يمانيون../
تشهد وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون) واحدة من أعقد أزماتها الإدارية والعسكرية منذ عقود، مع تصاعد موجة استقالات وإقالات في صفوف كبار المسؤولين العسكريين، في مشهد يعكس بوضوح تصدع القيادة داخل أهم مؤسسات الدولة الأمريكية.

صحيفة واشنطن بوست، في تقرير موسع حمل دلالات خطيرة، كشفت أن أكثر من 12 مسؤولًا عسكريًا رفيع المستوى، من ضمنهم رئيس هيئة الأركان المشتركة وكبار الأدميرالات في البحرية، غادروا مواقعهم خلال فترة قصيرة، ما يشير إلى أن حالة التآكل باتت تضرب جذور البنتاغون.

هذه الفوضى، بحسب التقرير، لم تكن نتاج ضغوط خارجية أو حروب ميدانية فقط، بل نتاج مباشر لأسلوب قيادة وزير الدفاع الحالي بيت هيغسيث، المثير للجدل، والذي جاء من خلفية إعلامية شعبوية عبر قناة فوكس نيوز، بلا خبرة حقيقية في إدارة منظومة عسكرية معقدة بحجم البنتاغون.

ووفقًا لما أورده التقرير، فإن جو كاسبر، رئيس أركان وزير الدفاع، قدم استقالته طواعيةً، ولكن في ظل أجواء مسمومة من الانقسامات والاتهامات المتبادلة، بين مستشاري هيغسيث، الذين أقال ثلاثة منهم مؤخرًا بتهم “التسريب”، وهي تهم رفضها المستشارون بشدة، معتبرين أن الإقالات جاءت على خلفية صراعات نفوذ داخلي وشكوك مفرطة من الوزير، الذي يصفه كثيرون داخل الوزارة بأنه “مصاب بجنون العظمة” و”مهووس بالتغطيات الإعلامية اليومية” أكثر من اهتمامه بتطوير الأداء العسكري.

التقرير أشار إلى أن كاسبر، الذي كان من الشخصيات المحترمة نسبيًا داخل البنتاغون، وجد نفسه عاجزًا عن العمل وسط هذه الأجواء، خصوصًا بعد أن تعمقت عزلة هيغسيث، وضيّق دائرة القرار إلى عدد محدود جدًا من الأسماء الموالية له، مما أضعف كفاءة الإدارة العسكرية وأدى إلى شلل واضح في اتخاذ القرار.

ولم تتوقف الأزمة عند حدود الانقسامات الإدارية، بل امتدت إلى تجاوزات أمنية خطيرة. فحسب التحقيقات الجارية، يستخدم هيغسيث تطبيق “سيجنال” المشفر لتداول رسائل تتعلق بشؤون الدفاع، في خرق محتمل لقوانين التعامل مع المعلومات المصنفة، مما دفع المفتش العام لوزارة الدفاع لفتح تحقيق رسمي قد يضع الوزير نفسه تحت طائلة المساءلة القانونية.

من جهة أخرى، انفجرت موجة جديدة من الغضب السياسي ضد الإدارة، بعد تصاعد خسائر المدنيين في اليمن نتيجة الغارات الأمريكية الأخيرة، وهو ما دفع ثلاثة من أبرز أعضاء مجلس الشيوخ (كريس فان هولين، إليزابيث وارن، وتيم كين) إلى المطالبة العلنية بتحقيق فوري في هذه العمليات، معتبرين أن ما يحدث “ينسف بالكامل” الادعاءات التي يروج لها ترامب بأنه يسعى لتحقيق “سلام عالمي” في ولايته الثانية.

التعليقات الشعبية التي رصدها تقرير الصحيفة بدت أكثر قسوة، حيث اعتبر كثيرون أن الإدارة الحالية تتصرف بطريقة “متهورة ولا إنسانية”، وأن “الاستهتار بحياة المدنيين في اليمن سيولد موجات عداء جديدة ضد الولايات المتحدة، تفوق ما خلفته مغامراتها العسكرية السابقة”.

التقرير لم يخفِ قلقه من أن الانقسامات الداخلية داخل البنتاغون تأتي في وقت حساس للغاية، حيث تواجه واشنطن تحديات استراتيجية متصاعدة على عدة جبهات، من البحر الأحمر إلى المحيط الهادئ، في مواجهة قوى صاعدة مثل الصين وروسيا، بينما يظهر أن البنية القيادية التي يُفترض أن توجه هذه المواجهات تنهار من الداخل بفعل التخبط، وانعدام الرؤية، والصراعات الشخصية.

وفي الخلاصة، يبدو أن انهيار الثقة داخل وزارة الدفاع الأمريكية لم يعد مجرد أزمة مؤقتة، بل تحول إلى ظاهرة بنيوية عميقة، تنذر بإضعاف الجاهزية العسكرية الأمريكية على المدى المتوسط، وتكشف عن فشل ذريع في إدارة التحولات الجيوسياسية التي تعصف بالعالم اليوم.

في ظل هذا المشهد المضطرب، تتزايد التساؤلات:
من يقود فعليًا الدفاع الأمريكي؟
وما الذي تبقى من مصداقية الولايات المتحدة أمام حلفائها وخصومها على السواء؟
وهل يستطيع البيت الأبيض إنقاذ ما تبقى من مؤسسات الدولة قبل أن ينهار المشهد بالكامل؟

تشير هذه الاضطرابات غير المسبوقة داخل البنتاغون إلى أزمة أعمق بكثير مما تبدو عليه من الخارج؛ فهي تعكس تآكل البنية المؤسسية للنظام الأمريكي ذاته، الذي كان لسنوات طويلة يتباهى بصلابته واستقراره الإداري.

اليوم، وبينما تتصدع وزارة الدفاع تحت وطأة الصراعات الداخلية وسوء الإدارة، يتآكل في المقابل دور الولايات المتحدة كقوة مهيمنة على النظام الدولي. فالعالم لم يعد ينتظر توجيهات واشنطن كما في السابق؛ إذ تصعد قوى بديلة مثل الصين وروسيا بثقة، مستفيدة من هذا الانكشاف الأمريكي المتسارع.

في الشرق الأوسط، يتجلى هذا التراجع بأوضح صوره؛ إذ لم تعد الغارات الأمريكية، رغم قسوتها ووحشيتها كما في اليمن، قادرة على فرض إرادة واشنطن كما كانت تفعل من قبل. وفي أوكرانيا، أصبحت المساعدات الأمريكية محل جدل داخلي، وسط انقسام عميق بين النخب السياسية والشعبية. أما في آسيا والمحيط الهادئ، فإن التحالفات التي تبنيها الصين مع دول الجوار باتت تهدد النفوذ الأمريكي التقليدي.

إن ما يحدث اليوم داخل البنتاغون، من انهيار الثقة إلى الانقسامات الداخلية، ليس مجرد أزمة إدارة، بل هو عرض من أعراض مرض أعمق: أفول الإمبراطورية الأمريكية. فبينما تغرق القيادات الأمريكية في صراعاتها الصغيرة وأوهامها الإعلامية، يفقد النظام الأمريكي أدواته الناعمة والصلبة التي كانت تُمكّنه من فرض رؤيته على العالم.

وبينما تتزايد الفوضى في الداخل، تتسع الفجوة بين صورة الولايات المتحدة كـ “قوة عظمى” وبين واقعها كقوة تتآكل من الداخل، عاجزة عن فرض استقرارها الداخلي ناهيك عن إعادة فرض هيبتها على الساحة الدولية.

وبالتالي، فإن السؤال لم يعد “متى تستعيد الولايات المتحدة دورها الريادي؟”، بل أصبح “كيف ومتى سيتشكل النظام العالمي الجديد على أنقاض التفكك الأمريكي المتسارع؟”.

المصدر: يمانيون

كلمات دلالية: الولایات المتحدة داخل البنتاغون

إقرأ أيضاً:

أونروا: انهيار منظومة الصحة في غزة و40% فقط من المستشفيات تصمد وسط الدمار

حذّرت وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) من انهيار شبه كامل للقطاع الصحي في غزة، مؤكدة أن 40% فقط من المستشفيات تعمل جزئياً وسط نقص حاد في الأدوية والمستلزمات الطبية والوقود، واستمرار العمليات العسكرية التي تعيق وصول المساعدات الإنسانية.

وأوضحت أونروا في بيان رسمي أن من أصل 36 مستشفى في القطاع لا يعمل سوى 19 بشكل جزئي، بينما خرج الباقي عن الخدمة نتيجة الدمار أو انقطاع الإمدادات الحيوية. كما أشارت الوكالة إلى أن 10 فقط من أصل 26 مركزاً صحياً تابعاً لها لا تزال تقدم خدمات محدودة للنازحين في مراكز الإيواء، في ظل ظروف إنسانية وصفتها بـ"الكارثية".

أونروا: 90% من مدارس الوكالة في قطاع غزة تعرضت للقصف والتدميرأونروا تشكف أبرز ما مر به قطاع غزة على مدار عامين

وأكدت منظمة الصحة العالمية بدورها أن المنشآت الطبية في غزة وصلت إلى نقطة الانهيار الكامل، إذ تعاني 94% من المستشفيات من أضرار جسيمة، فيما يعمل الطاقم الطبي في بيئة تفتقر إلى الأمان والموارد الأساسية، مع الاعتماد شبه الكلي على المولدات الكهربائية التي تهدد بالتوقف في أي لحظة بسبب شح الوقود.

وأشارت تقارير مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (OCHA) إلى أن نقص الأدوية والمحاليل والمعدات الجراحية أدى إلى ارتفاع الوفيات بين المرضى والمصابين، إضافة إلى تفشي الأمراض المعدية في مراكز الإيواء المكتظة، وازدياد معاناة الحوامل والأطفال وكبار السن.

وطالبت أونروا والمنظمات الدولية بـ وقف فوري للعمليات العسكرية وضمان وصول المساعدات الإنسانية والطبية دون عوائق، محذّرة من أن استمرار الوضع الراهن سيؤدي إلى "كارثة صحية وإنسانية لا يمكن احتواؤها".

طباعة شارك أونروا وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين غزة المساعدات الإنسانية

مقالات مشابهة

  • ثمن الفوضى.. عندما تصبح السياسة الخارجية رهينة المزاج
  • الدفاع الروسية: مقتل 1460 عسكريًا أوكرانيًا خلال 24 ساعة
  • نائب محافظ القاهرة بالأميرية: معركة ميدانية ضد الفوضى والمخالفات
  • القيادة المركزية الأمريكية: لن ننشر أي قوات في قطاع غزة
  • قائد القيادة المركزية الأمريكية: لا خطط لنشر قوات أمريكية فى غزة
  • أونروا: انهيار منظومة الصحة في غزة و40% فقط من المستشفيات تصمد وسط الدمار
  • انهيار في الأسهم الأمريكية.. عمالقة التكنولوجيا يفقدون 770 مليار دولار
  • مقتل 4 أشخاص بإطلاق نار في الولايات المتحدة
  • برفقة ويتكوف.. قائد القيادة المركزية الأمريكية يكشف عن سبب زيارته إلى غزة
  • الولايات المتحدة تعلن نشر 200 عسكري لدعم استقرار القطاع