لجريدة عمان:
2025-08-12@00:42:30 GMT

محمد بن يزيد المبرّد

تاريخ النشر: 3rd, March 2025 GMT

محمد بن يزيد المبرّد

ولد الشاعر واللغوي والنحوي الكبير "محمد بن يزيد بن عبد الأكبر الثمالي" في البصرة عام 210 للهجرة، ويعود محمد بن يزيد في جدوره إلى (مُقاعس) إحدى قرى الباطنة، سافر أهله إلى البصرة التي كانت في تلك الفترة عاصمة الفكر والثقافة والاقتصاد، حيث كانت البصرة تضم بين أروقة مساجدها عددا كبيرا من حلقات العلم، وكان علماء وأدباء البصرة قد تصدروا العلماء والأدباء، وصارت لهم رئاسة العلم في العالم الإسلامي، وكانت العديد من العائلات في شبه الجزيرة وبلاد فارس تهاجر للبصرة للاشتغال في التجارة، وتحصيل العلم ومجالسة العلماء.

كان محمد بن يزيد الأزدي حافظًا لأشعار العرب، ونبغ في علم النحو، وامتلك مهارة في المناظرة والحِجَاج، وكان لا يناظر أحد إلا غلبه، فلقبه أستاذه المازني بالمُبَرِّد أي المثبت للحق، وسبب في هذا اللقب أن المازني حين كتب كتاب "الألف واللام"، أخذ يناقش تلميذه محمد بن يزيد في كثير مما جاء في الكتاب، وكان المبرد يجيبه على كل ما يسأله، فلقبه بالمبرد. أي أن جوابه يُبَرد القلب، ويبعث فيه الطمأنينة. ويقدم السيوطي سببًا آخر لتسمية محمد بن يزيد بالمُبَرِّد، فيقول" لأنه كان يسكت مخالفيه بالحجة الدامغة، فكأن الحيرة والجهل نار تشتعل في صاحبها، فإذا جاءه برد اليقين والعلم تبرد به". أما المُصْحَفِّيُّ فيقول:" إن المبرَّد بفتح الراء، لحسن وجهه، ويقال رجل مُبَرَّد ومُقَسَّم ومُحَسَّن إذا كان حَسُنَ الوجهِ".

تعلم محمد بن يزيد الأزدي في طفولته القرآن والحساب وعلوم اللغة على يد معلمي الكتاتيب في البصرة، ووجدت أسرته فيه ذكاء متقد ولديه رغبة شديدة لتحصيل العلم، فجعلته يتفرغ للدراسة والقراءة على يد مجموعة من علماء البصرة من أمثال: بكر بن محمد بن عثمان البصري المازني، وصالح بن إسحاق البصري، وأبو حاتم سهل بن محمد بن عثمان الجشمي وأبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ، وإبراهيم بن سفيان الزيادي، والعباس بن الفرج الرياشي. وقرأ على يديهم مجموعة من كتب النحو مثل كتاب سيبويه، وكتب الخليل بن أحمد الفراهيدي.

اشتهر المبرد أبو العباس محمد بن يزيد الأزدي ببلاغته وحسن جوابه، ونجابة تصرفه في المواقف وكان المبرد يحب أن يستعرض مهاراته في الجدال وتقديم الحجج والأدلة على صحة رأيه، فيدخل في نقاشات نحوية كثيرة مع شيخ علماء الكوفة النحوي أبي العباس أحمد بن يحيى بن زيد بن سيار الشيباني المعروف بلقب ثعلب، ويكنى بأبي العباس، وهو إمام المدرسة الكوفية في النحو، والمبرد إمام المدرسة النحوية البصرية، وكان ثعلب يتحاشى المبرد، ويتجنب الدخول معه في أي حوارات؛ لأن المبرد يمتلك مهارة الجدال ولديه سرعة بديهة في الرد، وكثيرا ما كان ينتصر عليه مما يسبب لثعلب الإحراج بين طلابه. وحكى أبو بكر بن السراج عن محمد بن خلف، قال: كان بين أبي العباس المبرد وأبي العباس ثعلب من المنافرة ما لا خفاء به؛ ولكن أهل التحصيل يفضلون المبرد على ثعلب، وفي ذلك يقول أحمد بن عبد السلام:

رأيت محمد بن يزيد يسمو... إلى الخيرات في جاه وقدر

جليس خلائف وغذيّ ملكٍ... وأعلم من رأيت بكل أمر

وكان الشعر قد أودى فأحيا... أبو العباس دارس كل شعر

وقالوا ثعلب رجلٌ عليم... وأين النجم من شمس وبدر!

وقالوا ثعلبٌ يفتي ويملي... وأين الثعلبان من الهزبر!

وبالإضافة إلى ما تميز به المُبرِّد من فصاحه وبيان، عرف عنه أنه صاحب خط جميل، قال عنه القَفْطِّي:" كان أبو العباس محمد بن يزيد من العلم، وغزارة الأدب، وكثرة الحفظ، وحسن الإشارة، وفصاحة اللسان، وبراعة البيان، وملوكية المجالسة، وكرم العشرة، وبلاغة المكاتبة، وحلاوة المخاطبة، وجودة الخط، وصحة القريحة، وقرب الإفهام، ووضوح الشرح، وعذوبة المنطق، على ما ليس عليه أحد ممن تقدمه أو تأخر عنه".

يعد كتاب المبرد الكامل في اللغة والأدب، أحد ركائز علوم اللغة العربية وأحد أسباب تطور علومها، قال عنه عبد الرحمن بن محمد بن خلدون:" وقد سمعنا من شيوخنا في مجالس التعليم أن أصول هذا الفن وأركانه أربعة دواوين: وهي أدب الكاتب لابن قتيبة، وكتاب الكامل للمبرد، وكتاب البيان والتبيين للجاحظ، وكتاب النوادر لأبي علي القالي البغدادي، وما سوى ذلك فتبع لها وفروع عنها". وكان طلاب العلم يحرصون على دراسته ومناقشة ما جاء فيه من معلومات ودارستها، قال عن ذلك القاضي الفاضل: " طالعته سبعين مرة، وكل مرة ازداد منه فوائد". ولا يتخرج طالب العلم إلا بعد أن قرأ كتاب الكامل ووعى ما فيه من علوم ومعارف.

يكشف الكتاب الكثير من جوانب المبرد الثقافية، فالكتاب يعكس موسوعية المبرد وثقافته الواسعة، وذخيرته الفكرية، ليخلد هذا الكتاب وغيره من مؤلفات المبرد في التاريخ الإنساني، وتجعل من المبرد علامة فارقة في علوم اللغة العربية.

قرر المبرد التفرغ لتدريس طلاب العلم، فتعلم على يديه مجموعة كبيرة من محبي النحو والأدب العربي، وكانت الرحال تُشَقُ إليه، والنفوس المحبة للمعرفة تهفو إليه، وتخرج على يدي المبرد مجموعة كبيرة من العلماء ممن لهم إسهامات جليلة في الحقل المعرفي، من أبرزهم إبراهيم الزَجَّاج البغدادي النحوي، الذي يُعَد أحد أبرز علماء اللغة وصاحب وزير المعتضد بالله، عبيدالله بن سليمان بن وهب، وله مؤلفات أهمها كتاب الأنواء، وكتاب العروض، ووكتاب القوافي، وكتاب خلق الإنسان. وممن تعلم على يد المبرد محمد بن السَّري بن سهل ويعرف بابن السرَّاج، الذي تولى رئاسة العلم بعد المبرد، وكتب كتاب الأصول في النحو. ومحمد بن أحمد بن كِيسان أبو الحسن النحوي، أحد أبرز علماء النحو في بغداد جمع بين آراء المدرستين البصرية والكوفية، كتب كتاب المسائل على مذهب النحويين مما اختلف فيه البصريون والكوفيون، قال عنه أبو حيان التوحيدي: "ما رأيت مجلسا أكثر فائدة وأجمع لأصناف العلوم وخاصة ما يتعلق بالتحف والطرف والنتف من مجلس ابن كِيسان". وقال أبو بكر مجاهد عن أبي الحسن كيسان" أبو الحسن بن كيسان أنحى من الشيخين يقصد المبرد وثعلب". وممن نال شهرة واسعة من تلامذة المبرد أبو بكر محمد بن علي بن إسماعيل العسكري، شرح مؤلفات سيبويه والأخفش وكتب كتاب النحو المجموع على العلل وكتاب شرح الكتاب الأوسطي. ومن تلامذة المبرد النجباء إبراهيم بن محمد الكلابزي، الذي لمع نجمه في العلم والأدب وتولى قضاء الشام.

ترك المبرد أكثر من أربعين مصنفا بعضها لا زال موجودا طبع أكثر من مرة مثل كتاب المقتضب وكتاب المقصور والممدود وكتاب المذكر والمؤنث وكتاب طبقات النحويين البصريين وأخبارهم وكتاب شرح لامية العرب وكتاب ما اتفق لفظه واختلف معناه من القرآن المجيد. أما الكثير من كتب المبرد فلا تزال مفقودة.

توفي المبرد بعد حياة حافلة غنية بالعلم والمعرفة في عام 285 هـ ودفن في مقابر باب الكوفة ببغداد. قال عنه البحتري:

ما نالَ ما نالَ الأَميرُ مُحَمَّدٌ إِلّا بِيُمنِ مُحَمَّدِ بنِ يَزيدِ

وَبَنو ثُمالَةَ أَنجُمٌ مَسعودَة فَعَلَيكَ ضَوءُ الكَوكَبِ المَسعودِ

شَفَعَت خُراسانُ العِراقِ بِزَورَةٍ مِن زائِرٍ طَرِفِ اللِقاءِ جَديدِ

ذاكَ المُبارَكُ خِلَّةٌ وَلَرُبَّما مُنِيَ الجَليلُ بِأَشأَمٍ مَنكودِ

أما العالم الكبير ثعلب فلقد قال حين بلغه موت المبرد:

ذهب المبرد وانقضت أيامه... وليذهبن مع المبرد ثعلبا

بيتٌ من الآداب أضحى نصفه... خربًا وباقي النصف منه سيخرب

فتزدوا من ثعلب فبكأس ما... شرب المبرد عن قريب يثرب

أوصيكمو أن تكتبوا أنفاسه... إن كانت الأنفاس مما يكتب

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: محمد بن یزید کتب کتاب قال عنه بن محمد یزید ا قال عن

إقرأ أيضاً:

أوقاف المغاربة في القدس كتاب يعرض تاريخ المغاربة ودورهم في المدينة المقدسة

الرباط – يقدم كتاب "أوقاف المغاربة في القدس: وثيقة تاريخية سياسية قانونية" للعلامة والدبلوماسي المغربي الدكتور عبد الهادي التازي (1926 – 2015) رؤية متكاملة، يرصد من خلالها تاريخ الأوقاف التي أسسها المغاربة حول المسجد الأقصى، والتي شكلت أساسا لوجودهم الروحي والعمراني في المدينة على مدى قرون.

صدر هذا العمل المرجعي لأول مرة عام 1981 عن مطبعة فضالة بالمحمدية، لكن أُعيد طبعه سنة 2013 بعد تنقيحه وتطعيمه بصور حصرية ووثائق توثيقية لحارة المغاربة وتصميم غلاف جديد، بمبادرة من "المبادرة المغربية للدعم والنصر"، وبإذن ومراجعة من الكاتب رحمه الله.

طبع بعد ذلك مرات عدة آخرها سنة 2020، وهو يعتبر وثيقة توثيقية نادرة تجمع بين المعطى التاريخي والتحليل القانوني والسياسي.

أوقاف المغاربة كانت البداية

لا يكتفي الكتاب بتوثيق الأوقاف المغربية المحيطة بالمسجد الأقصى، بل يكشف من خلال تحليل دقيق كيف "أن الحروب المتوالية بين العرب وإسرائيل بدأت في الواقع في القدس من منطقة أوقاف المغاربة وبالذات من حائط البراق الذي يتصل بمنازل المغاربة"، على غرار ما حدث في كنيسة القيامة التي أشعل التنافس على ترميمها فتيل حرب القرم بين العثمانيين وروسيا عام 1856.

ويستعيد التازي هذا القياس التاريخي ليؤكد أن الاصطدام بين المشروع الصهيوني والوجود العربي لم يبدأ فقط في ساحات القتال أو مؤتمرات التقسيم، بل انطلق فعليا من القدس، وبالذات من أوقاف المغاربة، حيث بدأ النزاع حول هوية المكان ورمزيته الدينية.

عبدالهادي التازي أكاديمي ومؤرخ مغربي، ألف كتبا عديدة في التاريخ والسياسة والأدب (الجزيرة)سيرة الكاتب

الدكتور عبد الهادي التازي شخصية مغربية بارزة، ولد في فاس عام 1921، شارك في الحركة الوطنية منذ صغره، وتعرض للاعتقال والنفي.

يتمتع بمسيرة أكاديمية حافلة، فقد حصل على شهادة العالمية من جامعة القرويين عام 1947، ودبلوم الدراسات العليا من جامعة محمد الخامس عام 1963، ودكتوراه الدولة من جامعة الإسكندرية عام 1971.

إعلان

وعلى الصعيد المهني، عمل أستاذا جامعيا ومحاضرا في العديد من المعاهد والكليات، كما شغل مناصب دبلوماسية منها سفير المغرب في دول عدة مثل العراق، وليبيا، والإمارات العربية المتحدة وإيران، كما تولى أيضا إدارة المعهد الجامعي للبحث العلمي لمدة 20 عاما.

هو كاتب ومترجم غزير الإنتاج، نشر أكثر من 700 مقال وألف عشرات الكتب، وكان عضوا فاعلا في العديد من المجامع اللغوية والعلمية العربية والدولية، مثل مجمع اللغة العربية بالقاهرة ودمشق، والمجمع العلمي العراقي، وأكاديمية المملكة المغربية، وحصل على أوسمة تقديرية عدة من المغرب ودول أخرى.

محتويات الكتاب

الكتاب هو أطروحة رئيسية تتناول أوقاف المغاربة في القدس من الجوانب التاريخية والسياسية والقانونية، و10 ملاحق وثائقية توضح الأوقاف الأصلية، ومراسلات، وقرارات إدارية، واحتجاجات قانونية، ومراسلات دبلوماسية تعكس الموقف الرسمي تجاه الأوقاف.

يقول الباحث المغربي المتخصص في شؤون القدس محمد رضوان للجزيرة نت إن الكتاب بالرغم من صغر حجمه، واختصار مادته، يعد مرجعا مهما للتعرف على تاريخ علاقة المغاربة بالقدس وأوقافهم بهذه المدينة المباركة التي شدوا الرحال إليها للجهاد والعبادة والتعلم ونشر العلم والتصوف منذ زمن بعيد.

ويضيف "مع أن عبد الهادي التازي يوضح أن صفحات هذا الكتاب مقتبسة من كتابه المعروف "تاريخ المغرب الدبلوماسي"، إلا أنه يمثل فعلا وثيقة أساسية في موضوع أوقاف المغاربة بالقدس، لأنها تضم إيضاحات وإفادات جمة حول أبرز الأوقاف المغربية، ووظائفها والمستهدفين بريعها ومنافعها.

رضوان: كتاب أوقاف المغاربة يعد مرجعا مهما للتعرف على تاريخ علاقة المغاربة بالقدس وأوقافهم (الجزيرة)منهجية الكاتب

يعتمد الكاتب منهجا وثائقيا تاريخيا تحليليا يجمع بين دراسة الأرشيف العثماني، والمراسلات الرسمية، والوقفية الإسلامية، مع تتبع الأحداث السياسية التي أثرت على هذه الأوقاف.

ويمزج بين التوثيق القانوني والسياسي لتحليل دور الوقف في حماية الهوية الإسلامية للقدس، ويسلط الضوء على التداخل بين البعد الديني والاجتماعي والسياسي لهذه الأوقاف.

يتميز منهجه بالربط المتقن بين نصوص الوقف والتطورات السياسية التي مرت بها المدينة، مع إبراز دور المغاربة كحراس لهذه الأوقاف عبر القرون.

كما يولي أهمية خاصة للتفاصيل القانونية في حفظ حقوق الوقف وممتلكاته، ويظهر كيف استخدم الوقف أداة للحفاظ على الوجود الإسلامي في مواجهة التوسع الصهيوني.

القدس قبلة المغاربة

يركز الدكتور عبد الهادي التازي على أن العلاقة بين المغاربة والقدس بدأت من ارتباط روحي قوي، يتمثل في "شد الرحال" إلى المسجد الأقصى، الذي يعتبر من المساجد الثلاثة الكبرى في الإسلام، قبل أن تتطور العلاقة لاحقا لتشمل طلب العلم والمشاركة في الجهاد.

ويستعرض التازي من خلال وثائق نادرة مرور عدد كبير من الأعلام المغاربة الذين عرجوا على القدس طلبا للعلم ونقل المعرفة، مثل القاضي أبو بكر ابن العربي الذي رافق والده الإمام عبد الله في سفارته عام 490 هـ (1097م)، والقاضي بدر الدين محمد بن إبراهيم الذي شهد مجلسه الرحالة النقاد العبدري عام 686 هـ (1290-1291م)، وصولا إلى الرحالة ابن بطوطة وغيره من العلماء الذين ربطوا المغرب بمدينة القدس، مؤكدا بذلك أن العلم كان جسرا ثقافيا قويا.

إعلان

ويشير التازي كذلك إلى بُعد جهادي مهم، إذ يذكر أن صلاح الدين الأيوبي بعد فتح بيت المقدس عام 583هـ (1187-1188م)، طلب المساعدة من السلطان يعقوب المنصور عبر إرسال أسطول مغربي لدعم جهاد الشام ضد الصليبيين، رافق ذلك هدية ثمينة من صلاح الدين تضمنت مصحفين كريمين وعطور ا فاخرة، ما يعكس عمق الروابط الدبلوماسية.

واستقبل السلطان المنصور الوفد المغربي، وعلى رأسه السفير ابن منقذ، بحفاوة بالغة، معبرا عن تقديره للدور الذي يلعبه المغرب في الدفاع عن القدس، يعكس مستوى التعاون المتين بين السلطتين، والذي تخطى الجانب الثقافي ليشمل الأبعاد السياسية والعسكرية.

مجسم لحائط البراق وحارة المغاربة قبل أن يهدمها الاحتلال بالكامل بعد احتلاله شرق القدس والمسجد الأقصى عام 1967 (الجزيرة)حارة المغاربة

يرصد الدكتور عبد الهادي التازي أن أصل تسمية "حارة المغاربة" يعود إلى الدور النشيط للمقاتلين المغاربة الذين شاركوا في جيوش نور الدين الشهيد خلال الحملات ضد الصليبيين في أواخر القرن السادس الهجري (حوالي 578-581 هـ)، فهؤلاء المغاربة، كما يؤكد الرحالة ابن جبير، كانوا يدفعون ضرائب خاصة مستثنين من العوام، وهم لا يبالون بذلك نكاية في العدو، وهذا يؤشر على تميزهم ووجودهم الواضح في الأرض المقدسة.

وبعد الفتح الصلاحي، وفي عهد الملك الأفضل (589هـ)، خُصِّصت بقعة سكنية لهم قرب الزاوية الجنوبية الغربية من المسجد الأقصى، تأسست فيها مدرسة حملت اسمه، وهذا أدى إلى توسع الأوقاف المغربية في القدس وتحديد حدود واضحة لـ"حارة المغاربة".

وقد شهدت هذه الأوقاف وثائق رسمية متعددة، تم تجديد تسجيلها في القرون التالية، ما يعكس حرص المغاربة على تثبيت حضورهم العمراني والروحي.

في هذا السياق يقول الأكاديمي محمد رضوان "بعد أن تطرق التازي إلى الوقف المشهور المتمثل في البقعة التي حبسها الملك الأفضل في سنة 589هـ لفائدة المغاربة، وهي البقعة التي اعتادوا أن يجاوروها عند بيت المقدس قرب الزاوية الجنوبية الغربية لحائط الحرم وفي أقرب مكان للمسجد الأقصى، يعرض عبد الهادي التازي للأوقاف التي حبسها المغاربة أنفسهم بالقدس ليستفيد منها أبناء طائفتهم المقيمون والوافدون من بلاد المغرب الكبير.

وفي الكتاب إشارة مهمة إلى أن المغاربة كانوا حريصين بصورة مبكرة على تملك العقارات في القدس وبجوارها أيضا، وتوقيف بعض تلك العقارات التي كانوا يشترونها من أصحابها، مما يدل على تعلقهم بهذه الديار منذ العصور الأولى.

ويضيف ما يتميز به كتاب التازي بهذا الخصوص، توقفه عند أبرز الأوقاف المغربية بالقدس، والمتمثلة في قرية عين كارم، وهي من قرى قضاء القدس، والتي حبسها العالم المتصوف أبو مدين شعيب، تلميذ سيدي صالح حرازم ودفين تلمسان، وأوقاف الشيخ العابد المجاهد عمر المجرد المصمودي بحارة المغاربة، وهي 3  دور، بالإضافة إلى زاوية تشتمل على 10 حجرات بجميع مرافقها، كذلك لم يغفل التازي وقفيات أفراد آخرين، وكذلك أوقاف بعض الملوك المغاربة تعبيرا عن تعلقه بتلك الرحاب.

ارتباط متين

وعلاوة على ذلك، فقد وثق التازي أن هذه الأوقاف تحوي نصوصا دقيقة تنظم شروط السكن والانتفاع وتمنع التفويت، مع تخصيص موارد للعبادة والكسوة والطعام خلال المواسم الدينية.

كما تظهر استمرار الدعم الرسمي الملكي المغربي، فخلال الحكم المريني في القرن الـ14 الميلادي (738 هـ/1337م)، خصص السلطان أبو الحسن علي بن عثمان مبالغ ضخمة لشراء أراض في القدس والحرمين الشريفين، مؤكدا إستراتيجية حماية الأراضي الإسلامية المقدسة من الاستحواذ الأجنبي.

كما نسخ الملوك المغاربة مصاحف يدوية فخمة ووقفوها في المسجد الأقصى، أبرزها "الربعة المغربية" التي كانت محفوظة بالمتحف الإسلامي حتى منتصف القرن الـ20.

إعلان

كما تشدد الوثائق على استمرار العلاقة الروحية العميقة بين المغاربة والقدس، حيث مثّل المسجد الأقصى مزارا بارزا للمغاربة، على غرار المراتب الدينية والروحية في المغرب نفسه، كما توضح قصائد وشهادات علماء مغاربة، مثل الفقيه إمام الدين البطائحي، الذين عبروا عن شوقهم وحبهم للقدس رغم بعد المسافات.

بالإضافة إلى ذلك، حافظ المغاربة على تقاليدهم وهويتهم في القدس عبر الأجيال، رغم امتزاجهم مع السكان المحليين، فقد ظل حي المغاربة مركزا نابضا بالحياة الإسلامية والثقافية في المدينة، محافظا على خصائصه وأوقافه، ومحاطا بالحائط الغربي (حائط البراق).

جذور النكسة

يبرز التازي أن "النكسة" بدأت ملامحها مع احتلال محمد علي باشا لمدينة القدس سنة 1831م، وهو حدث تاريخي مهم غيّر مسار الحكم العثماني وأتاح فرصا جديدة لتدخل القوى الأجنبية، إذ يشير إلى تأسيس أول قنصلية بريطانية في القدس، والتي لعبت دورا في حماية بعض اليهود، مما شكل نقطة تحول ديمغرافية وسياسية في المدينة.

واعتمد الكاتب في تحليله على توثيق هذه المرحلة من خلال الأمثلة الدقيقة، مثل محاولات بعض اليهود التوسع على حساب الأوقاف المغربية، مثل طلب تبليط ما يسمى في عقديتهم "المبكى" قرب حائط البراق، وكيف رفض مجلس الشورى ذلك حفاظا على حرمة الوقف الإسلامي، مشيرا إلى صدور أوامر رسمية تنص على منع تغيير الواقع المعهود.

كما بين الكاتب كيف أن تكاثر اليهود وظهور الصهاينة على الأرض المقدسية أدى إلى تعديات متكررة على أوقاف المغاربة، فقد وثق شكاوى وجهت إلى المفتي والمحكمة الشرعية، وأشار إلى القرارات الإدارية التي صدرت لمنع هذه التجاوزات.

في مقابل هذه الاعتداءات، بيّن الكاتب جهود المغاربة في الدفاع عن حقوقهم وأوقافهم عبر وسائل متعددة، بدءا من المرافعات الشرعية والقانونية، وصولا إلى التواصل الدبلوماسي مع الدولة المغربية التي أسست لجنة القدس عام 1975، لتعزيز الحماية السياسية والقانونية لأوقافهم في وجه التهديدات الإسرائيلية.

حارة المغاربة بجوار الحائط الغربي للمسجد الأقصى قبل أن يهدمها الاحتلال عام 1967 (الجزيرة)الملاحق العشرة

تحتوي هذه الملاحق العشرة على مجموعة ثمينة من الوثائق الرسمية والتاريخية التي تشكل دليلا واضحا على أبعاد الوقفية الخاصة بحي المغاربة في القدس، وهي تعكس تاريخا متجذرا يمتد لقرون، ويربط بين الجوانب الدينية والاجتماعية والقانونية لمكانة هذا الوقف.

تتراوح الملاحق بين نصوص أصلية للوقف، وأوامر رسمية في العصر العثماني والانتداب البريطاني، إلى اعتراضات المتولين الشرعيين في فترة الاحتلال الإسرائيلي. وتهدف هذه الملاحق إلى توثيق امتداد الوقف، وحمايته، والمخاطر التي تعرض لها عبر العقود.

يقول الأكاديمي محمد رضوان إن هذه الملاحق جاءت لتعزيز الجانب التوثيقي في هذا الموضوع، وهي عبارة عن رسوم (عقود) ونصوص لتلك الوقفيات، من بينها نص وثيقة وقف أبي مدين، ونص وثيقة المصمودي، والوثيقة المتضمنة لأمر حاكم الشام بعد تغيير وقفية أبي مدين، وقرار متولي أوقاف المغاربة بعدم الخضوع لتغيير المعهود.

لكن من أهم ملاحق هذا الكتاب الملحق السابع الذي يتضمن العقارات التي هُدّمت في حي المغاربة (وهو من أكبر أوقافهم) في صيف 1967م، وفي هذا الملحق بيان في وصف العقار، واسم ساكنه، وعدد غرفه.

معلومات عن الكتاب

العنوان: أوقاف المغاربة في القدس وثيقة تاريخية سياسية قانونية

المؤلف: الدكتور عبد الهادي التازي

الناشر: المبادرة المغربية للدعم والنصرة

تاريخ الطبع: 2020 عن شمس برينت – سلا

اللغة: العربية

الحجم: متوسط، عدد الصفحات 110

مقالات مشابهة

  • محلل أسواق: تراجع أسعار النفط يزيد من تحديات تاسي
  • الصين تخطط لرحلة نحو الثقب الأسود.. حلم العلم يقترب من الواقع
  • تعلن محكمة جبل عيال يزيد الابتدائية بأن على المتهم/ عيبان حسين مبخوت وآخرين الحضور إلى المحكمة
  • تناول الطعام العشوائي يزيد مخاطر السمنة الوراثية
  • إشكالية التخصص والإبداع
  • واذكر في كتاب المقاومة
  • العلم يوضح كيفية هبوط القطط دائما على أقدامها
  • إنفاق مانشستر يونايتد على المهاجمين الجدد يزيد الضغط على أموريم
  • أوقاف المغاربة في القدس كتاب يعرض تاريخ المغاربة ودورهم في المدينة المقدسة
  • احتياطي الذهب في مصر يزيد لـ 128.50 طن