لحشود التشييع رسائل، فما أهمُّها؟
تاريخ النشر: 25th, February 2025 GMT
محمد الموشكي
دخل حزب الله معركة إسناد غزة في اليوم التالي من انطلاق عملية “طوفان الأقصى” المباركة في السابع من أُكتوبر المجيد. فبدأ حزب الله تصعيدًا مدروسًا في جبهة الشمال، مما أَدَّى إلى استنفار نصف جيش الاحتلال الإسرائيلي، خوفًا من اختراق هذه الجبهة من قبل حزب الله.
واستمرت عمليات الإسناد المتصاعدة حتى وقوع الجريمة الإرهابية الغادرة “البيجر”، حَيثُ انتقلت هذه العمليات إلى منحى جديد من التصعيد، فوسع الحزب دائرة الاستهداف لتشمل معظم مدن الشمال، وُصُـولًا إلى حيفا وما بعدها.
بعد ذلك، جن جنون الكيان؛ لأَنَّه أدرك أن خطط حزب الله القتالية تتقدم وفق استراتيجيات مدروسة. ولم تنجح عملية البيجر الإرهابية في إيقاف نشاطات الحزب، فقرّر الكيان تَفتيت خطط حزب الله الناجحة عن طريق تنفيذ عمليات اغتيال متزامنة ومتتالية طالت الصف الأول والثاني والثالث في الحزب. وقد حقّق الكيان هذا الهدف بالفعل، بل ونجح في تحقيق أحد أبرز أهدافه، وهو قتل السيد حسن نصر الله، القائد العربي الوحيد الذي هزم “إسرائيل” في عدة جولات من الصراع.
هنأ الكيان نفسه بعد هذا الاستهداف، شعر بنشوة النصر العظيم التي فتحت شهيته لتغيير معالم الشرق الأوسط الجديد. فأطلق جميع جنوده وعتاد جيشه للهجوم على لبنان واحتلاله. ولكن، منذ اللحظة الأولى من التقدم، شهد جيش الاحتلال الجحيم وبأس المقاومة، وكأن السيد لم يرحل أَو يُقتل، وأنه لم يغادر ساحة القتال، مما ألحق بجيش الاحتلال هزيمة قاسية في قرى الجنوب اللبناني، ليضطر هذا الكيان، عن طريق ذراعه السياسي أمريكا، لعمل هدنة مع لبنان.
استجاب حزب الله لهذه الهدنة وعمل بكل بنودها، ولكن الأمريكيين وأدواتهم اعتقدوا أن رضوخ الحزب للهدنة يعكس ضعفًا ووهنًا يعيشه. فعملوا على تأليب الدولة والحكومة اللبنانية، وكذا الداخل اللبناني، بواسطة الإعلام وبعض الأحزاب والوجوه التي لم تتجرأ حتى على الظهور للعلن قبل رحيل نصر الله. استخدموا عدة حيل وتلفيقات كاذبة تصب في صالح الاحتلال الإسرائيلي.
استمر الأمريكيون في هذا المسعى حتى حاولوا بشكل علني إبعاد حزب الله قبل أن يتعرضوا للخيبة والفشل من الحكومة اللبنانية. السعوديّة وغيرها من الدول العربية حاولت الضغط على حزب الله، خُصُوصًا بعد سقوط سوريا بيد الجماعات التكفيرية، للقبول بالإملاءات الأمريكية التي تصب لصالح “إسرائيل”، ومن أبرزها إرجاع حزب الله إلى ما قبل نهر الليطاني، مع بقاء جيش الاحتلال في بعض القرى الحدودية في جنوب لبنان.
وهنا، وأمام هذا المشهد الضاغط بقوة على حزب الله، جاء يوم الأحد، 23 فبراير، يوم تشييع نصر الله، ليكون يومًا فارقًا بين مرحلة مليئة بالألم والضغوط العسكرية والسياسية والإعلامية ومرحلة لاحقة غير مسبوقة. مرحلة مؤهلة لالتهام كُـلّ ما صنعه الأعداء. ونجاح هذه المرحلة وملامحها الأولى تتطلب أمرًا واحدًا، وهو زخم الحشود المليونية التي ستخرج حاملة أعلام ورايات وشعارات حزب الله، وفي ذات الوقت المعاهدة أمام الملأ أنها على العهد باقية، لن تتخلف قيد أنملة عن منهاج نصر الله.
وهنأ تحقّق هذا الأمر، وشاهده العالم أجمع، وكذا شاهده الأعداء بتأمل عظيم حشود يوم الأحد، الأعظم والأكبر في تاريخ لبنان.
يوم الأحد، كان له رسائل من أهم هذه الرسائل للدّاخل والخارج هي أن حزب الله قوي، بل أقوى مما يتصوره الأعداء وحتى الأصدقاء أنفسهم. يومًا أحبط كُـلّ ما حقّقه العدوّ في جميع الأصعدة، وبالأخص في الجانب السياسي. يومٌ أثبت فيه حزب الله أنه أعاد ترتيب صفوفه من جديد في أقل من 70 يومًا،
يومٌ ألحق في الكيان خسائر فادحة بكل ما أنفقه من مليارات الدولارات ومئات القتلى وآلاف الجرحى في حربه على حزب الله.
حقًا، إنه ليوم من أَيَّـام الله، يومٌ جدد فيه الأحرار والعظماء الولاء لنصر الله.
المصدر: يمانيون
كلمات دلالية: حزب الله نصر الله
إقرأ أيضاً:
رسائل مؤثرة.. مراسلو الجزيرة نت في غزة يرثون زملاءهم الشهداء
غزة- من جديد، يطرق الفقد الجماعي باب الغزيين، من باب أيقونات كبروا في العامين الأخيرين على صوتها، وعلى صرخات استغاثتها تهز العالم باسم جوعهم ودمهم وأشلائهم المهدورة تحت الدمار وفي الطرقات.
بدا استشهاد طاقم الجزيرة مساء الأحد في خيمة فقيرة بجانب جدار يكاد أن ينقض من هول ما شهد في مستشفى الشفاء، وكأنه حزن عمومي؛ لم يحلّ في بيوت الشهداء أو أقاربهم أو أهالي غزة المحاصرين فحسب، بل في صدر كل صحفي وكل من سمع باسم غزة يستعصي على الموت بصمت من تقارير أنس الشريف، أو من عرف غزة وأمهاتها الحانيات في قصص محمد قريقع وصور طاقمهما الشهيد.
هكذا تحولت صفحات الصحفيين الفلسطينيين خاصة إلى مرثاة طويلة لأقمار بأعمار قصيرة، لم يسعفهم الجزار طويلا.
في هذه الرسائل القصيرة، يرثي مراسلو الجزيرة نت في قطاع غزة الطاقم الشهيد، ويستذكرون محطات جمعتهم بأنس الشريف ومحمد قريقع وزملائهم المصورين والفنيين الذين طالتهم المجزرة.
ياسر البنا
تعرفت على أنس الشريف خلال الحرب، عبر الإنترنت، حين كنت في جنوب القطاع وكان هو في شماله، دون أن تجمعنا أي معرفة سابقة أو لقاء وجاهي.
كثيرا ما كنت أطلب منه معلومات أو صورا عن أحداث الشمال لأغراض صحفية، وكنت أتوقع أن يطول الرد لانشغاله الكبير، لكن في كل مرة كان يفاجئني بسرعة تجاوبه، وإرساله ما طلبته من معلومات وصور، مرفقة برسالة لطيفة ودعوات صادقة، وعرض كريم لتقديم أي مساعدة في أي وقت، رغم أننا لم نكن أصدقاء ولا حتى معارف.
أكثر ما شدّني في أنس هو أدبه الجم، ورزانته، وأخلاقه العالية التي لم تتغيّر في أحلك الظروف. كان بحق مدرسة صحفية قائمة بذاتها، حفر اسمه بين عظماء المهنة، وتقدّم الصفوف لسدّ ثغرة كبيرة في التغطية الصحفية شمال القطاع. ولولاه، لكانت الصورة مختلفة تماما، فقد كشف جرائم الاحتلال وأدى واجبه الوطني على أكمل وجه.
"معاناة خاصة"ربما لا يعلم كثيرون أن محمد قريقع، الذي كان ينقل معاناة الناس في مدينة غزة، كان يعيش في الوقت نفسه معاناته الخاصة وألمه العميق.
إعلانهجّره الاحتلال من حي الشجاعية، وهدم منزله، ولاحقه مع والدته المسنّة من مكان إلى آخر. وبلغ الألم ذروته حين أعدم الاحتلال والدته برصاصة في رأسها وهي جالسة على الرصيف، بعد أن حاول إجبارها على النزوح وحيدة -وهي المريضة والمسنة- إلى جنوب القطاع.
ظلّ محمد يبحث عنها قرابة أسبوعين، حتى عثر عليها جثة هامدة، لتبقى تلك الحسرة جرحا مفتوحا في قلبه حتى استشهاده. ورغم فداحة ألمه، ظل وفيا لمدينته، ينقل صوتها ووجعها، حتى أصبح -بجدّه واجتهاده- مراسلا لقناة الجزيرة.
رحل محمد، لكنه ترك بصمة لا يمحوها الزمن، وأدى، برفقة أنس، الأمانة حتى آخر لحظة.
"الصحفي الفدائي"
رائد موسى
"والله إنك فدائي"، هكذا دأبت على وصف الزميل الشهيد أنس الشريف، الذي اختار طواعية وبإصرار كبير الصمود في مخيم جباليا للاجئين بشمال قطاع غزة، حيث ولد وترعرع، وقرر عدم النزوح جنوبا كأغلبية الغزيين والصحفيين، تحت وطأة التهديد والقتل.
كان أنس شابا فتيا، يكبر ابني البكر بـ5 أعوام فقط، وقد ولد عام 1996 لأسرة لاجئة من مدينة عسقلان (المجدل) وهي كبرى مدن جنوب فلسطين المحتلة، تفتحت عيناه ومداركه على حياة البؤس في شوارع وأزقة مخيم جباليا، وعرف عنه التزامه ودماثة خلقه منذ نعومة أظفاره.
اندلعت الحرب على غزة عقب عملية "طوفان الأقصى" في السابع من أكتوبر/تشرين الأول من العام 2023، وبمرور أسبوعها الأول، أنذرت قوات الاحتلال أكثر من مليون فلسطيني في مدينة غزة وشمال القطاع بضرورة الإخلاء فورا والتوجه جنوبا، وكان قرار أنس -المواطن والصحفي- أن يبقى، وألا يكرر تجربة أجداده إبان النكبة في العام 1948.
ومنذ ظهوره الأول على قناة الجزيرة، أثبت أنس على حداثة عمره وخبرته أنه على قدر المسؤولية، وسرعان ما تحول إلى أيقونة وصار صوتا للمحاصرين في شمال القطاع، لم توقفه آلة التهديد والتحريض الإسرائيلية، ولم يغادر الميدان، ولم يتوارَ عن الأنظار.
تعرفت على أنس منذ نحو 6 أعوام، كان دائما متفانيا في خدمة زملائه والناس، يسعى في حاجة كل من يقصده، وخلال الحرب حيث نزحت مع أسرتي إلى مدينة رفح جنوب القطاع، تواصلت معه غير مرة، طلبا لمعلومة أو للتحقق من خبر أو للوصول إلى مسؤول ما، وفي كل مرة كان حاضرا متفانيا.
"شكرا يا فدائي" كنت أنهي كل اتصال أو تواصل مع أنس، ويجيبني مرحّبا "يعطيك العافية والتغطية مستمرة".
وباغتياله الغادر يخلّد الاحتلال ذكر اسمه في العالمين، الصحفي الشهيد أنس الشريف، الذي اختار لموته سببا، ولحياته القصيرة هدفا ومعنى، عشق غزة وعشقته.
وكان ونيسا شريفا، أنهكته التغطية والمجاعة، وآن لجسده أن يرتاح، لروحه المغفرة والسلام.. وله ولرفاقه الشهداء محمد قريقع وطاقم التصوير ولمن سبقوهم من صحفيين شهداء على مذبح الحرية الوفاء بتغطية مستمرة.
بهاء طوباسي
في غزة حيث تختلط رائحة التراب برائحة البارود وحيث يصرخ الحجر باسم فلسطين، رحلتم وأنتم تحملون القلم والكلم والكاميرا كمن يحمل قلبَه بين يديه. الحبيب أنس الشريف، ومحمد قريقع، وإخوتُكم الشرفاء من طاقم الجزيرة، نمتم على وسادة الأرض، وعيونُكم نحو السماء، لتصعد أرواحُكم الطاهرة شاهدة على أن الكلمة يمكن أن تكون شهيدة.
إعلانكنتم أبطال الصورة والحرف، شهود الحق في زمن الباطل، تمضون في شوارع الموت وبين خرائب البيوت، تجمعون أنين الأمهات ونبض الأطفال؛ لتكتبوا للعالم رواية لا تحجبها جدران الحصار ولا يطمسها صمت المتواطئين، جهدكم ومجاهدتكم كانت صلاة في محراب المهنة، وصرخة في وجه القتلة بأن فلسطين ليست وحيدة.
لكن رصاص الغدر القادم من يد احتلال لا يعرف حرمة للإنسان امتدَّ إلى خيمة الصحفيين في جريمة لا تمحوها الأعذار ولا تغطيها البيانات، جريمة تسقط كل الأقنعة عن وجه يكره الحقيقة، ويخشى عدسة الكاميرا أكثر مما يخشى المدفع، لقد أرادوا أن يطفئوا الصوت فأوقدتموه بدمائكم.
رحيلُكم أيها الأحبة، هو فراغ في القلب والميدان، لكنه فراغ يملؤه العهد: لن نغلق الكاميرا، لن نطوي الدفاتر، وسنحمل عنكم الرسالة، سنروي للعالم أنكم مشيتم على خطى شيرين أبو عاقلة ومن سبقكم، وأن دمكم حبر يكتب ما لم يسعفه الوقت لتصويره.
نمتم وأنتم على العهد، وتركتم خلفكم ميراثا من الصدق والشجاعة، أمانة في أعناقنا، ووصية لا تسقط بالتقادم، سنذكركم كلما أضاءت صورة وسط الظلام ووصل خبر من غزة، ورفع طفل حجرا في وجه الاحتلال.
سلام على أرواحكم.. سلام على وجوهكم التي واجهت الموت بابتسامة في الميدان، سلام على خطواتكم التي بقي صداها في أزقة غزة.
نسأل الله أن يتقبلكم مع الصديقين والشهداء، وأن يجعل من دمائكم الطاهرة شمسا لا تغيب عن سماء الحقيقة.
"رحل الراوي وبقيت الرواية"
إياد قطراوي
رحل أنس، ولم ترحل الذاكرة، رحل الراوي وبقيت الرواية، سيبقى إرث أنس يمشي في شوارع غزة، يقتنص من تحت الغبار ما يشهد أننا هنا، ستبقى الكاميرا تحمل الراية، وتبقى عدستها موجهة نحو الأرض والحقيقة.
ماتت النفس، وبقيت أنفاس المدينة تحتضن الأطفال الذين يلعبون بين الركام، النساء اللواتي يربطن الجراح بقطع القماش، والرجال الذين يشيّدون من بقايا الجدران عزيمة لا تنكسر.
سقط الجسد، لكن الصورة بقيت حيّة، تُطارد القتلة وتفضح صمت العالم.
رحل أنس لكن القصيدة لم تكتمل، ستبقى صورته علما، وصوته أذانا للحقيقة.
أنس لم يمت، بل توزّع في آلاف العيون التي رأت بعدسته، وفي آلاف القلوب التي أيقنت أن الكاميرا قد تكون سلاحا أشرف من كل السلاح الصامت في مخازنه، ترك لنا وصية مكتوبة بدمه، "لا تخونوا الحكاية."
مات أنس، وظلت غزة، شاهدة لا تموت. يرحل أنس، ويولد ألف أنس ليبقى حارسا للذاكرة والتاريخ.
ويمتد ظل أنس في الأزقة كما يمتد الفجر في عيون الصابرين، تسير خطاه فوق الإسفلت المتشقق، حيث الحكايات مكتوبة بالطبشور والدم، وتنبت على أطراف صوره أزهار لا يراها إلا من صدّق أن الحياة تولد حتى في قلب الحصار.
وستبقى عدسته جسرا بين القلوب الموجوعة، ومرآةً تكشف الحقيقة كما هي، بلا تزييف ولا أقنعة، وسيبقى اسمه مثل دعاء يردده الناس في صلاتهم، ومثل نداء يعلو فوق ضجيج الطائرات، ليقول للعالم: نحن هنا.. كنا وما زلنا وسنبقى.
كل صورة التقطها صارت بيتا من قصيدة، وكل بيت صار جدارا من جدران الذاكرة، فإذا حاولوا هدمها، بنتها دموع الأمهات وضحكات الأطفال من جديد.
أنس ليس فردا رحل، بل فكرة تمشي، ونبض يتكرر، وصوت لن يسكت، حتى تُكتب آخر سطر من الحكاية التي أقسم ألا تُروى إلا بصدقها.
كانت جريمة استهداف أنس على يد إسرائيل اغتيالا للصورة قبل أن يكون اغتيالا للروح. كانوا يعرفون أن صواريخهم لن تقتل جسدا فقط، بل ستطفئ عينا كانت ترى ما لا يريدون للعالم أن يراه. لكنهم نسوا أن الصور التي التقطها أنس سبقت الصاروخ، وأن ذاكرة الشعوب لا تُمحى باغتياله.
اغتالوه لأنه كان جسرا بين غزة والعالم، وكانت عدسته تفضح الاحتلال وهو يحوّل البيوت إلى رماد، وكانت كلماته تفضح الصمت المريب الذي يغطي على الدماء.
إعلانإنها ليست جريمة ضد صحفي فقط، بل ضد الحق والكلمة الصادقة، وضد الإنسانية كلها. وستبقى جريمة اغتياله شاهدا على أن إسرائيل لا تكتفي بقتل الأجساد، بل تقتل الرواية، وتحاصر الذاكرة. لكنها هذه المرة أخطأت الحساب، فأنس صار آلاف العدسات التي لا يمكن أن تُستهدف كلها، وصار آلاف الأصوات التي لا يمكن إسكاتها.
محمد أبو قمر
في أحد أيام الشتاء عندما كانت العملية البرية الإسرائيلية على أشدها داخل مخيم جباليا شمالي قطاع غزة نهاية العام 2023، كان أنس الشريف يجلس في الطريق يحاول التقاط إشارة إنترنت، حينها كان المخيم منقطعا عن العالم الخارجي بسبب محاصرته واشتداد القصف عليه.
وكان أنس عنوانا لنساء ورجال المخيم في معرفة الأخبار واطلاعهم على تفاصيل الحرب، حيث يكرر المارة سؤالهم له: "شو آخر الأخبار يا أنس؟" منذ ذلك الوقت المبكر من الحرب تحول أنس إلى صوت الشارع، وصديق المحاصرين المكلومين في شمال قطاع غزة.
صار أنس أيقونة يعرفه الجميع في شوارع غزة، لكنه كان يخفي بداخله مشاعر حبيسة تجاه أطفاله الذين انقطع عنهم مضطرا بسبب انشغاله بالتغطية وخشيته على أن يصيبهم أذى بسبب زيادة التهديدات الإسرائيلية بقتله.
قبل أشهر التقيت أنس الشريف داخل خيمته بمستشفى المعمداني وسط مدينة غزة، كان المتحدث باسم جيش الاحتلال قد بث في ذلك الوقت مقطع فيديو تحريضي ضده، حينها قلت له ممازحا (أفيخاي مش ناسيك، دعنا نلتقط صورة للذكرى).
في خضم حديثنا وصلت فجأة والدته المسنة وطفلاه للاطمئنان عليه، فقفز أنس من مكانه يقبل يد أمه ويحتضن طفلته شام، وصغيره صلاح الذي ولد في الحرب.
كان مشهدا مؤثرا عندما بكى الطفل ابن الأشهر القليلة لما احتضنه والده لأنه لم يتعرف على وجه أبيه "الغريب" ولم يهدأ صلاح حتى عاد لحضن عمه الذي اعتاد عليه.
قبل يومين فقط من استشهاده، جمع عدد من صحفيي شمال غزة نقاشا عبر مجموعة واتساب حول تهديد الجيش الإسرائيلي باحتلال قطاع غزة، فقال أنس "اللي بيستشهد بيرتاح".
استشهد أنس، وارتاح جسده بعدما أنهكته التغطية، لكن صدى صوته ما يزال يتردد في كل شوارع غزة.
الوصية الأخيرة لصحفي أرعب دولةيسرى العكلوك
بعدما قرأ أنس الشريف تقريري الأخير على موقع الجزيرة نت بعنوان "نساء بلا سند"، هاتفني في مكالمة طويلة بدأها بالسؤال "أخبارك يا زعيمة؟"، وبعد حديث جانبي عن معاناة الأرامل في غزة، وحلول يمكن أن تخفف من مأساتهم، باغتني بقوله "أوصيك بزوجتي إن حدث لي مكروه". فقاطعته "لن يحدث لك شيء"، ضحك وقال "لا والله قرّبت"!.
ثم صمتنا، وانتهت المكالمة.
لم أكن أعلم أنها كانت وصيته الأخيرة يحمّلني إياها قبل يوم من رحيله! لذلك، في صباح استشهاده، وجدت نفسي أهرول إليها بلا وعي "لا تقلقي.. أنا معك".
رأيتها تتشح بالسواد وتستند إلى الحائط، ترخي رأسها الثقيل، التائه بمكالمته لها قبل دقيقتين من الاستهداف، وبزيارته الأخيرة الخاطفة قبل يومين من الفراق.
لم يكن أنس مراسلا حربيا ولا بطلا صلبا فحسب، بل كان أخا صغيرا لي حين حوصرنا في الشمال، يتحسس ما ينقصني، ويهرع إذا احتجت حاجة، ويُسهّل مهامي، وبقدر ما كنا نتوقع قدوم هذا اليوم، لم أستطع أن أتحمل رؤية جثمانه يُحمل، وهو الذي حمل جثامين أصدقائه واحدا واحدا.
واحدا واحدا يا غزة.. نخسر وجوها تُشبهك في الوجع والقهر والخذلان والعناد والرحيل، ونتساقط كأحجار الدومينو، في عالم لا يجيد إلا البكاء على الميت بعدما يرفعه بطلا..
منذ عامين يصرخ أنس "نحن هنا"، فيهددونه "قف". لكن وصية صديقه إسماعيل كانت أثمن من أن يُلقيها أرضا!
هددوه بالقتل على الملأ، فبدا كمعلّق على حبل المشنقة، يناشدكم الخلاص، ماذا فعلتم؟!
ثم لم يكن اغتياله إلا بصقة في وجه العالم العربي والإسلامي، الذي انتفض الآن لنعيه، عالم لا يجيد إلا البكاء وتقديس الأبطال حين يموتون!
انتهت الحكاية يا أنس.. لكن اسمك سيحفظه التاريخ في صدر صفحة معنونة بـ"صحفيون أرعبوا دولة".