انتصارات رمضان.. خطة الدهاء المصرى تكتب النصر لمصر.. واعترافات جنرالات الجيش الإسرائيلى تؤكد: الواقع يحطم الأسطورة
تاريخ النشر: 7th, March 2025 GMT
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
تحديات كبيرة واجهها الجيش المصري ونجح في تخطيها ليحقق انتصار أكتوبر في العاشر من رمضان، حيث يعد الانتصار واحدًا من أبرز انتصارات العصر الحديث، فحرب يوم السادس من أكتوبر لعام ١٩٧٣، الموافق يوم العاشر من رمضان لعام ١٣٩٣ للعام الهجري، وخلافا لأي تصورات تفيد بأن العرب والمسلمين قد يميلون إلى الخمول والكسل في شهر رمضان المبارك، فإن التاريخ يثبت بوضوح شديد كيف غامر المسلمون أمام جيوش ضخمة، وأعداء يملكون من القوة والبأس الكثير، منهم الفرس والروم والإسبان قديما، وأما حديثا فقد نجحت قوات الجيش المصري من عبور المانع المائي الصعب، قناة السويس، وتحطيم خط بارليف في مفاجأة أذهلت العالم وحطمت غرور وطموحات دولة الاحتلال في المنطقة.
وتسلح المصريون بالعزيمة والإصرار والإيمان، وتحمسوا لخوض معركة منتظرة، لرد الكرامة والأرض من العدو الغاصب، فلم يفكر أحد في شيء سوى النصر التام. وبحسب الكاتبة الصحفية فريدة النقاش، فإن انتصار أكتوبر كان بمثابة نقلة عظيمة في تاريخ المنطقة بأثرها وليس في تاريخ مصر فقط، لأن هذا الانتصار محى أثار هزيمة ١٩٦٧ وغير مفاهيم الحرب والسلام حول العالم.تطوير المناورة إلى حرب
نجح الجيش المصري في استكمال خطة الخداع التي لعبها قبل اندلاع حرب السادس من أكتوبر للعام ١٩٧٣، حيث تمكن من مفاجأة العدو الإسرائيلي وإحراز الانتصارات منذ اللحظات الأولى للحرب.
في كتابه «حرب يوم الغفران.. الواقع يحطم الأسطورة»، سرد إيلي زعيرا رئيس المخابرات العسكرية آنذاك، عددًا من الخطوات التي اتخذها الجانب المصري لإيهام إسرائيل، إلى جانب اعتماد المصريين على خطط بسيطة في الحرب ليست معقدة.
قال «زعيرا» إن الجانب المصري قرر أن تقوم جميع الوحدات المتمركزة منذ أشهر أو سنوات على طول القناة، بعبور القناة من قطاع تمركزها، وليس هناك داع لتحريك وحدات من قطاع إلى قطاع، والتعرف من جديد على المنطقة، أي أن تعمل جميع الوحدات من أماكنها ومهمتها هي عبور المانع المائي الذي يتمركزون على طول شاطئه ثم التمركز على الضفة المقابلة. بالإضافة إلى ذلك، فإن جميع المناورات منذ بداية عام ١٩٧١ كان هدفها إعداد الجيش المصري لتنفيذ هذه الخطة البسيطة.
ويعتقد «زعيرا» أن مصر استفادت فكرة تطوير المناورة إلى حرب من الجانب الروسي، قائلا: إن تطوير المناورة إلى حرب هي نظرية روسية، وقد تم تنفيذ هذه النظرية بالفعل عندما غزا الجيش السوفييتي تشيكوسلوفايكا عام ١٩٦٨.
وعن الإيهام والخداع أشار إلى أنه من أجل التأكيد على إيهام الجيش الإسرائيلي بأن مصر تقوم بمناورة، اتخذ المصريون عدة إجراءات كانت ضرورية من وجهة نظرهم، لإبلاغ المخابرات الإسرائيلية بما يريدون ولقد كانوا على حق. وتابع: من خلال أجهزة جمع المعلومات المتطورة في جيش الدفاع الإسرائيلي علم أن الجيش المصري ينوي إجراء مناورة على غرار مناورات الخريف السنوية، وسوف تبدأ يوم ١أكتوبر وتنتهي يوم ٧ أكتوبر، وأن الضباط المصريين الذين ينوون القيام بمناسك الحج سيتاح لهم ذلك بعد انتهاء المناورة، كما سيبدأ تسجيل أسماء الضباط الراغبين في الحج بدءا من يوم ٩ أكتوبر، ووحدات الاحتياط المشتركة في المناورة سيتم إنهاء الاستدعاء بداية من ٤ أكتوبر، وسيتم إشراك الدارسين في كلية القادة والأركان في هذه المناورة حتى يوم ٩ على أن تستأنف الدراسة في الثامنة والنصف صباح يوم ٩ أكتوبر.
وأضاف: وفي يوم ٢٧ سبتمبر تم تعبئة حوالي ١٢٠ ألف فرد للاشتراك في المناورة "تحرير٤١" ثم تم إنهاء استدعاء ٢٠ ألف فرد منهم وعادوا إلى منازلهم يوم ٤ أكتوبر، ولقد أنهى استدعاء هؤلاء الأفراد لتأكيد المعلومات التي نقلت بالطرق المختلفة، والتي أفادت بإنهاء استدعاء وحدات الاحتياط المشتركة في المناورة، بداية من يوم ٤ أكتوبر، وهذه المعلومات كانت جزءا من عملية الخداع، وهي معلومات حقيقية من أجل خلق انطباع معين لدى العدو-إسرائيل.
ووصل «زعيرا» إلى نتيجة منطقية ترسخت لدى المخابرات، قائلا: وبناء على ذلك فقد كانت شعبة المخابرات على علم مسبق بما سوف يحدث من إنهاء استدعاء الاحتياط يوم ٤ أكتوبر، وعندما حان الموعد تأكد صدق المعلومات على الواقع. وهذا الأمر أكد لضباط المخابرات المختص بتقدير الموقف بأن الأمر ليس أكثر من مناورة.
عقب الانتصار العظيم الذي أحرزته مصر في حرب السادس من أكتوبر ١٩٧٣، أعاد القادة العسكريون في إسرائيل تفسير التحركات المصرية الملغزة قبل اندلاع الحرب، وخلال ذلك اتهموا بعضهم بتحمل مسئولية الهزيمة الساحقة، كان من بين هؤلاء حاييم بارليف رئيس الأركان في الفترة ١٩٦٩-١٩٧٢ الذى قال في شهادة له إن مسئولية الخداع من الجانب المصري تقع على عاتق القائد الأعلى للجيش، فهو المسئول عن نجاح عنصر المفاجأة للجيشين المصري والسوري في اللحظات الأولى للحرب.
وفي كتابه «حرب يوم الغفران» يورد إيلي زعيرا، شهادة بارليف الذي عُرفت باسمه التحصينات القوية المقامة على خط القناة «خط بارليف»، حيث قال: أيا كان تقدير رئيس المخابرات العسكرية، فإن المسئولية وما يستتبعها تقع على القائد الأعلى، فحتى لو قدر رئيس المخابرات العسكرية مثلا أن التحركات التي يقوم بها جيش العدو على الساحة تعني القيام بمناورة، فإن مسئولية القائد الأعلى تلزمه بأن يتخذ إجراءات حذر، مهما كلفه الأمر، لأن الوضع هنا يتعلق بخط الجبهة. ومن أجل الحيلولة دون وقوع مفاجأة فالأمر لا يحتاج إلى جهود فكرية خاصة، بل يجب أن نكون منتبهين للإجراءات التي يقوم بها العدو على الساحة، بدون أي ارتباط بالنوايا الكامنة وراء هذه التحركات والخطوات.
وأضاف «بارليف» في شهادته: وهذا لا يعني رفض تقدير رئيس المخابرات بل إن هذا من واجب مسئولية القائد الأعلى.. يحتمل إذن أن من الأفضل ألا يطلب القائد الأعلى من رئيس المخابرات أن يكون مستشارا أو أن يعبر عن رأيه الشخصي حول مسألة التصرف المحتمل للعدو، وليس فقط تحديد الخطوات التي يقتضيها هذا التقدير.
قبل أن تبدأ الملحمة الوطنية المصرية الكبيرة، التي استرد فيها العرب كرامتهم وأرضهم المسلوبة، كانت هناك حالة من الارتباك تسبب فيها خطة الخداع الاستراتيجي التي نفذتها كل من مصر وسوريا بنجاح كبير شهد له العالم كله، وأثبت نجاحه في إحراز النصر منذ اللحظات الأولى للحرب.
يذكر الجنرال الإسرائيلي إيلي زاعيرا في مذكراته التفاصيل الكاملة لما حدث في يوم الجمعة الخامس من أكتوبر لعام ١٩٧٣، ويصف هذا اليوم بأنه «أحد الأيام القليلة في حياتي المحفورة في ذاكرتي والتي لا يمكن نسيانها»، كما أنه يصف هذا اليوم بـ«الطويل جدًا».
يقول «زاعيرا» متحدثا عن تلك المدة القليلة التي سبقت الحرب: «في هذا الأسبوع لم أذهب منذ بعض الأيام إلى مكتبي بسبب مرضي، ومع مساء يوم الخميس بدأت تصل إلى منزلي معلومات غريبة وليس لها تفسير عن ترحيل سريع لعائلات الخبراء الروس من سوريا، ولقد تم إبلاغي أن عائلات الخبراء الروس سترحل على الفور من سوريا جوًا بواسطة طائرات نقل ستصل من الاتحاد السوفيتي، وبحرًا بواسطة سفن سوفيتية ترسو في ميناء اللاذقية.. وفي الساعة الواحدة بعد منتصف الليل اتصلت تليفونيا برئيس الموساد "تسفى زامير» وأبلغته عما يحدث في سوريا، وأتذكر أن هذه الأيام هي المرة الأولى التي أتصل فيها برئيس الموساد تليفونيا بعد منتصف الليل منذ أن عُينت رئيسًا لشعبة المخابرات وقد أبلغني «زاميرا» أنه حصل على معلومات من مصدر موثوق تفيد بأن شيئًا ما سوف يحدث، ولذلك فهو سوف يسافر إلى خارج البلاد لإجراء لقاء وجهًا لوجه مع مصدر هذا الخبر، ولكي يحصل منه على مزيد من المعلومات وقلت له: إذا كانت هناك أخبار تحذيرية يجب أن تتصل بي تليفونيا على الفور وإبلاغي بالأخبار دون انتظار.
يقول «زاعيرا»: «هنا لابد أن أؤكد أن هذه هي المرة الأولى والوحيدة منذ أن توليت منصب رئيس شعبة الاستخبارات أن قلت لوزير الدفاع ليس لدي تفسير لظاهرة معينة.. هذه هي الحقيقة، في هذه المباحثات في مكتب وزير الدفاع يوم ٥ أكتوبر سمع وزير الدفاع جملة واضحة (ليس لدي تفسير لذلك)، وأضاف، إن الحالة العقلية التي سيطرت على تقديرات قادة جهاز الدفاع يمكن وصفها بالثقة الكاملة في قدرة القادة النظامية والسلاح الجوي على صد أي هجوم مصري سوري وقدرة القادة على تجميع قوات الاحتياط بسرعة والتحول على الفور إلى الهجوم المضاد ولم يكن لأحد أي مجال للشك في قدرة جيش الدفاع الإسرائيلي. وشرح أن الفجوة بين التوقعات فيما يتعلق بالقدرات القتالية لجيش الدفاع الإسرائيلي وبين الواقع الذي اتضح خلال الـ٤٨ ساعة الأولى من القتال أدت إلى احتلال مصر لخط بارليف، وفشل السلاح الجوي في تقديم المعونة للقوات البرية، وفشل الهجوم المضاد على منطقة القناة، مشيرا إلى أنه "كان وقتا عصيبا ومن أقسى الأوقات في تاريخ دولة إسرائيل».
صباح يوم الحربصباح يوم الحرب، عقد قادة إسرائيل اجتماعا مطولا، طرحوا فيه العديد من الأفكار لتفسير التحركات على الجبهتين المصرية والسورية، إلا أنهم لم يتمكنوا من اتخاذ القرار الصحيح، الذي يحميهم من هبة الجيش المصري الذي دك حصونهم القوية.
عن هذا الاجتماع يسرد «زاعيرا»، قائلا: في التاسعة صباحا أجرى وزير الدفاع مشاورات في مكتبه وقد استدعى إلى هذه المشاورات مساعد وزير الدفاع الفريق «تسفى تسور» ورئيس الأركان العامة الفريق «ألعازر» ونائب رئيس الأركان العامة اللواء «يسرائيل طل» ومدير عام وزارة الدفاع «عيروني» ورئيس شعبة المخابرات اللواء «إيلى زاعيرا» والسكرتير العسكري لوزير الدفاع ورئيس منكتب رئيس الأركان ومعاون وزير الدفاع.
دار نقاش بين القيادات واتخذوا عدة قرارات مثل: إلغاء الإجازات على الجبهتين المصرية والسورية، وإلغاء إجازات في السلاح الجوي، ويظل الطيارون في قواعدهم في حالة استعداد كاملة.
تمت مناقشة التحركات المصرية السورية على نحو الخوف من هجوم مفاجئ لإسرائيل على الأراضي المصرية وكانت تلك المخاوف جزء من خطة الخداع المصرية السورية.
وتساءل زاعيرا من جديد عن قيام السوفيت بترحيل النساء والأولاد مع ترحيل الخبراء وأعطى مجموعة من الاحتمالات، الأول: هو أن الروس يعلمون بنوايا مصر وسوريا الهجومية وهم يدركون أن الهجوم الإسرائيلي المضاد سوف ينجح وسيصل إلى العمق وإلى عائلاتهم، أو أنهم يبلغون مصر وسوريا عدم رضاهم عن النوايا الهجومية لذلك يقومون بترحيل عائلاتهم.
الثاني: الروس يخشون من هجوم إسرائيل وأنا أرى أنه إذا كان الروس يعتقدون ذلك لكانوا طلبوا من أمريكا التدخل لوقف ذلك الهجوم، والأمريكان لم يخبرونا بشيء. الثالث: ما يجري أمور متعلقة بالشئون الداخلية في العلاقات بين روسيا وسوريا ولا أعرف إذا كانت هناك احتكاكات لا نعرفها وما يزعجني حدوث ذلك في مصر أيضا. ولكن يمكن أن أقول إنه ربما يحدث في مصر شيء لا نعرفه، أو ربما يرى الروس أنه إذا كانت مهمتهم قد انتهت في سوريا فعليهم أن ينهوا مهمتهم أيضا في مصر لأن المصريين بالتأكيد سوف يحذون حذو سوريا. من الممكن تفسير الاستعدادات المتزايدة في مصر وسوريا بأنها بسبب الخوف من هجوم إسرائيلي ولكنه يشك في ذلك.
وافق وزير الدفاع موشيه ديان على إعلان حالة الطوارئ فيما يتعلق بالاستعدادات العسكرية دون أن يصدر أوامره بتعبئة قوات الاحتياط، لأن مخاوف موشيه ديان لم تكن عسكرية كان يدور في رأسه اعتباران وكلاهما سياسيان: الاعتبار الأول متعلق بالسياسية الخارجية: ما هو رد الفعل العالمي وبصفة خاصة رد فعل أمريكا إذا ما قامت إسرائيل بتعبئة قوات احتياط علانية؟ والاعتبار الثاني داخلي: الخوف من إحداث ذعر داخل إسرائيل.
ولم يبد أحد الحاضرين مخاوف من النتائج العسكرية للهجوم المفاجئ ولم يطرح أحد اقتراحا بتعزيز الجبهات فورا بقوات الاحتياط فالشعور العام السائد هو أن القوات النظامية والسلاح الجوي يمكنهما صد الهجوم. وأوضح ديان أن هناك أمر لا مناص من عمله وهو أن يسأل الأمريكان الجانب الروسي عن سبب ترحيل عائلاتهم، فالأمر لم يعد سرا والجميع يعرفون ذلك.
خوفا من أي تحركات تحسب على الجانب الإسرائيلي، قرر ديان أن تلجأ أمريكا لسؤال الروس عما يحدث في مصر وسوريا، كما أراد أن يوجه إنذارا يفيد بأن إسرائيل لا تنوي القيام بأي هجوم، وأنهم على علم بما يحدث في مصر وسوريا فعنصر المفاجأة غير وارد.
والحقيقة أن هذه اللحظات كان مربكة لقادة إسرائيل، وقد عجزوا عن فك شفرة التحركات المصرية السورية، وجرى خداعهم بشكل فضح قوتهم أمام العالم، وذلك في العاشر من رمضان، السادس من أكتوبر، فما هي إلا ساعات بعد الاجتماع الصباحي الإسرائيلي حتى جاء التفسير الصحيح للتحركات المصرية.
المصدر: البوابة نيوز
كلمات دلالية: الجيش المصري العاشر من رمضان انتصار اكتوبر قناة السويس السادس من أکتوبر العاشر من رمضان رئیس المخابرات القائد الأعلى رئیس الأرکان الجیش المصری وزیر الدفاع مصر وسوریا ٤ أکتوبر یحدث فی إذا کان فی مصر رئیس ا
إقرأ أيضاً:
ما هي استراتيجية الدفاع الأمامي التي تتبناها إيران؟ وهل تستمر فيها؟
لعل من نافلة القول، أن إستراتيجية الدفاع الأمامي- والتي تُعرف في الأدبيات الإيرانية باسم "الدفاع المستمر"- ترتكز على تصور أمني مركزي يفترض أن حماية الدولة لا تتحقق من داخل حدودها الجغرافية، بل من خلال التمدد الوقائي في الفضاء العربي المحيط.
وليس هذا الطرح إلا استجابة مرنة لبنية تهديد مركبة ومتناسلة تتجاوز نمط الحرب النظامية إلى الحرب غير المتكافئة، حيث يصبح ضبط المجال الحيوي للخصم شرطًا أوليًا لبقاء الذات.
وعلى هذا الأساس، فإن إستراتيجية الدفاع الأمامي لا تُفهم بوصفها خيارًا ظرفيًا، بل هي في جوهرها تموضع وجودي في مشهد إقليمي متقلب، وإعادة صياغة لمفهوم السيادة من داخل منطق الردع مترامي الأطراف.
وإذا أردنا أن نؤصل هذه العقيدة في سياقها التاريخي، فلا مناص من العودة إلى لحظة التأسيس الأولى، أي إلى الحرب العراقية الإيرانية، تلك الحرب التي لم تكن مجرد نزاع حدودي، بل كانت تجسيدًا لصراع كياني بين مشروعين متنازعين على الجغرافيا والرمز معًا.
ومن رحم تلك التجربة، لا سيما بعد انسحاب العراق من الأراضي الإيرانية عام 1982، تشكل إدراك مركزي مفاده أن الدفاع داخل الحدود هو أقرب إلى الانتحار البطيء، وأن تحييد الخطر يستوجب نقله إلى أرض الخصم.
وبمقتضى هذا الوعي، أخذت طهران في تبني نظرية الدفاع الأمامي، لا باعتبارها مجرد عملية عسكرية استباقية، بل باعتبارها تحولًا نوعيًا في هندسة المجال الأمني، بحيث لا يُترك للعدو هامش اقتراب، ولا يُسمح له بصياغة ميزان القوى على مقربة من تخومها.
ولم يكن نموذج حزب الله في لبنان في هذا السياق إلا التجسيد العملي الأول لهذا المنطق، إذ أثبت الحزب في سياق المواجهة المركبة مع إسرائيل أن الفاعل غير النظامي قادر على إعادة تعريف القوة بما يتجاوز الأوزان التقليدية للجيوش.
ومن ثم تم استنساخ النموذج في بيئات متباينة وفق خصوصية كل ساحة، فظهر الحشد الشعبي في العراق، وفاطميون وزينبيون في سوريا، والحوثيون في اليمن.
إعلانفكان لكل ساحة عنوانها المحلي، لكن المظلة العقائدية والمركز التنسيقي ظلا محكومين بمنظومة الحرس الثوري، ولا سيما "فيلق القدس"، الذراع الخارجية التي جسدت في شخص قاسم سليماني الانتقال من الدولة إلى الشبكة، ومن المركز إلى الامتداد.
وما إن حل عام 2003، حتى وجدت إيران نفسها إزاء لحظة فارقة، إذ أتاح الغزو الأميركي للعراق إسقاط عدوها التاريخي، وفتح الباب واسعًا لاختراق البنية العراقية في مستوياتها السياسية والأمنية والاجتماعية.
وقد أحسنت طهران توظيف هذا التحول، ليس فقط من خلال الدعم المباشر لحلفائها، بل من خلال إعادة هندسة المجال العراقي بوصفه عمقًا إستراتيجيًا دائمًا، لا مجرد حليف طارئ.
ثم جاءت التحولات الإقليمية التي صاحبت الربيع العربي لتمنح إيران فسحة إضافية للتوسع، فكان الولوج إلى سوريا تحت عنوان حماية محور المقاومة، والدخول إلى اليمن تحت لافتة نصرة المستضعفين.
وكل ذلك لم يكن سوى حلقات متناسقة ضمن سلسلة الدفاع الأمامي، بما أنها منظومة مرنة لا تعترف بالحدود الجغرافية الصلبة، بل تبني أمنها على قابلية التمدد وفق إيقاع الخطر.
إن ما يمنح هذه الإستراتيجية قوتها ليس فقط انتشار الوكلاء وتعدد الساحات، بل ارتكازها على بنية سردية عقائدية تُجهّز وتُعبّئ وتضفي بعدًا قدسيًا على الجهد العسكري، إذ يتماهى الدفاع عن المزارات في النجف وكربلاء والسيدة زينب مع حماية الثورة، وتتقاطع رمزية كربلاء مع المعارك الميدانية في البوكمال أو شبوة، بحيث تتحول الهوية الشيعية العابرة للحدود إلى غلاف تعبوي لمشروع جيوسياسي صلب.
ومن هذا المنظور، فإن هذه الإستراتيجية تكتسب شرعيتها من تداخل السياسي بالمقدس، ومن قدرة النظام الإيراني على تقديم نفسه كحامٍ للوجود الشيعي في وجه ما يعتبره تهديدًا سنيًا تارة، وإسرائيليًا تارة أخرى.
غير أن لهذه الإستراتيجية كلفة، بل كلفة باهظة. فحين تتوسع إيران على حساب دول منهكة أو منهارة، فإنها لا تكسب نفوذًا خالصًا، بل ترث هشاشة البنى التي تتدخل فيها، وتعرض نفسها للارتداد العكسي.
وقد دفعتها هذه المقاربة إلى صدام مفتوح مع الولايات المتحدة وإسرائيل، وعرضتها لسلسلة عقوبات اقتصادية خانقة، ووسمها الخطاب العربي الرسمي والشعبي بكونها قوة طائفية توسعية.
وبهذا المعنى، فإن ما كسبته إيران من عمق جيوسياسي دفعته من رصيدها في العالم العربي ومن رصيد خطابها الثوري، وأدخلها في شبكة من التوازنات المعقدة التي يصعب التحكم بمآلاتها.
بل إن الداخل الإيراني نفسه بدأ يتململ، لا سيما في ظل الأوضاع الاقتصادية الخانقة، وأصبحت فئات واسعة من الشعب تتساءل عن منطق تخصيص الموارد الهائلة لدعم جماعات مسلحة خارجية، في الوقت الذي تعاني فيه الطبقات الدنيا من الانهيار المعيشي، وتتقلص فيه شرعية النظام في عين قاعدته الاجتماعية.
ورغم ذلك، فإن المؤسسة الأمنية والعسكرية الإيرانية ما زالت ترى في إستراتيجية الدفاع الأمامي أنها ليست ترفًا إستراتيجيًا، بل قدرًا وجوديًا لا يمكن التراجع عنه. ذلك أن إيران تدرك تمامًا أن الانكفاء يعني الانكشاف، وأن الانسحاب من الميدان يفتح المجال أمام الخصوم لملء الفراغ، ومن ثم إعادة رسم الإقليم على نحو يهدد وجودها ذاته.
إعلانولعل اغتيال قاسم سليماني، بما حمله من رمزية، لم يؤدِ إلى تراجع هذه الإستراتيجية، بل عمق الإيمان بها، وجعل من الرجل شهيدًا في سرديتها، ومن نهجه وصية إستراتيجية لا مجال للتخلي عنها.
ومن هنا، لا تبدو إيران مقبلة على تعديل جذري في مقاربتها مهما تبدلت الظروف، فالمنظور البنيوي الذي يحكم دفاعها الأمامي يجعل من هذه الإستراتيجية أداة تأمين إقليمي، وآلية تفاوض على طاولة الصراع الدولي، ووسيلة تهشيم للحدود الكلاسيكية التي تفصل بين الدولة والأمة، بين العقيدة والمصلحة، بين المذهب والجيوسياسة.
غير أن السؤال يظل معلقًا: هل تملك إيران، في ظل التحولات الدولية، ما يكفي من الموارد والشرعية والحلفاء لاستدامة هذه الإستراتيجية؟ أم أن الدفاع الأمامي، وقد بلغ ذروته، قد يتحول إلى استنزاف أمامي يعجل بانكفاء داخلي لا يُبقي ولا يذر؟
أما اليوم، وبعد المواجهة العسكرية غير المسبوقة التي اندلعت بين إيران وإسرائيل، إذ جرى استهداف منشآت عسكرية وعلمية في عمق العاصمة طهران، ومقتل قيادات رفيعة في الحرس الثوري والجيش، فإن المشهد يبدو وكأنه دخل طورًا جديدًا من التحدي البنيوي لإستراتيجية الدفاع الأمامي نفسها.
فقد كشفت هذه الضربات مستوى هشاشة المنظومة الردعية الإيرانية، لا سيما في ظل العجز عن حماية المركز ذاته، وهو ما قد يدفع صناع القرار في طهران لإعادة النظر في حدود هذه الإستراتيجية وأدواتها.
وبات مطروحًا على طاولة النقاش الأمني والسياسي في إيران سؤال لم يكن ممكنًا طرحه سابقًا: هل آن الأوان لتغليب منطق الدولة على منطق الثورة؟ وهل يؤدي الانكفاء إلى الداخل وبناء الجبهة الوطنية والمؤسساتية إلى تأمين أكثر استدامة من المغامرات العابرة للحدود؟
إن خطورة اللحظة لا تكمن في حجم الخسائر فحسب، بل في رمزية ما جرى. فقد اخترقت إسرائيل منظومة الردع الإيرانية في قلب العاصمة، وكشفت قابلية الانكشاف الإستراتيجي للدولة، وهو ما قد يرغم صانع القرار الإيراني (ولو تحت ضغط الواقع) على التخفف من عبء الامتدادات الخارجية، والعودة إلى صيغة (إيران الدولة) التي توازن بين المصلحة والسيادة، وتعيد تعريف الأمن القومي على أساس داخلي لا توسعي.
غير أن ذلك يظل رهنًا بتوازنات معقدة بين مراكز القوى داخل النظام، بين من يرى في الانكفاء نكوصًا عن المبادئ، ومن يراه شرطًا لبقاء النظام.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outline