آمال وهواجس في استقبال العام الجديد
تاريخ النشر: 30th, December 2024 GMT
يمكن الزعم بأن ما يحظى به العام الميلادي الجديد من اهتمام وإنفاق وبذخ لا تحظى به أية مناسبة أخرى.
ليلة رأس السنة الميلادية من كل عام أصبحت نقطة التقاء الإنسانية ووحدة البشرية، ففي منتصف الليلة الفاصلة بين آخر يوم من ديسمبر وأول يوم من يناير ينتظر العالم بدء اليوم الأول من السنة الجديدة في أقصى نقطة في شرق الأرض، ليدور حول الكرة الأرضية مصحوبا باحتفالات عملاقة تزداد توسعا.
لا شك أن عصر العولمة فرض نفسه لتوحيد العالم حول هذه المناسبة، وكذلك تطور وسائل التواصل وهيمنة الثقافة الغربية. ويعتبر التقويم البابلي الأسبق في الاحتفال برأس السنة كلحظة عبور جماعي من زمن إلى آخر. وتظهر الأرقام مدى الإجماع الذي تحظى به المناسبة. ووفقا لبعض التقديرات فمن المتوقع أن يتجاوز الإنفاق العالمي على الأنشطة المتعلقة بعيد الميلاد في 2024 تريليون دولار، ويشمل هذا الرقم أغلب جوانب استقبال المناسبة، بما في ذلك التسوق بالتجزئة، والطعام والمشروبات، والسفر، والترفيه.
وتمثّل الولايات المتحدة أكبر مساهم في الإنفاق العالمي على عيد الميلاد، لكن مناطق أخرى مثل أوروبا وآسيا تشهد أيضاً زيادات كبيرة في الإنفاق الاستهلاكي. فماذا يعني ذلك؟ وهل العالم يسعى للتعتيم على مصائبه بالإفراط في إظهار الفرح في مثل هذه المناسبة؟
وربما الجانب الأهم في علاقة الإنسان وفعالياته بالبيئة حوله مدى قدرته على الاستغناء عن استخدام المواد التي تساهم في الإضرار بالبيئة مثل مادة البلاستيك لتصنيع المواد الاستهلاكية خصوصا ذات الاستخدام الواحد.
في العام الميلادي الجديد ثمة أمل بأن يتجدد السجال حول الانعكاسات السلبية للظاهرة الاستهلاكية المتزايدة على المناخ والبيئة، وهي قضايا عُقدت لها القمم ولكن لم تُتخذ إجراءات فاعلة لاحتواء الاستهلاك البشري المتزايد. وما الاحتفاء بالسنة الميلادية الجديدة بالأنماط المستخدمة ومن ضمنها الألعاب النارية والاستعراضات إلا تأكيد لاستمرار أنماط الاستهلاك بدون حساب، برغم ادعاءات الدول الغربية بانتهاج سياسات تحمي البيئة. وليس جديدا القول إن الإنسان عدوّ نفسه، فهو الذي يساهم في خلق أنماط حياتية تؤثر سلبا على البيئة وتساهم في التلوث بشكل كبير. وما التوجيهات التي تصدر عن مؤتمرات البيئة والمنظمات المهتمة بالتغير المناخي إلا محاولات متواضعة ليست ذات شأن في المسار الكبير الذي ينجم عنه التلوث والتداعي البيئيان.
هذا البذخ لا تحدّ منه الأوضاع الاقتصادية للبلدان أو الأفراد، ولا تقلّل من وهجه مشاعر الأفراد بالحزن، بل أصبح ظاهرة تعبر الحدود بشكل مطلق، وتطلق العنان للمشاعر المختزنة لدى الأفراد لتخرج من قمقمها وتتفاعل مع العالم، برغم أن المناسبة لا تحتوي على ما من شأنه تحسين أوضاع الإنسان وحياته. وتتنافس الدول لتقديم أفخم العروض خصوصا من الألعاب النارية التي تقترب أحيانا من الخيال. ومع دخول الطائرات المسيّرة التي تشارك في الاحتفالات العملاقة على الخط في السنوات الأخيرة، بميزة لا تشاركها فيها الوسائل التكنولوجية الأخرى، أصبحت العروض تتجاوز قدرات العقل البشري على الاستيعاب أحيانا. فهي قادرة على الثبات في الجو وعدم الحركة، وبذلك أصبحت هناك رسوم وكتابات تبدو ثابتة في طبقات الجو. فكأن هذه المناسبة أصبحت لاستعراض أحدث أنواع التكنولوجيا. ومن المؤكد أن الجماهير تستهويها تلك الاستعراضات.
في الماضي القريب كانت الألعاب النارية وحدها تجذب أنظار الكثيرين، فكيف بدخول التكنولوجيا المتطورة في مجال العروض. حتى ليبدو أحيانا أن الإنسان تجاوز في قدراته أحدث الأساليب. والخشية ان تتحول التكنولوجيا الرقمية بأشكالها المتجدّدة إلى «فرانكشتاين» القرن الحادي والعشرين، بحيث يصبح الإنسان غير قادر على مواكبة الاختراعات التي حققها، فتبدأ بملاحقته وحصاره وربما تهديد وجوده في بعض الحالات.
أليس هناك الآن ضجة تتوسع حول دور الذكاء الاصطناعي في تهميش العقل البشري؟ ألم تصبح الروبوتات التي تعرف أحيانا بـ «الإنسان الآلي» قادرة على إتقان الدور البشري في بعض المجالات والتفوق عليه في الأداء خصوصا في مجالات الطب من تشخيص وعمليات دقيقة وحسابات احتمال الانتكاسات والمضاعفات؟
الألعاب النارية التي تستخدم في احتفالات رأس السنة تُشعر الإنسان بما يسمى «العالم الافتراضي» الذي ليس له سيطرة عليه بل يتلاشى دوره فيه حتى ينتهي تماما. أليس هذا ما ينتظر الإنسانية في ضوء التطور المستمر للذكاء الاصطناعي؟ وعندما يظهر روبوت على هيئة إنسان يسير في الحقول ويصعد الهضاب وينزل الوديان، بل يبادل الآخرين التحية والمصافحة، ما الذي بقي من إنسانية هذا المخلوق؟ وما الذي تخبئه الأقدار له مستقبلا؟ وكيف يمكن استعادة الدور البشري في التفكير وصنع القرار بما يوازي أداء الذكاء الاصطناعي؟
المؤكد أن هذه القضايا سوف تتحدى الإنسان بشكل واسع، وسوف يجد هذا الإنسان أنه صنع بيديه منافسا له يستطيع القضاء على فطرته وطبيعته. ومع إدخال التقنيات الحديثة في أغلب مجالات الحياة، فمن المتوقع أن يتم الاستغناء تدريجيا عن خدمات الإنسان في الجوانب العلمية التطبيقية، وأن يأخذ الذكاء الاصطناعي مجالا أوسع حتى في البحث والاختراع. والملفت للنظر سرعة الاستجابة للأوامر في الفضاء الافتراضي.
مع ذلك فما يزال سابقا لأوانه افتراض تحوّل الحياة إلى مملكة تكنولوجية كاملة يمارس فيها الذكاء الاصطناعي أدوار التفكير والاختراع والتشغيل. فقبل نصف قرن كانت هناك نقاشات مستفيضة حول الآثار المدمّرة للجنس البشري لإدخال التكنولوجيا الحديثة في مجالات التشغيل والصيانة، ولكن ذلك التوقع لم يحدث، وما يزال الإنسان يمثل العنصر الأهم في إدارة الحياة برغم تطور الاعتماد على التكنولوجيا.
وبعيدا عن مسارات التكنولوجيا والبذخ في الإنفاق والاستهلاك والتدمير البيئي، هناك قطاعات مجتمعية تعيش عوالمها الخاصة وليست معنية بشكل مباشر بهذا السجال الذي يبدو لها ترفا فكريا منفصلا عن واقعها. فماذا سيقول اللاجئ الذي يستقبل الشتاء والبرد وهو يعيش في العراء او المخيمات؟ لقد قضى بعض هؤلاء عقودا في هذه المخيّمات في لبنان وفلسطين وهم يحلمون بالعودة إلى وطنهم الذي طردوا منه بعد احتلاله من قبل «إسرائيل».
بالنسبة لهؤلاء ماذا يعني لهم حلول العام الميلادي الجديد؟ وربما لم يذق أولادهم طعم العيش في وطن أو منزل، ولم يشعر بلذة التجوّل في «الحارة» ولا تحتوي طفولته على شعور بالأمن والاستقرار والنمو في أحضان عائلات مستقرة. إن ما يعانيه اللاجئون الفلسطينيون من شظف الحياة يجعل الحديث عن هذه الاحتفالات ترفا في غير مكانه. فهناك أكثر من 2.3 مليون فلسطيني يعانون من الظروف الصعبة للّجوء على أرض بلادهم. وفي الضفة يقطن أكثر من ربع اللاجئين في مخيمات رسمية وغير رسمية. ويشهد 32 مخيما في الضفة الغربية وقطاع غزة على النكبة الفلسطينية والتهجير القسري.
وتعاني مخيمات الضفة الغربية وقطاع غزة من بنى تحتية متهالكة، وشبكات صحية مدمّرة، ونقص في المياه، ويعيش سكانها اكتظاظا هائلا في بنايات متراصة تفتقر إلى التهوية والخدمات الأساسية، ويكابد القاطنون فيها ظروفا معيشية صعبة وسط نسبة مرتفعة من البطالة والفقر. وقد مضى على بعضها ثلاثة أرباع القرن، ومنها مخيم عايدة للاجئين في الضفة الغربية الذي تأسس في العام 1950 بين مدينتي بيت لحم وبيت جالا. فهل لدى هؤلاء المزاج للتفكير في العام الميلادي الجديد؟ بالنسبة للكثير من هؤلاء فقد توقف الزمن في اليوم الذي احتُلت أرضه وأصبح لاجئا يعيش في المخيّمات تحت رحمة المنظمات الدولية.
القدس العربي
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه رأس السنة العالم غزة غزة العالم رأس السنة العام الجديد مقالات مقالات مقالات اقتصاد صحافة سياسة سياسة سياسة من هنا وهناك من هنا وهناك سياسة سياسة من هنا وهناك سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة العام المیلادی الجدید الذکاء الاصطناعی الألعاب الناریة
إقرأ أيضاً:
عبدالباسط عبدالصمد.. صوت مصر الذي أسحر القلوب
عبدالباسط عبدالصمد، ذلك الاسم الذي يسطع في سماء القرآن الكريم، ليس مجرد قارئ للقرآن، بل هو رمز للتلاوة الخاشعة، وصوت مصر الذي وصل إلى كل بقاع العالم، يحمل في طيات صوته أصالة الأمة وعذوبة روحها.
ولد عبدالباسط في قرية المراعزة بمحافظة قنا عام 1927، في أسرة اهتمت بالقرآن الكريم، فكان جده والده من الحافظين والمجودين، وتربى على حب التلاوة منذ نعومة أظافره.
لم يكن صغره مجرد مرحلة طفولية، بل كانت بداية رحلة استثنائية مع كتاب الله، فقد أتم حفظ القرآن الكريم وهو في سن العاشرة، وانطلقت موهبته إلى آفاق لم يصلها كثيرون من قبل.
لم يكن عبدالباسط قارئا عاديا، بل كان فنانا في الأداء، مدققا في مخارج الحروف وأحكام التجويد، صوتا يطرب السامع ويشد انتباهه منذ اللحظة الأولى.
مع الشيخ محمد سليم حمادة في طنطا، تعلم القراءات السبع وأتقنها، واستمرت دعوته في أصفون المطاعنة، حيث كان الجميع يلتفون حوله للاستماع إليه، ويشيدون بموهبته الفريدة، كانت شهادات أساتذته محل احترام وثقة، وهو ما مهد له الطريق نحو شهرته المستقبلية.
دخل عبدالباسط الإذاعة المصرية عام 1951، بعد أن لفتت تلاواته الأنظار في المولد الزينبي، ومن هنا بدأ صوته ينتشر في كل بيت مصري، وكان الناس يرفعون أصوات الراديو ليستمعوا إلى تلاوته، كأن القرآن نفسه يتجدد في كل مساء.
انتقلت شهرته بسرعة، فأصبح قارئ مسجد الإمام الشافعي، ثم مسجد الإمام الحسين، وترك خلفه إرثا من التسجيلات الرفيعة والمصاحف المرتلة التي لا تزال تردد صداها في أرجاء العالم الإسلامي.
لم يكن عبدالباسط محصورا داخل مصر، فقد جاب العالم سفيرا للقرآن، يقرأ في أعرق المساجد وأشهرها، من الحرم المكي والمسجد النبوي إلى المسجد الأقصى والمسجد الإبراهيمي والمسجد الأموي، مرورا بمساجد آسيا وأفريقيا وأوروبا وأمريكا.
وكان حضوره في أي بلد مناسبة بحد ذاته، فاستقبله القادة والشعوب بحفاوة لم تعرف لها مثيلا، فقد كان صوته يحمل رسالة الإسلام والمحبة والروحانية، ويجمع القلوب على حب الله والتعلق بكتابه الكريم.
وفي كل رحلة، كان عبدالباسط يترك أثرا لا ينسى، سواء في الاحتفالات الرمضانية أو الزيارات الرسمية، وكان الناس يقفون على أقدامهم لساعات يستمعون لتلاوته، خاشعين دموعهم تنهمر من خشوعهم وإعجابهم بصوته.
لم يقتصر تأثيره على الجانب الديني فحسب، بل امتد ليكون رمزا للثقافة المصرية في العالم، وإشارة إلى قدرة مصر على أن تصنع أعظم الأصوات التي تسحر القلوب وتلامس النفوس.
ولم تخل حياته من التكريمات، فقد حصل على العديد من الأوسمة داخل مصر وخارجها، من وسام الاستحقاق السوري إلى وسام الأرز اللبناني والوسام الذهبي الماليزي، وغيرها من الأوسمة، تقديرا لدوره الكبير في خدمة القرآن الكريم ونشره، كما أسس نقابة قراء مصر، وانتخب أول نقيب لهم عام 1984، ليواصل دعمه للحفظة والقراء، ويهتم بشؤونهم بروح وطنية صادقة.
ورغم المرض الذي ألم به في أيامه الأخيرة، ظل عبدالباسط مخلصا لرسالته، محافظا على قيمه وصدقه مع القرآن والجمهور، حتى وافته المنية في 30 نوفمبر 1988.
وشهدت جنازته مشهدا وطنيا وإنسانيا استثنائيا حضره عدد كبير من الناس وسفراء الدول، تعبيرا عن حب العالم لصوت حمل رسالة القرآن إلى كل مكان.
عبدالباسط عبدالصمد لم يكن مجرد قارئ، بل كان روحا مصرية خالدة، وصوتا لا يزول من ذاكرة الإنسانية، أسطورة تضيء دروب كل من يحب القرآن ويعشق التلاوة الخاشعة.
وكلما مرت السنوات، يزداد حضوره في وجدان الأمة، ويظل مثالا للأجيال في التفاني والإخلاص والفن الذي يمزج بين الروحانية والجمال، ليبقى عبدالباسط صوت مصر، وصوت القرآن الذي يرن في القلوب كما يرن في الآذان.