سودانايل:
2025-06-18@05:42:20 GMT

عمق الجروح: مرافعة من أجل عدالة انتقالية سودانية

تاريخ النشر: 28th, April 2025 GMT

دكتور الوليد آدم مادبو

“العدالة ليست أن تنتصر، بل أن تعيد للناس إيمانهم بأنهم يستحقون الوطن.”
— نيلسون مانديلا

رغم وجاهة الدعوة إلى عدالة انتقالية مستوحاة من تجربة جنوب أفريقيا، كما أشار الدكتور الوليد أحمد عدلان في تعقيب له على مقالي: "في حضرة الجراح: استعادة التوازن الممكن"، فإننا لا يمكن أن نكتفي بالاستدعاء الرمزي لهذه التجربة دون تفكيك عناصرها وتكييفها مع السياق السوداني المأزوم.

فالسؤال المركزي الذي يطرح نفسه هو: من يملك اليوم شرعية إطلاق مبادرة بحجم العدالة الانتقالية؟ إن غياب المؤسسات الوطنية الجامعة، وانقسام النخب، وتآكل ثقة الشارع في الفاعلين السياسيين، كلها تجعل من أي مسار عدالة انتقالية محفوفاً بخطر الاختطاف أو التوظيف الفئوي.

ولهذا، لا بد من استحضار تجارب أخرى لا لمجرد المقارنة، بل لاستخلاص عناصر النجاح والإخفاق: في رواندا، على سبيل المثال، لعب القضاء الشعبي دوراً في إعادة تشكيل الروح الجماعية، لكنه أغفل أسئلة العدالة السياسية والاجتماعية. أما في كولومبيا، فساهم الاتفاق مع الفارك في تقليل العنف لكنه اصطدم بعدم رضا قطاعات شعبية عن “تنازلات غير كافية”. بينما في تونس، انتهت تجربة "هيئة الحقيقة والكرامة" إلى نتائج محدودة بسبب ضعف الإرادة السياسية، مما يعلّمنا أن وجود هيئة لا يكفي ما لم تُسند بشرعية اجتماعية واسعة، وأطر قانونية محمية، وإرادة إصلاحية واضحة.

من هذه التجارب نستخلص درسًا مهمًّا: العدالة الانتقالية ليست مسارًا قانونيًا فحسب، بل عقد اجتماعي جديد، يتطلب شرعية شعبية، وتمثيلًا تعدديًا، وإرادة صادقة. ولذا فإن التحدي في السودان لا يكمن فقط في إنشاء هيئة أو لجنة، بل في ضمان شفافيتها، وتحصينها من التوظيف الفئوي، وجعلها تعبيرًا عن وجدان جماعي، لا إرادة فصيل سياسي.

إننا لا نحتاج إلى عدالة تُستخدم كسلاح انتقائي، ولا إلى مصالحة تُفرض بغير اعتراف، بل إلى عدالة تحقّق التوازن الأخلاقي والسياسي، من خلال إعادة توزيع المعنى والثقة، قبل الثروة والسلطة. ما نحتاجه هو عدالة انتقالية سودانية الأصل، متعددة الأصوات، ضامنة للكرامة لا مُكرّسة للغلبة. عدالة تؤسس لسردية وطنية واحدة، تحوّل المأساة إلى ذاكرة جامعة، وتحرّر المستقبل من سطوة المظلومية العمياء أو الاستعلاء الأجوف.

هناك تشابه في البنية الاجتماعية المعقدة بين السودان ورواندا من حيث تداخل الهويات العرقية والدينية الذي أدى إلى نزاعات دموية؛ هناك تشابه في مركزية الدولة وتاريخ الانقلابات بين السودان وتجربة تشيلي بعد بينوشيه أو إندونيسيا بعد سوهارتو، حيث واجهت الدولة تحديات في إعادة الثقة بين المؤسسة العسكرية والمجتمع، وما شهدته البلاد من انتقالات ديمقراطية معقدة. كما يوجد تشابه في عمق الجروح والانقسامات الإثنية بين السودان وجنوب أفريقيا أو كولومبيا، إذ جرى تحويل الصراع من حالة انتقامية إلى مشروع وطني، عبر آليات للعدالة الانتقالية توازن بين المصارحة والمصالحة.

إن إعادة بناء السودان لا تبدأ من محاكمات شعاراتية، بل من مكاشفة صريحة مع الذات: لقد أخطأنا حين اخترنا التنازع على السلطة بدل التشارك في المسؤولية، وأخطأنا حين قدّمنا الولاء الحزبي أو الجهوي على الولاء الوطني، وأخطأنا بل أجرمنا حين جعلنا الثورة سوقًا للمقايضة، والسياسة مجرد تفاوض سطحي والدين أداة للقمع وليس مظلة للعدالة. أخطأنا حين ظننا أن الانتماء للمركز صكّ نجاة، وأن الهامش مجرد فائض سكاني يمكن تدجينه. أخطأنا حين أنكرنا على الآخرين إنسانيتهم، فخسرنا إنسانيتنا في الطريق.

ولن نستعيد الوطن ما لم نعترف بأخطائنا، إذا لم يكن ذلك بدوافع قيمية فليكن بدوافع مصلحية. فالاعتراف بالمسؤولية الجماعية لا يُعد ترفًا أخلاقيًا، بل شرطًا لازمًا لاستعادة التوازن الوطني. فما وصلنا إليه من انهيار لم يكن وليد لحظة خارجية، بل نتيجة تراكمات داخلية من العجز، والخذلان، والتقاعس عن إنصاف المظلومين، وعن الانتصار للقيم التي تحفظ تماسك المجتمعات وتمنع تغوّل السلطة أو تفكك الدولة.

لم يكن بمقدور أي بلد أن يختـرق صفنا الوطني، لو لم تكن هناك فراغات في الجدار، نتوءات في الوعي، وتشققات في نسيج الكرامة جعلتنا نفقد الثقة في أنفسنا ونتعامل مع الحليف التنموي على أساس أنه عدو وهمي (التعبير بتصرف للأستاذة سارة الحوسني)، أو أن نتوهم الصداقة مع غريم أزلي وعدو استراتيجي. كان والدي كثيرا ما يقول لي: لا تتجلى براعة السياسي يا بُني في قوله "نحن مستهدفون"، إنما في تجنيب شعبه الاستهداف. ولأن الوطن ليس جغرافيا نرثها، بل معنى نصوغه بأفعالنا وصدق مقاصدنا، فإننا لا ننجو إلا حين نصغي لصوت الضمير لا ضجيج الشعارات، وحين نقاوم الإغراء ونرفض الاصطفاف الأعمى، وحين نستنكر دعوات الإقصاء: لا مدنيًا يُقصي العسكري، ولا عسكريًا يحتقر المدني، بل معادلة رشيدة تُقيم ميزان الوطن على ساقين: القوة المنضبطة، والحكمة المستنيرة.

ورغم أن المرافعة الأخلاقية هذه تظل ضرورية، فإننا بحاجة إلى ترجمة هذا الطموح إلى آليات تُصمَّم من الداخل، وتعكس التنوع الحقيقي للمجتمع السوداني، لا أن تُفرض بمنطق الوصاية أو الحسابات السياسية الضيقة. يحتاج هذا الأمر إلى تضافر جهود كل المختصين (قانونيين دستوريين، علماء اجتماع، أساتذة علوم سياسية، اقتصاديين، إلى آخره)، الزعماء الأهليين من قبليين ودينيين، خبراء عالميين لهم تخصصات شتى في حقول المعرفة السودانية المختلفة، شباب الثورة الغيورين وكافة أبناء الوطن الحادبين. نحتاج إلى إعداد جيد قبل أن ندعو الضحية والجلاد إلى قاعة الشعب وإلى ساحة الحقيقة والمصالحة.

حينها لن نحتاج إلى عصا خارجيّة أو مبادرة أممية تُعيدنا إلى جادة الطريق، بل إلى قلوبٍ تعترف، وعقول تُدبّر، وسواعد تتضافر. فالتاريخ لا يرحم المتقاعسين، ولا يسامح المزيفين. فلنبدأ إذن من حيث تتلاقى القلوب لا تتصادم، ومن حيث يُغفر الماضي لا يُنسى، ومن حيث تُبنى الذاكرة المشتركة لا لتثبيت الألم، بل لتحويله إلى حكاية خلاص.

‏April 28, 2025

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: من حیث

إقرأ أيضاً:

كفافي: لا عدالة في بقاء شقق مغلقة.. وبنود الإخلاء تستند إلى الضرورة لا العاطفة

أكد المستشار محمد عبد العليم كفافي، المستشار القانوني لرئيس مجلس النواب، في جلسة ساخنة شهدها اجتماع اللجنة المشتركة بمجلس النواب اليوم، الثلاثاء 17 يونيو، لمناقشة مشروع قانون الإيجارات القديمة، أن البنود المستحدثة في مشروع القانون—والخاصة بحالتي الشقق المغلقة وامتلاك وحدة بديلة صالحة للاستخدام—ليست فقط دستورية، بل تمثل تجسيدًا حقيقيًا للعدالة الاجتماعية.

وأوضح كفافي أن هذه المواد جاءت نتيجة حوار مجتمعي جاد، ولاقت ترحيبًا من جميع التيارات داخل البرلمان، بما فيهم نواب المعارضة مثل ضياء الدين داود وأحمد الشرقاوي، الذين أشادوا بهذه الإضافات كبنود منصفة ومتزنة.

7 سنوات للإخلاء والقيمة تبدأ من 250 جنيها.. ننشر مواد قانون الإيجار القديم بعد التعديلاتالإيجار القديم يشعل البرلمان.. مشادة بين الفيومي وداود داخل اللجنة المشتركةالمؤتمر: مشروع قانون الإيجار القديم يساهم في تحقيق التوازن المفقود بين طرفي العلاقة الإيجاريةمحمود فوزي: 7 سنوات مدة كافية لإخلاء شقق الإيجار القديم.. والجميع رابح في مشروع القانون

ورغم التوافق الواسع، أشار كفافي إلى أن البعض لا يزال يروّج لفكرة أن هذه المواد غير دستورية وتمس العدالة، وهو ما رفضه قاطعًا، مؤكدًا: "هذه البنود هي جوهر العدالة، فبقاء شقة مغلقة أو وجود بديل سكني لا يبرر استمرار الامتداد القانوني لعقد الإيجار القديم".

وأضاف أن الامتداد لعقود الإيجار كان مبرره الأساسي هو "الضرورة الاجتماعية"، وهو قيد استثنائي على حق الملكية لا يمكن أن يستمر بلا سبب حقيقي، معتبرًا أن البنود الجديدة تعيد التوازن دون المساس بالحقوق المستقرة أو إحداث ضرر اجتماعي.

طباعة شارك قانون الإيجارات القديمة مجلس النواب رئيس مجلس النواب المستشار محمد عبد العليم كفافي دستورية

مقالات مشابهة

  • شاهد بالصورة والفيديو.. تيكتوكر سودانية تثير ضجة غير مسبوقة: (بحب الأولاد الطاعمين “الحلوات” وخوتهم أفضل من خوة النسوان)
  • فترة انتقالية 7 سنوات.. أبرز ملامح مشروع قانون الإيجار القديم
  • أبو بكر عن الإيجار القديم: لا حياد في قضايا السكن... إما عدالة أو كارثة مجتمعية
  • كفافي: لا عدالة في بقاء شقق مغلقة.. وبنود الإخلاء تستند إلى الضرورة لا العاطفة
  • خطاب الملك أمام البرلمان الأوروبي: مرافعة دولة في وجه انحلال العالم
  • حركات الأزواد تطلب عدالة الجنائية الدولية في حرب الشمال المالي
  • القضاء العُماني.. عدالة تترسخ بـ"رؤية 2040"
  • مشاركة سودانية بفيلمين في مهرجان الدار البيضاء للفيلم العربي
  • فين الحلاوة وفين الهدية؟.. مرافعة دفاع متهم بقضية رشوة فساد وزارة الري
  • 50 ألف جنيه تورط متهم برشوة الري.. مرافعة الدفاع أمام المحكمة