ظُهور ما يُعرف بــ "الحركات الإسلامية" كأسلوب حياة أو شكل للحكم والسياسة مُرتبط بتنظيم جماعي يعود لنشأة الدولة القومية في العالم الإسلامي والتحرر من الاستعمار الغربي.

يُشير هذا المصطلح إلى الفكر النظري والمُمارسة العملية لفكرة إنشاء نظام سياسي واجتماعي واقتصادي على أساس المبادئ المُستمدة من الشريعة الإسلامية.

فالدين بحسب هذه الحركات "دين ودولة" وهو أيضا "أسلوب حياة" و"الدين هو الحل."  لذا، فأصحاب هذه الفكرة ينظرون للدين باعتباره نظامًا كليًا وشاملاً لكل نواحي الحياة.

على سبيل المثال، عندما عرّف حسن البنا (1906 ـ 1949) الإخوان المسلمين في كتابه "مجموعة رسائل الإمام حسن البنا"، وهي أكبر الحركات الإسلامية انتشارا في العالم الإسلامي وصفها بكونها: "دعوة سلفية، وطريقة سنية، وحقيقة صوفية، وهيئة سياسية، وجماعة رياضية، ورابطة علمية ثقافية، وشركة اقتصادية، وفكرة اجتماعية."

هذا فهم واضح وصريح أن الدين يشمل جميع جوانب الحياة.. حسن البنا بطبيعة الحال ليس أول من دعا لتكريس وتطبيق هذا الفهم للعلاقة بين الدين والسياسة. فهناك الكثير من الإسلاميين الذين قدموا مشاريع سياسية مُشابهة على سبيل المثال، أبو الأعلى المودودي (1903 ـ 1979) قدم فهما مشابها لهذه العلاقة أيضا.

رغم تنوع بل ووجود اختلافات بين الإسلاميين مثل، الأولويات وهل تكون للدعوة أو التربية أو الوصول للنظام السياسي، وهل أسلمة المجتمع تتم من أعلى السلطة أم من القاعدة، إلا أنه يُمكن القول إن الإسلاميين في هذا الصدد يشتركون في عنصر مهم وجوهري وهو أنه لا يمكن الفصل بين السياسة والدين، فالدين والسياسة مُتشابكان بشكل لا يمكن فصلهما بتاتاً.

حاولت كل الجماعات الإسلامية تقريبا أن تُطبق هذا الفهم الشمولي للإسلام في كل نواحي الحياة، كالدعوة لتطبيق الشريعة الإسلامية وإقامة الحدود، وأسلمة المُجتمع، وتأسيس نظام سياسي واقتصادي واجتماعي على أساس المبادئ الإسلامية. لكن هذه التجارب لم تنجح، مما اضطر الكثير من هذه الحركات إلى تغيير جوهري بفكرها واطروحاتها.

رغم تنوع بل ووجود اختلافات بين الإسلاميين مثل، الأولويات وهل تكون للدعوة أو التربية أو الوصول للنظام السياسي، وهل أسلمة المجتمع تتم من أعلى السلطة أم من القاعدة، إلا أنه يُمكن القول إن الإسلاميين في هذا الصدد يشتركون في عنصر مهم وجوهري وهو أنه لا يمكن الفصل بين السياسة والدين، فالدين والسياسة مُتشابكان بشكل لا يمكن فصلهما بتاتاً.بناءً على هذا، انبعثت من هذه الحركات الإسلامية نوع جديد يُسمى في الأدبيات السياسية وعلم الاجتماع حركات "ما بعد الإسلاموية." والسؤال هنا. هل كان التحول من الإسلامية إلى ما بعد الإسلاموية مرده إلى الفشل في تطبيق الإسلام على كل الأصعدة كما كان يرغب أصحاب هذا التوجه؟ أم أن ذلك التغيير الجذري في الأطروحات والفكر كان مجرد مُناورة سياسية وتغييرا في التكتيكات السياسية للوصول إلى السلطة ومن ثم العودة إلى الفكر الإسلامي.

ما بعد الإسلاموية.. حرف الدين إلى التدين

ما المقصود بمصطلح ما بعد الإسلاموية؟ وما هي سمات هذا المصطلح؟ يشير المصطلح بشكل عام لرؤية لعصر جديد وتقديم رؤية جديدة لعلاقة الدين بالسياسة والدولة، بحيث تتحول الحركات الإسلامية إلى حركات ما بعد إسلاموية. وهذا يعني نهاية عصر أو بداية مرحلة تاريخية جديدة. يمكن القول إن هذا المصطلح ظهر كامتداد لرؤية جديدة لكنها مُختلفة تماما لفهم العلاقة بين الدين والدولة. 

إن مفهوم ما بعد الإسلاموية يرتبط عادة بـ "المدرسة الفرنسية" في التحليل الإسلامي ـ وبالتحديد أوليفييه روي وجيل كيبيل.

لكن يمكن القول إن "آصف بيات" هو من أوائل الباحثين الذين استخدموا مصطلح ما بعد الإسلاموية كأداة تحليلية في كتاباته. ومن أهم أعماله في هذا المجال كتابه الُمعنون بـ "جعل الإسلام ديمقراطياً: الحركات الاجتماعية والتحول ما بعد الإسلامي" والذي نُشر في عام 2007. قدم آصف بيات مُصطلح ما بعد الإسلاموية بصفته "مشروعا مُستمرا". يصف عالم الاجتماع المُصطلح باعتباره حالة ليست معادية للإسلام ولا للعلمانية. ويقوم هذا المشروع على أساس دمج التدين والحقوق، والإيمان والحريات، والإسلام والحرية.

تتجلى مرحلة ما بعد الإسلاموية بالإقرار بالُمتطلبات العلمانية، والتحرر مما يسمى بالجمود الديني، وبالتالي الدعوة لكسر احتكار الحقيقة الدينية. أيضا، مشروع ما بعد الاسلاموية يؤكد على المرونة في فهم النصوص الدينية ويركز على المستقبل بدلا من الماضي.  

يمكن القول إن مشروع ما بعد الإسلاموية قلب الأمور رأسا على عقب وذلك بسبب التأكيد على الحقوق بدلاً من الواجبات والمسؤوليات. بعبارة أخرى، تُقدم الأديان بشكل عام والإسلام بشكل خاص الواجبات على الحقوق. فعلى سبيل المثال، على الفرد أن يحترم الآخرين وألا يقوم بالاعتداء اللفظي أو الجسدي عليهم وبناءاً على هذا الالتزام بهذا الواجب يكون من حق الفرد أن يشارك رأيه مع الآخرين في إطار الآداب في المعاملات. أي أنه عندما يقوم الفرد بواجباته يحصل على الحقوق كنتيجة لذلك.

حيث كانت الحركات الإسلامية تدمج بين الدين والواجبات والمسؤوليات، فإن ما بعد الإسلاموية تركز على التدين والحقوق. بعكس الإسلامية لا تحاول حركات ما بعد الإسلاموية تطبيق الشريعة الاسلامية أو إقامة الحدود، ولا تسعى إلى أسلمة المُجتمع كما هو حال الاسلامية ولا تقوم ما بعد الاسلاموية ببناء مؤسسات ذات طابع إسلامي. إن ما بعد الاسلاموية تقوم بشكل مباشر أو غير مباشر بفصل الدين عن الدولة.

أسباب التحول من الإسلامية إلى ما بعد الإسلاموية

يمكن القول إن كل الحركات الإسلامية فشلت وبشكل واضح وبكل البلاد تقريبا. الحديث أن أسباب فشل الحركات الإسلامية مُتشعب ويحتاج الكثير من المُراجعات، ولعل من أسباب هذا الفشل: أن الحركات الإسلامية حصرت نفسها وفكرها بنظام الدولة القومية، ومعلوم أن نظام الدولة القومية تطور كنتيجة لحرب دينية مسيحية ضروس في أوروبا، راح ضحيتها أكثر من عشرة ملايين قتيل.

ومعلوم أن الدولة القومية كبُنية سياسية واجتماعية واقتصادية لم تكن مُحايدة ولا موضوعية ولا عالمية. بل هي خاصة بتجربة مُعينة في سياق تاريخي وجغرافي وثقافي وديني، بل ومذهبي محدد. مُفكري وقادة الفكر الإسلامي لم يتجاوزوا الفهم الدقيق لهذه الإشكالية. بل وناقشوا الدولة القومية الحديثة كأمر مُسلّم به. ولم يحاولوا تجاوز القطرية. كتاب هبة رءوف عزت والمعنون بـ "الخيال السياسي للإسلاميّين: ما قبل الدولة وما بعدها" والذي نُشر في عام 2015 هو دراسة نقدية لفهم الإخوان المسلمين في مصر لمفهوم الدولة الحديثة على سبيل المثال لا الحصر.

لقد أصبحت الحركات الإسلامية ذات توجه قومي، بل وقطري في كل مكان تقريبًا، وقد تخلت في أغلب الأحيان عن خطاب التضامن الإسلامي الشامل والهوية القائمة على مفهوم الأمة. أي أن نظام الدولة القومية الأوروبي الحديث أصبح مُسلّما به لهذه الحركات.لقد أصبحت الحركات الإسلامية ذات توجه قومي، بل وقطري في كل مكان تقريبًا، وقد تخلت في أغلب الأحيان عن خطاب التضامن الإسلامي الشامل والهوية القائمة على مفهوم الأمة. أي أن نظام الدولة القومية الأوروبي الحديث أصبح مُسلّما به لهذه الحركات.

لعل هذه الإشكالية أيضا ما حفزت المُفكر الفلسطيني وائل الحلاق لكتابة كتابه الشهير "الدولة المستحيلة" ليُبين هذه المُشكلة بالتفصيل. حيث جادل حلاق بحجج متينة نظريا وعمليا أنه لا يمكن إقامة دولة إسلامية ضمن بنية الدولة القومية الحديثة وذلك لأن الإسلام بحسب حلاق رسالة أخلاقية وبنية الدولة القومية الحديثة غير أخلاقية وبالتالي لا يمكن تطبيق هذه المنظومة الإسلامية الأخلاقية داخلها.

أيضا يمكن إضافة أن الحركات الاسلامية تم قمعها، وسجن واغتيال وإعدام وإبعاد الكثير من قادتها من قبل الأنظمة الاستبدادية، والعسكرية في البلاد المُسلمة. ما جعلها لا تستطيع في كثير من الأحيان الاستمرار وتعويض قياداتها الفكرية والاستمرار في العمل السياسي والاجتماعي.

في النهاية نُشير إلى أن هناك من يقول إن الحركات الإسلامية لم تفشل وإنما طورت من خطاباتها السياسية كوسيلة للوصول إلى السلطة أو بالأحرى كمناورة سياسية لكسب الشرعية السياسية للوصول للحكم. ولكننا نقول إنه لا يوجد تجربة واحدة دخلت السياسة كحركة ما بعد إسلاموية ثم عادت وأصبحت إسلامية.

*أستاذ مساعد في قسم العلوم السياسية والعلاقات الدولية في اسطنبول صباح الدين زعيم.

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي أفكار كتب تقارير الحركات الإسلامية السياسة رأيه سياسة رأي العالم الاسلامي أفكار سياسة سياسة أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الحرکات الإسلامیة على سبیل المثال هذه الحرکات الکثیر من لا یمکن نظام ا

إقرأ أيضاً:

خطاب المفتتح والخاتمة قراءة في رواية «الروع»

«إن الافتتاح منطقة خطرة في الخطاب: ابتداء الخطاب فعل عسير؛ إنه الخروج من الصمت»

رولان بارت، التحليل النصي

ما أقدمه هنا ليس قراءة شاملة لرواية الروع للكاتب العماني زهران القاسمي، الصادرة عن دار منشورات ميسكلياني 2025. لست بصدد تتبّع النص من ألفه إلى يائه، ولا أزعم أني أُحيط بجسده كله. بل هي قراءة جزئية، انتقائية، تنطلق من قناعةٍ نقدية أن للمفتتح والنهاية سلطة مزدوجة في الفعل الروائي: سلطة التأسيس وسلطة الإقفال.

لذلك، سأقف عند المفتتح، تلك العتبة التي تُشبه الباب الموارب، وحيث تهمس الرواية بأول أسرارها، وعند الفصل الأخير 22)، التي تشبه ارتداد الضوء الأخير في مشهد الغروب، حيث تكتمل الدائرة، أو تنكسر، لا فرق، فكل نهاية هي ضرب من الانفجار أو الانطفاء.

لقد بدا لي بناءً على تفكيكي للنص، أن هاتين المنطقتين – البدء والانتهاء – هما بيت الحيل السردية، والموضعان اللذان تُخزّن فيهما الرواية مجمل مكرها الأدبي، ومفاتيحها الكلية لفهم بنيتها العميقة.

ولعل هذا التأسيس النقدي يتقاطع مع ما قاله رولان بارت في معرض حديثه عن أهمية الافتتاح، إذ يرى أن «قضية افتتاح الخطاب قضية هامة كشفت عنها البلاغة القديمة والكلاسيكية، فقدمت قواعد غاية في الدقة لابتداء الخطاب، وهي، في رأيي، مرتبطة بالإحساس بوجود حبسة متأصلة في الإنسان، وأن الكلام صعب، وربما ليس هناك ما يُقال: إن الافتتاح منطقة خطرة في الخطاب؛ إنه الخروج من الصمت. والحقيقة أنه لا يوجد سبب للابتداء من هنا لا من هناك، لأن القول ببنية لانهائية. فدراسة مفتتحات السرد إذن هامة جداً» رولان بارت، التحليل النصي، ص 36-37

بهذا المعنى، يصبح مفتتح رواية الروع ليس مجرد مدخل تمهيدي، بل لحظة كاشفة عن وعي النص باعتباطية «البدء»، كما يسميه بارت، وقلقه البنيوي من الفراغ الذي يسبق القول.

تُعتبر روايات الكاتب العُماني زهران القاسمي مثل القنّاص، تغريبة القافر، وجوع العسل، والروع، محطات سردية تتقاطع فيها العديد من الثيمات والأسئلة المرتبطة بالهوية، والمكان، والزمان، والصراع الوجودي. يتقاسم البطل في هذه الروايات مجموعة من السمات المتكررة: شخصية أحادية تُساق إلى مواجهة وجودية مع الذات، والتاريخ، والمحيط، ضمن عالم يفتقر إلى البدائل.

تتشابك هذه الأعمال ضمن سرديات تحتفي بالشخصيات القروية المهمّشة، التي تتحرك في فضاءات زمانية ومكانية مشتركة، ما يجعل كل رواية إعادة صياغة لذات الوجود، ضمن تمثيلات سردية متباينة.

وإذا كان نجيب محفوظ قد حوّل الحارة إلى كيان سردي مكتمل، لا بوصفها فضاءً مكانيًا فقط، بل كبنية دلالية قائمة بذاتها، تضج بالحياة، وتحتضن عالمًا إنسانيًا شديد الكثافة والتعقيد، فإن الروع، على نحو موازٍ، تُشيّد القرية لا كخلفية للحدث، بل ككائن حيّ ينبض بالسرد، ويتكلم بلسان الجماعة، ويعكس هشاشة الكائن في مواجهة تحولات الزمن.

القرية في رواية «الروع» ليست «مكانًا» فحسب، بل مجاز سردي، تتلاقى فيه الشظايا الفردية بالتاريخ الجمعي، وينتظم فيه التبئير السردي كمنظورٍ حميميّ، يُعيد صياغة العلاقة بين الإنسان والأرض، ويُبرز أثر العنف، لا على الفرد فقط، بل على الجماعة كلها.

الروع تأتي امتدادًا لهذا السياق، حيث يواصل الخطاب الروائي تركيزه على صورة البطل الأحادي في مواجهة وجودية ذات طابع كوني، محكومة بإكراهات المكان والزمن، تكرار لا يُفضي إلى رتابة، بل إلى تعميق المستويات الاجتماعية والنفسية للشخصية.

في رواية الروع، يُقدِّم الخطاب الروائي نصًّا يأتي مفتتحه بلغةٍ صادمة، مشبعة بعنف بصري ومجازي، تستفزّ الإدراك الحسيّ والذهنيّ للقارئ، ثم يختتمها بفصول تفتح أفقًا للتأويل المأساوي المفتوح، مستندًا إلى تشكيل معقّد تتداخل فيه السيميائيات (العلامات البصرية واللغوية)، والبعد النفسي، والأسلوبي، في سياق سردي متوتر وعنيف، تتخلله ظلال من الجنون والأسطورة.

في المشهد الافتتاحي، يُشكّل الخطاب الروائي صورة لجسد مصلوب، ممزق ومبتور، على «روع» الحقل، وهو مشهد ينهض على بنية صُوَرية ذات دلالات توراتية وإسلامية، تعيد تشكيل جسد الضحية في خطاب الشهادة والتضحية واللعنة معًا. الجسد هنا ليس كيانًا فرديًا، بل علامة سردية كبرى تحيل إلى انهيار النظام للعالم. نقرأ: «جثة بلا رأس، بلا كفين أو قدمين، تمثل مصلوبة على روع الحقل».

هذه الجملة الأولى تنهض كبنية افتتاحية مكثفة، يمكن أن نحللها على ضوء ما يسميه رولان بارت بـ«اللحظة الدالة»، حيث يخترق المشهدُ القارئَ باختلاله البنيوي. المفردة الأولى «جثة»، ذات الحمولة الجنائية/ الإجرامية والإيحائية بالنعيم والخلاص، تقابلها البنية البصرية العنيفة للجسد المبتور والمصلوب، وهو ما يخلق مفارقة دلالية تعمل كسيمياء سلبية للجثة، أي جثة الموت واللعنة، لا النعيم. الجثة إذًا جسدٌ يُستخدم بوصفه علامة للخراب، لا النجاة.

ينتقل الراوي بعد ذلك إلى وصف رد الفعل الجسدي والنفسي للبطل محجان، مستخدمًا استراتيجية أسلوبية تعتمد على التهويم النفسي، وتداخل التخييل مع الواقع، مما يجعل البنية الزمنية متصدعة وغير خطية. تتجسد هذه التقنية في جملة مثل: «اسودت الدنيا في عينيه، وكأن جاثوما يضغط عليه ويُكبّل حركته».

هنا تظهر تقنية التناص النفسي مع أدبيات الكوابيس والتراث الشعبي عن الجاثوم، ويغدو الحدث جزءًا من كابوس غير قابل للتصديق أو الإدراك الحسي الواضح، وهي آلية بنيوية تفكك الحكاية المركزية وتعيد تشكيلها ككابوس سردي دائم.

تُقدَّم شخصية محجان لا بوصفها شاهدة على العنف فحسب، بل باعتبارها متورطة في بنية السرد كمفعول به مستلب. يبدأ بمحاولة تفسير المشهد بوصفه «كذبة»، وهو ما يحيل إلى تفكيك مفهوم «الواقعي المتخيل»، حيث ينهار الخط الفاصل بين الحقيقة والوهم: «هذا حلم». «سيقوم من مكانه. ثم أغمض عينيه، وحين فتحهما لم يحدث شيء».

هذه اللعبة السردية بين الواقع والهلوسة تشكّل تيمة متكررة في الرواية، كما أنها تقود البنية السردية إلى نوع من اللايقين، الذي يعمّق تأويل الجريمة كفعل غامض، غير متحدد الهوية أو المصدر، مما يضاعف أثره السيميائي.

في الفصول الأخيرة، نلاحظ انتقالًا من الكثافة والانفعالية إلى الحط من شأن الحدث نفسه بطريقة مأساوية ساخرة. نقرأ «حسيت كأني أنا المصلوب».

بهذه الجملة، ينهي السارد، أو محجان نفسه، كل مسافة بين الجسد المصلوب وجسده، ويقع التماهي التام، وهو ما يعكس التقاطع الزمني بين زمن القصة وزمن الحكاية. الجملة تكرّر على لسان الشخصية في حكاياتها المتكررة، لتصبح لازمة سردية، وكأنها استعاضة عن فعل الفهم أو التفسير. التكرار هنا يحمل وظيفة ميتاسردية، حيث تصبح الحكاية تبريرًا للحكاية، وتتحول إلى نمط ثابت في محاولة عقلنة الكابوس.

لكن هذه المحاولة تنقض نفسها عند الختام، حين يتأكد الخراب في الحقول، و«رتعت فيها الحمير»، ويختلط المشهد الكابوسي بالواقع اليومي للحياة القروية. وتتحول الأرض من حضن للخصب إلى حضن للفوضى «لقد رتعت فيها الحمير وجاست خرابًا ودمارًا في حقول القمح والقت والذرة، وحطمت كروم العنب، وداست أقدامها اليابسة المجففة كل زهرٍ يانع، وكسرت كل غصن طري»

هنا، نصل إلى المفارقة الصادمة، إذ تقابل صورة المصلوب العالي، المهيب، بالحمير العابثة، في مشهد يبدو عبثيًا، لكنه ينطوي على عمق نقدي للبنية المجتمعية وقيمها. يظهر ذلك في تداخل علامات الحياة (القمح، الذرة، العنب) مع فعل التخريب، وتكثيف مفارقة الحياة/الموت.

تتجلى الخاتمة في رواية الروع بوصفها بلوغًا أيقونيا لذروة التوتر الدرامي والتحول النهائي في الشخصية المركزية، محجان، الذي تتصاعد هواجسه ليبلغ لحظة الاندماج الكلي مع الروع، في طقس شعائري يمزج بين الصوفية، والوجودية. هذا التلاحم بين الجسد والتمثال لا يُقرأ إلا بوصفه إعلانًا صريحًا عن فناء الفرد في الكائن الأسطوري الذي صنعه، ودخولًا في طور من التقديس والتطهّر عبر النفي والاحتراق والاختفاء.

يفتتح هذا الفصل بلحظة نصر زائف، إذ يشعر محجان بـ»نشوة عظيمة»، وتبدو هذه النشوة تعبيرًا عن اكتفائه الذاتي بعد القضاء على الأرواع المنافسة. يقول السارد:

«البلاد التي تكثر فيها الأرواع ستتحول إلى مجرد هياكل منصوبة لا روح فيها ولا تخيف أحدًا أبدًا».

يتضح أن محجان يخشى الفراغ الرمزي، لا تعدد الرموز، فيقرر ترسيخ رمز واحد: روعه التي يعتبرها الحقيقية الوحيدة. هذه الفكرة تستبطن نقدًا مبطّنًا لهيمنة الفردانية وسطوة التمركز حول الذات.

يختار محجان أن ينسحب من مجتمع القرية ويغتسل، في مشهد طقوسي مهيب. ينزل إلى الحوض ويطفو على الماء، وكأننا أمام طقس عماد مقلوب، لا لتطهير الخطيئة بل لتأكيدها. يقول السرد:

«استلقى على صفحة الماء مسترخيا، مد يديه مثل طائر حر يحلق في الأعالي، وغرق في تأمل انتصاراته التي أحرزها».

هنا تتقاطع عناصر رمزية متشابكة: الماء، التحليق، الصمت، التأمل، وكلها تنتمي إلى سياقات التطهير، لكنها تقود إلى لحظة تشييد «الذات الجديدة» التي لا تجد تمام تحققها إلا بالذوبان في الجسد الآخر، جسد الروع.

الاندماج الجسدي مع الروع يتخذ صورة صوفية بامتياز، لكنه لا يُقرأ في سياق عشق إلهي، بل كتحقق لكائن ظلّ يتشكل طوال الرواية. فعل «الصَلب» على جسد الروع يخلط بين الأيقونية الدينية (الصلب المسيحي) وبين الطقس الصوفي الحلاجي، لكنه هنا يقلب دلالاته المعتادة. يصف النص:

«التحم بها، ووضع ساعديه على ساعديها، وصالبا نفسه على جسدها».

بهذا الفعل تتحول الروع من مجرد تمثال رمزي إلى كائن حي، حارس للجثة التي نحتها محجان بنفسه.

القرية، وهي الكيان الجمعي الذي طالما ناصبه محجان العداء الرمزي، تُترك في حالة من الهلع والضياع السردي.

«فرّوا هاربين وأطلقوا أرواحهم تسابقهم من شدة الخوف».

لتتشظى الحقيقة وتصبح الحكاية شلالًا من التأويلات:

«انهمر مطر الحكايات حتى أصبح جداول وشلالات بلا عدد».

وهنا تبرز استراتيجية روائية بارعة تعيدنا إلى بنية «المغايبة» في الحكاية الشعبية العمانية: البطل الغامض، الاختفاء، تعدد الروايات، وشيوع الخوف في الغياب، لا في الحضور.

يكتمل الانسحاب الاجتماعي برحيل الزوجة إلى الجبل، في لحظة شعورية مضطربة، لكنها حاسمة؛ «خرجت في الظلمة القائمة متسللة من القرية نحو الجبال واختفت».

هذا الاختفاء الأنثوي الموازي لاختفاء محجان يعيد تأكيد القطيعة النهائية مع المجتمع القروي الذي فشل في فهم أبطاله، أو في احتوائهم.

التحول الأخير لمحجان إلى تمثال حيّ، إلى «روع» قائمة وسط الحقول، يمنح الرواية نهايتها المفتوحة: اختفاء البطل، ذوبانه في كيان رمزي، تحوله إلى حكاية شعبية، كل ذلك يجعل من الخاتمة إعادة إنتاج لبنية الرواية كلها، إذ يتمدد الخيال الشعبي ويصير واقعة، وتتقاطع الأصوات لتؤسس أسطورة تتردد في فضاء ملبد بالدخان والحيرة، حيث لا حقيقة واحدة بل تأويلات مفتوحة.

ختام الرواية لا يُغلق القوس السردي، بل يفتحه على مصراعيه، ويعيد تشكيل العالم وفق منطق الأسطورة لا العقل، وفق الخوف لا الفهم. في هذا الانفتاح على الغرائبي والمجهول، تحتفل الرواية بالروحي الشعبي كمنقذ من سطوة الواقعي، وكمأوى للهاربين من اليقين.

تتجلى تمظهرات البنية الشفوية في الخطاب الروائي لدى زهران القاسمي في نصه (الروع)، من خلال توظيفه لقوانين الحكاية الشعبية كما صاغها العالم الدنماركي (أكسل أولريك، الحكاية الخرافية، ص 149-168)، ويتضح ذلك عبر تتبع البنية السردية للنص/ الرواية، وبرغم انتمائها إلى السرد الواقعي النفسي، تتكئ على بنى تقليدية مستمدة من الحكاية الشفوية، مما يعكس وعيًا عميقًا بالتراث السردي الشعبي. يقدم النص قراءة تفصيلية لعناصر الرواية في ضوء القوانين الثمانية التي وضعها أولريك، من أجل إبراز التلاقح بين السرد الحداثي والإرث الحكائي التقليدي.

تتمركز الرواية حول شخصية «محجان»، وهو رجل هامشي في مجتمعه القروي، يعاني من العزلة والخوف ويجسد نموذج البطل المقهور والمهمّش. هذا التمركز الكامل حول شخصية واحدة يُطابق ما أشار إليه أولريك في قانون «البطل الواحد»، حيث تنبني الحكاية على شخصية محورية تُشكّل عمودها الفقري. تبدأ الرواية بمشهد غريب ومفاجئ: صراخ محجان صباحًا، مما يُهيئ القارئ للدخول في عالم غرائبي ومضطرب، وتنتهي بفعل درامي حاسم يتمثل في إحراق الحقول. هاتان النقطتان تشكّلان بداية ونهاية مغلقتين، وفق ما يسميه أولريك «الإطار الثابت»، وهو ما يمنح النص قوة سردية تشبه الطقوس الحكائية التي تُروى شفويًا.

التكرار يظهر بصورة لافتة في الرواية، سواء على مستوى المضمون أو اللغة، إذ تتكرر مظاهر التهميش والسخرية التي يتلقاها محجان من أهل قريته، كما تتكرر مشاهد خوفه وصراخه وانكفائه على ذاته. هذا التكرار لا يخدم فقط الجانب التقريري، بل يعمّق الإيقاع ويُشيد نسقًا دائريًا يجعل المتلقي يُشارك في خلق الإيقاع. من جهة أخرى، فإن البنية الصراعية في الرواية تقوم على مبدأ التضاد؛ إذ يتقابل محجان مع الجماعة، الصمت مع الضجيج، الهامش مع المركز، والعجز مع الانفجار. هذا التضاد هو أحد القوانين البنيوية التي لاحظها أولريك في السرد الشعبي، حيث يُبنى التوتر الدرامي عبر الثنائيات المتقابلة.

السرد في الروع يتسم بالبساطة والوضوح، فلا نجد تعقيدًا في بنية الزمن، ولا تنقّلًا بين وجهات نظر متعددة، بل يمتدّ السرد في خط واحد واضح، مع التركيز على فعل مركزي تتكثف حوله الأحداث، ما يُقارب الحكاية الشفوية في بنيتها السردية. هذه الخطية لا تعني الفقر الدرامي، بل تُعزز من قدرة السرد على ترسيخ الفعل المأساوي في وعي القارئ. من أبرز ما يميز الرواية أيضًا نهايتها الحاسمة، إذ يتحول محجان من شخصية مسالمة ومنكفئة إلى فاعل مدمر، حيث يقوم بإحراق الحقول، في فعل يبدو انتقاميًا ولكنه يعكس تراكمًا داخليًا طويلًا من القهر والخوف. هذه النهاية تمثّل ما يُسميه أولريك «التحول الحاسم»، حيث يُغلق النص بفعل يحرّر التوتر المتراكم.

رغم أن الفعل الأخير (الحرق) قد يبدو غير عقلاني ظاهريًا، فإن تطور الحبكة، والبناء النفسي للشخصية، يبرران هذا التحول ضمن منطق داخلي متماسك، وهو ما يُشير إليه أولريك في «قانون المنطق الداخلي»، حيث لا يُحاكم الفعل بمعايير عقلانية خارجية، بل وفق نسق نفسي وسردي داخلي يخلق منطقه الخاص. كذلك، يُلاحظ نوع من التوأمة الرمزية في شخصية محجان، فهو يبدو في ظاهره رجلاً وديعًا، خائفًا، ضعيف الحيلة، لكنه في باطنه يحمل كائنًا ناقمًا وغاضبًا ومشحونًا بطاقة مدمرة. هذه الثنائية تُعيدنا إلى ما يسميه أولريك «قانون التوأمة»، حيث يظهر البطل في صورتين متقابلتين، يختبئ أحدهما خلف الآخر إلى أن يقع التحول السردي.

إن رواية الروع، رغم حداثة شكلها، تظل على صلة عميقة بالبنية الشفوية التي تُشكّل أساس السرد الشعبي العربي، بل والعالمي، كما درسها أولريك. وهذا التواشج بين الحداثي والشعبي لا يأتي في الرواية عرضًا أو تزيينًا، بل هو جوهرها البنيوي والدرامي. ومن خلال هذا المنظور، يتضح أن زهران القاسمي يُعيد، بشكل غير مباشر، إنتاج الذاكرة الجماعية في بنية حكائية حديثة، ما يجعل روايته نصًا مفتوحًا على التحليل من داخل علم الفولكلور. فـ الروع ليست فقط قصة رجل هامشي انفجر في وجه مجتمعه، بل هي إعادة سرد لقصة الإنسان حين يصبح ضحيةً للخوف المتراكم. وبذلك، تُقدّم الرواية مثالًا حيًا على إمكانية تلاقح الرواية الحديثة مع الإرث الشفوي التقليدي، مما يمنح السرد العربي المعاصر بُعدًا هوياتيًا مزدوجًا: ينتمي للماضي ويتكئ على الحاضر، ويتجاوز الثنائية المعتادة بين الحداثة والتراث.

‐-----------------------------------------------

المراجع:

- رواية الروع، زهران القاسمي، دار ميسكلياني، تونس، 2025

- نظريات السرد الشعبي، عبد الحميد أحمد، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2004

- الحكاية الخرافية، فردريش فون، ديرلاين، ترجمة د. نبيلة إبراهيم، دار رؤية للنشر والتوزيع، 2016

- التحليل النصي، رولان بارت، ترجمة عبد الكبير الشرقاوي، منشورات الزمن، 2000

مقالات مشابهة

  • نصيحتي لمنسوبي الحركات المسلحة “نصيحة صادقة”
  • الشاعر عبد الله حسن ضيف القومية فى 30 يونيو بالأوبرا
  • قراءة في خطاب حميدتي
  • الحركات- جفت الأقلام ورفعت الصحف
  • الحبس 5 سنوات عقوبة نشر شائعات تستهدف الإضرار بالمصالح القومية للبلاد
  • حاسبيني في اللقاء الـ14 لملتقى التأثير المدني: دولة المواطنة تقتضي وقف ضرب المفاهيم المؤسّسة للدّولة
  • خطاب المفتتح والخاتمة قراءة في رواية «الروع»
  • عاجل. الجيش اللبناني يعلن توقيف أحد أبرز قياديي تنظيم الدولة الإسلامية في البلاد
  • لايستطيع أحد أن ينكر أو يشكك الدور الكبير الذي قامت به الحركات المسلحة في حرب الكرامة
  • الخرطوم تشدد الإجراءات الأمنية بالطرق القومية والجسور