن يدركوها ويعوا أبعادها ومحركاتها ودينامياتها وتداخلاتها وآثارها، ثم عليهم أن يحددوا مواقفهم منها ومدى وطبيعة تداخل المشروع الجديد معها.

وينبهنا كثير من المخلصين إلى أوجه تدافع أصبحت واضحة للعيان، ونسمع كثيرا عن أهمية إعمال الفكر الإستراتيجي الثاقب لإدراك أبعادها، وتشعر دوما بآمال هؤلاء وأولئك أن يسفر ذلك الوعي الاستراتيجي عن نجاحات واختراقات يمكن لنا أن نحدثها في رحاب هذا التدافع المعقد الكبير. إلا أن المحدد الأكبر لمثل هذا الاختراق المأمول هو ذلك الغائب الحاضر عن معظم تلك الجهود والآمال: هو الانتباه للأبعاد والمقتضيات الحضارية في مثل تلك المواجهات. ألا نستطيع ويجدر بنا أن نشحذ الهمم ونرتقي بالوعي ونبني على الطاقات الهائلة في أمتنا لخوض تلك التدافعات بحقها؟

إن طرح أفكار على هذه المستويات ونقاشها في الساحات الفكرية والعملية واحد من مدخلات كثيرة مطلوبة في مقاربة هذه التحديات الحضارية الكبرى التي تواجهها أمتنا والاستفادة من فرصها السانحة، إنها مشاتل التغيير حينما تتواكب مع أسئلة حضارية وقضايا فكرية تتعلق بمسألة النهوض؛ واستجابات واعية حيوية كمقدمات تأسيسية للحركة والنشاط والفاعلية.

x.com/Saif_abdelfatah

مقالات مشابهة

  • السلاح ليس طريق التغيير
  • عصام الدين جاد يكتب: إسرائيل الصغرى التي لن تنتصر
  • ألف مبارك للطالبة منى العواملة على نجاحها في الـ IGCSE
  • كلمة مرتقبة للسيد القائد عبدالملك بدرالدين الحوثي
  • حكومة التغيير : هذا ما حذر منه السيد القائد !
  • الحكم بالسجن لمدة 5 سنوات بحق زعيم الطائفة البهائية في قطر
  • «تريندز» يشارك في «صناع التغيير.. قيم تلهم الغد»
  • رسالة وداع أخيرة من طـفل.. تفاصيل صادمة في جريمة إنهاء حياة عبد الرحمن
  • موزة بنت مبارك: الشباب ثروة وطنية ومسيرة لا تعرف التوقف
  • الانبعاث الحضاري.. على طريق الأسئلة والتحدي والاستجابة.. مشاتل التغيير (31)