صحيفة التغيير السودانية:
2025-07-01@16:01:33 GMT

دينق قوج.. نبكي الجسر والنهر

تاريخ النشر: 19th, December 2024 GMT

دينق قوج.. نبكي الجسر والنهر

 

دينق قوج.. نبكي الجسر والنهر

فايز السليك

يا صديقي لا ننعيك وإنما ننعى أنفسنا، فالموتُ كما تعلم، لا يوجع الموتى، الموتُ يوجع الأحياء، وعندما فاضت أنهر الدموع حزناً يا صديقي كانت الأدمعً تهطلُ حزناً علينا نحن، نبكي انهداد احد جسور الربط بين ضفتي نهر الشمال والجنوب، نحن من نفتقدك، نفتقد قلبك الطيب الذي لم ينزع العنصريون منه حب الوطن الكبير عندما أصدروا أول قرارٍ رسمي بانتزاع الجنسية السودانية منك أنت بالذات.

نعم يا دينق أذكر انَّ أولى القرارات الرسمية حملت اسمك أنت دون الآخرين، فعلوا ذلك في غمرة سكرتهم وهم يذبحون الثيران فرحاً بانفصال جزء غالي من الوطن، لكنك ظللت أنت السودان الكبير، هذا بشهادة الجميع، الاستفتاء الإنساني، وفيض الدموع على رحيلك يا حبيب الكُّل، ويا صديق الجميع.

الموتُ هو سبيل الأولين والآخرين، الحقيقة الثابتة، هجرة الأرواح إلى عوالم أخرى، وفناء الأجساد وفق قوانين الفانية

كما كنت تحدثنا عن ثقافة أهلنا الدينكا، أذكر أحاديثك عن طقوس الموت، ورؤيتهم للموت، وقولك أنَّ الدينكا يؤمنون  ” بوجود حياةٍ أبدية بعد الموت، ما يجعلهم حريصين على طقوس محددة عند الوفاة تختلف بين العامة والسلاطين حتى ينالوا طمأنينة أنّ تلك الأرواح تسكن في سلام. وهو ما يمكّن عائلة تلك الأرواح وأبناءها وأحفادها من العيش بسلام. أما التقصير فقد يجرّ المصائب على العائلة. أول طقوس الموت التخلص من أيّ مواد سائلة كانت موجودة في المنزل لدى وقوع الوفاة، كالمياه والزيوت وغيرها. بعدها إطفاء النار الموقدة. كما تُحلق رؤوس أفراد الأسرة بأكملها ذكوراً وإناثاً. وتجري عملية الدفن نهاراً وإن وقعت الوفاة ليلاً.

وهو ما تتفق حوله الأديان السماوية جميعاً؛ ذهاب الروح إلى عليين، أو إلى برزخٍ، وأنت الآن في البرزخ يا صديقي، سافرت روحك، حلقت بعيداً في السموات، بينما نحن يعمنا الحزن على رحيلك، فأنت الانسان النبيل الذي ما رد صاحب حاجة، ولا غضبت في وجه مظلوم، بل أنت الحكمة، مثلما كنتُ أسميك ” حكيم الدينكا”.

كان ذلك أيام صحيفة ” أجراس الحرية” وأنت نائب رئيس مجلس الإدارة، كنت مرفأ للجميع، طفاية حريق أحياناً، نحمل مشاكلنا الإدارية إليك، ونثق في حكمتك، طول بالك، تسامحك، وفي ذات الوقت شجاعتك في مواجهة أي صعوبة، لا تخفي ما تؤمن بأنه حقيقة، تجهر بما تؤمن به بلا مجاملة طالما هو الحق في وجهة نظرك، لكنك في ذات الوقت لا تحمل ضغينة، وكما تعلم فسيد القوم لا يعرف الحقدا.

ظللت تواجه أصعب المواقف بضحكةٍ ساخرة، أو طرفة جميلة، أذكر يوم أن جئتني في المكتب ضاحكاً، كدت أن تسقط من الضحك على الأرض، وضعت صحيفة الأجراس أمامي، ثم سألتني يا فايز أنت ما بتقرأ الملحق الثقافي ولا شنو؟.

سألتك إن شاء الله خير يا دينق؟ أنا كما تعلم مشغول مع  الأخبار والحوارات  السياسية، ومشاكل المحررين ومتابعاتهم، ثم دورية المساء مع الأمنجية الجاثمين على صدور الصحيفة، الرقيب الأمني الذي يقرأ الجريدة سطراً سطراً، بما في ذلك صفحات الرياضة، أما الملحق الثقافي فليس مجال مشاكل مع الأمنجية.

ضحكت أنت مرةً أخرى ثم طلبت مني قراءة  قصة قصيرة مترجمة لمترجمة لبنانية، وفعلاً قرأتُ القصة، ومن غير توقع، وجدتُ ما يضحكك.

يا للهول!، كيف تسللت هذه الكلمة؟ كلمة بذيئة لا تقال إلا في حوارات الأزقة،  فعلاً شر البرية ما يضحك، كيف العلاج يا صديقي ونحن صحيفة تزعم الرصانة، وتحترم القارئ؟ كيف ينظر إلينا القراء؟ ثم كيف يكون رأي مجلس الصحافة والمطبوعات؟

لم ترفض مقترحي عندما اقترحت أنا كتابة افتتاحية في عدد الغد اعتذاراً للقراء، واقراراً منا بالخطأ، واقترحنا تشكيل لجنة تحقيق لمعرفة المتسبب في الكارثة، وكان موقفك مشجعاً وقرارك بالتحقيق كان مهماً، وربما لكتابة الاعتذار لفتنا انتباه مجلس الصحافة المتربِّص بنا الدوائر، فكان قرار الاستدعاء، ثم بعده أوقفنا المجلس عن الصدور لمدة يومين، ومع ذلك رحبنا بالقرار، فكانت سابقة، مما دفع الراحل الدكتور هاشم الجاز، الرجل المهني، والإعلامي الضليع بروفيسور علي شمو للاتصال بك مشيدين بما فعلناه، اعتذاراً عن الخطأ، وقبول العقوبة، وهو ما ترفضه كل الصحف.

 

امثلة كثيرة، اتذكر  صورة لبنى أحمد حسين، التي التقطتها أنت وصارت هي الصورة الأبرز خلال قضية البنطال، وكيف كانت معالجتنا في أجراس الحرية؟، ومشاكل الإعلانات والتوزيع، ومشكالنا نحن، وخلافاتنا، واختلاف وجهات النظر، ومع ذلك كنت أنت عضو المجلس الوطني الانتقالي، ورجل الأعمال، وصاحب مؤسسة رفيقي للإعلان والنشر، وكاتب عمود يومي، كنت تفعل كل ذلك بهمة ونشاط وحيوية.

يا صديقي لقد حملت معك كل هذه التفاصيل عندما رحلتم مع الأشجار جنوباً، وأنا ما بجيب سيرة الجنوب على قول شاعرنا العظيم القدال.

كنت أنت أحد الأشخاص المهمين للشمال والجنوب، ودوننا  حسابك على الفيسبوك، ” مناقراتك”، وقوفك مع ثورة ديسمبر، وحتى في الرياضة، كنت تضحك ذات الضحكات الساخرة عندما يفوز المنتخب السوداني على شقيقه في الجنوب، تكتب بحب، تسخر من الكورة كلها، وتحول المباراة الى ساعات للمحبة، مثلما انت ” المريخابي” وأنا الهلالابي، وفي الكرة بيننا مناكفات انتهت ذات مرة بوضعك أحد أعلام الفرق داخل مكتبي في الصحيفة ابتهاجاً منك بفوز الفريق الذي تشجعه، أو قل هزيمة الفريق الذي أشجعه أنا خلال احدى المباريات في الخرطوم.

يا صدقي، تلك كانت تفاصيل صغيرة، وما الحياة غير تفاصيل؟!.  لكنها تكوِّن في النهاية الحياة بمفهومها الوجودي والمصيري، ودور الانسان في الكون، وأنت دورك كبير، يشهد عليه المئات من السودانيين والسودانيات بعد انفجار الحرب الكارثية في أبريل ٢٠٢٣.

لقد فتحت دارك يا في مدينة الرنك للهاربين من الجحيم، كنت تتابع من جوبا تحركات كل الذين تعرفهم، أو التجأوا اليك ساعة محنة، تقدم واجب الضيافة بكرم، تذبح الذبائح، بل وتقطع تذاكر السفر إلى جوبا، وتوكل من تثق فيهم بأداء المهام بما فيها التحويلات المالية وتوفير السكان حتى ساعة السفر، وايصال المسافرين حتى المطار.

قل لي من يفعل ذلك يا صديقي غير سلطان وسيد قوم؟ أنت من فعل ذلك، نقولها اليوم بعد رحيلك لا لقصم ظهرك، لكنها الحقيقة، فأنت رجل الأعمال والمزارع كنت توظف ما في يدك من نقود لخدمة الآخرين، وتعرف كما تحدثنا  عن طقوس الموت في ثقافة الدينكا ” بعد عملية الدفن مباشرة، يحرص أهل الميت على ذبح خروف أبيض باعتباره لون الحزن لديهم. وفي اليوم الثالث، تخرج أسرة الميت فجراً من المنزل لتجلس في مواجهة الشرق. توقد حولها النار وتبدأ في تلاوة أدعية تتصل بمناجاة روح الميت لتبعد عن المنزل، مع وعدها بإجراء كلّ الطقوس من أجل تجنب اللعنة”.

الحساب عند الله رب العالمين يوم الحساب، وأنت بين يدي مليك مقتدر، لكن دنيوياً لا أعلم لك غير الخير لأهلك ولعشيرتك ولمدينتك الرنك، وجنوب السودان ولوطنك الكبير السودان، الذي سافرت منه وتركت بعض أملاك وعقارات تنازلت عن ثمن إيجارها لشاغليها بعد الحرب.

 

كما قلتُ لم ينزعوا من قلبه انتماء السودان الكبير بالرغم أنه؛ وقبل انفصال جنوب السودان بحوالي ثمانية عشر يوماً قرر مجلس الصحافة والمطبوعات  تعليق صدور صحيفة ” أجراس الحرية” ، بزعم الدعوة لتوفيق أوضاعها  واعتبار الناشر شركة أجنبية؛ وفقاً لقانون الصحافة والمطبوعات، في إشارة إليك،  رفضنا القرار  لأنه كان يرسخ لسياسة نزع الجنسية من السودانيين ذوي الأصول الجنوبية حتى أولئك الذين انعدمت صلاتهم بالجنوب، حبت ولد أباءهم في الشمال، ولا يحملون من الجنوب الا الاسم الرابع أو الخامس، وأولئك الذين ولدوا من أمهات من الشمال وآباء من الجنوب، ورفضنا القرار كذلك لأن العضو دينق قوج كان يملك نسبة ( ٣٪)  من أسهم شركة مسارات جديدة، التي تأسست وفق قانون الشركات لسنة ١٩٢٥،  وتصدر الصحيفة  عن شركة مساهمة محدودة أسسها كل من رمضان حسن نمر، عبد الباقي محمد مختار، فايز الشيخ السليك، مصطفى سري، دينق قوج وصلاح أحمد محمد.

لكن في اليوم الثامن من يوليو  عام ٢٠١١ـ أصدرت وزيرة الدولة بوزارة الإعلام الأستاذة سناء حمد، قراراً بإلغاء ترخيص الصحيفة وشركتها، مع أن لا علاقة لوزارة الإعلام بالصحيفة، ولا بالشركة التي تصدر عنها الصحيفة، لكنها قرارات القمع وسد منافذ الحريات، وتكميم الأفواه.

ومع ذلك لم يتوقف دينق قوج ،عن الكتابة في الشأن السوداني، بقلب عاشقٍ متبتل، وتحوَّل حسابك على الفيسبوك، إلى مساحة حب لعشرات الآلاف من أبناء وبنات الشمال، واستمر قلبك نابضاً بحب السودان والجنوب حتى توقف عن الخفقان، ويا قلب كيف تشيل حب وهم شعب واحد في بلدين؟!

ومثلما قال الشاعر محمود درويش

هل مَرَّ تحتكما وَليفي ؟!!

ﻓﻲ الليل يرتدُّ البكاء المرُّ منهمراً ﺇﻟﻰ صدري

وطني يضيع ولا أقول:

آهٍ … من الليل الطويل

لو كنتُ أملك أن يَرُدّا

(ذَهَبَ الذين أحبهمْ

وبقيتُ مثل السيف فردا).

 

الوسومالسودان جنوب السودان دينق قوج

المصدر: صحيفة التغيير السودانية

كلمات دلالية: السودان جنوب السودان دينق قوج

إقرأ أيضاً:

محمد الموجي.. مهندس الألحان الذي غيّر وجه الموسيقى العربية

في مثل هذا التوقيت من كل عام، يستحضر الوسط الفني والجمهور العربي ذكرى رحيل أحد أعظم الملحنين في تاريخ الموسيقى العربية، الموسيقار محمد الموجي، الذي رحل عن عالمنا في 1 يوليو عام 1995. ورغم مرور 29 عامًا على وفاته، لا تزال ألحانه حيّة، تملأ الفضاءات بالمشاعر وتُرددها الأجيال، فقد كان بحق "مهندس الألحان" وصاحب البصمة الذهبية في مسيرة عمالقة الطرب.

 

 

 

نشأة موسيقار من طراز خاص

وُلد محمد أمين محمد الموجي في 4 مارس عام 1923 بمدينة بيلا بمحافظة كفر الشيخ. نشأ في أسرة متذوقة للفن، وكان والده يعزف على العود والكمان، مما جعله يكتشف شغفه بالموسيقى منذ الصغر، ليبدأ تعلم العزف على العود في سن مبكرة.

 

 

 

ورغم أنه التحق بكلية الزراعة وحصل على الدبلوم عام 1944، إلا أن شغفه بالموسيقى كان أقوى، فعمل في البداية في وظائف زراعية، قبل أن يلتحق بفرق موسيقية صغيرة ويبدأ رحلته الفنية من بوابة الغناء، التي لم تحقق له ما أراد، فتحول إلى التلحين، وهو القرار الذي غيّر مسيرة الموسيقى العربية.

 

 

 

البدايات الفنية والانطلاقة الحقيقية

في عام 1951، قُبل محمد الموجي كملحن في الإذاعة المصرية، بعد أن رُفض كمطرب، وكانت تلك نقطة تحول حقيقية، كانت انطلاقته القوية من خلال التعاون مع عبد الحليم حافظ في أولى أغنياته "صافيني مرة"، التي شكلت بداية صعود "العندليب" وصعود الموجي كأحد أبرز ملحني الجيل.

 

 

 

 

محمد الموجي وعبد الحليم حافظ.. ثنائي غيّر الطرب

شكّل محمد الموجي مع عبد الحليم حافظ ثنائيًا فنيًا استثنائيًا، حيث لحّن له ما يزيد عن 88 أغنية، أبرزها: "حُبك نار"، "قارئة الفنجان"، "أنا من تراب"، و"اسبقني يا قلبي"، وكان لحن "قارئة الفنجان" الذي غناه عبد الحليم عام 1976 آخر تعاون بينهما قبل وفاة العندليب، واعتُبر تتويجًا لمسيرة طويلة من النجاح المشترك.

 

 

 

تعاون مع الكبار من أم كلثوم لفايزة أحمد

لم يقتصر إبداع محمد الموجي على عبد الحليم، بل امتد ليشمل عمالقة الطرب، على رأسهم أم كلثوم، التي لحن لها أعمالًا خالدة مثل "للصبر حدود"، و"اسأل روحك"، و"حانة الأقدار".

كما قدّم ألحانًا خالدة للمطربة فايزة أحمد مثل "أنا قلبي إليك ميال"، و"تمر حنة"، إلى جانب ألحانه لنجوم آخرين مثل شادية، وردة الجزائرية، نجاة الصغيرة، سميرة سعيد، وغيرهم من رموز الغناء في مصر والعالم العربي.

بصمة لا تُنسى في الأغنية الوطنية

كان لمحمد الموجي دور كبير في الأغنية الوطنية، إذ لحن عددًا من الأعمال الخالدة التي عبّرت عن روح مصر وقضاياها، مثل "يا صوت بلدنا" و"أنشودة الجلاء". وكانت ألحانه الوطنية تحمل دومًا مزيجًا من الحماس والشجن، بتوقيع موسيقي خاص لا يُخطئه المستمع.

أسلوبه الفني.. هندسة اللحن وروح الشرق

تميّز أسلوب محمد الموجي بالمزج بين المقامات الشرقية الأصيلة والتقنيات الغربية الحديثة، وابتكار فواصل موسيقية غير مسبوقة، لم يكن الموجي مجرد ملحن تقليدي، بل كان يجيد التعبير عن الكلمات بألحان نابضة بالحياة، تبكي، وتفرح، وتُشعل الحنين في آنٍ واحد، مما جعله يُلقب عن جدارة بـ "مهندس الألحان".

رحيله واحتفاء لا ينتهي

في الأول من يوليو عام 1995، رحل الموسيقار محمد الموجي عن عالمنا عن عمر ناهز 72 عامًا، بعد أن قدّم للموسيقى العربية أكثر من 1800 لحن، ورغم رحيله الجسدي، لا يزال صوته حاضرًا في كل نغمة، وأثره باقيًا في ذاكرة كل من عشقوا الطرب العربي الأصيل.

وتُحيي وسائل الإعلام ووزارة الثقافة المصرية ذكراه سنويًا، من خلال التقارير والبرامج، وتُعرض أعماله في المناسبات الفنية، لتُذكر الأجيال الجديدة بإرث موسيقي لا يُقدّر بثمن.
 

مقالات مشابهة

  • إستلام مشروع السكة الحديدية “بشار-تندوف” في أكتوبر المقبل
  • محمد الموجي.. مهندس الألحان الذي غيّر وجه الموسيقى العربية
  • تألق المونديال.. هذا المبلغ الذي حصل عليه الهلال حتى الآن
  • ما الذي يحدث في اتحاد كتاب مصر؟
  • أوقفوا صناعة الوهم: من الذي انتصر حقاً؟
  • الكوادكابتر! (قصة من وحي المعركة)
  • الحليب نفد.. رضع غزة يواجهون الموت الوشيك
  • خالد تاجا.. الثائر الذي فاتته ساعة التحرير
  • الإبادة بغطاء المساعدة
  • (فؤادنا) الذي رحل