كيف نشأ الصراع على الشريعة في السودان؟
تاريخ النشر: 10th, May 2025 GMT
لولا أنّ الخصومة غير الراشدة، والتدخلات الخارجية الخبيثة، هي التي تتحكم في السياسة السودانية، لكان دستور عام 2005، الذي تم التوافق عليه بين القوى الوطنية، يصلح أن يكون أساسًا صالحًا لتأسيس وحدة نموذجية بين الشمال ذي الأغلبية المسلمة والثقافة العربية، وبين الجنوب ذي الثقافة الأفريقية الغالبة والديانات المتعددة.
ولكان إجابة منطقية لكل الجدل الذي استطال عن علاقة الدين بالدولة، فقامت بسبب ذلك الحروب والمعارك، وتعمقت به الانقسامات، وتفرقت المسالك.
لقد احتوى ذلك الدستور جماع الحكمة التاريخية الوطنية، باستيعابه حساسية التعايش في دولة حديثة متعددة الديانات والأعراق، وتحيط بها التحديات من كل جانب، وبلغ النضج الفكري للتيارات السياسية في محتوى تلك الوثيقة الراقية مبلغ الرشد الذي يبحث عن المشتركات، ويجافي أسباب الخلاف والاختلاف.
جاءت المادة الأولى للدستور لتؤكد على أن السودان دولة ديمقراطية تتعدد فيها الثقافات واللغات، وتتعايش فيها العناصر والأعراق والأديان. وتحاشى الدستور ذكر دين الدولة الرسمي، وفي الوقت نفسه ساوى بين مصادر التشريع: (الشريعة والإجماع والقيم لشمال السودان، والأعراف والتقاليد والمعتقدات الدينية لجنوبه).
إعلانوبخصوص الحقوق والواجبات، فقد ثبت النص أن المواطنة المتساوية هي المعيار لهما، وأن جميع لغات السودان لغات قومية يجب احترامها وتطويرها.
ذلك ما كان من أمر النصوص، أما الممارسة، فلم تخرج عما ألفته النخبة السودانية من خوض المعارك الخاسرة، والخلط بين ما هو تكتيكي وما هو إستراتيجي، من أجل تسجيل النقاط في شباك الخصوم، وحيازة الانتصارات الصغيرة.
ظلت قضية الشريعة الإسلامية في صدارة القضايا الوطنية التي شهدت التجاذب والخلاف، ومع أهمية أطروحة علاقة الدين بالدولة، إلا أن المقاربة التي اعتمدتها النخبة المنقسمة عمّقت حدّة الصراع حول الموضوع، وأثّرت على المطلوبات الوطنية لبناء دولة الرفاه والاستقرار بعد الاستقلال.
وقد تداخلت عوامل متعددة قادت إلى هذه النتائج، منها قصور الرؤية التي طُرحت من أجل تطبيق الشريعة الإسلامية، خاصةً مع تحدي الدولة الحديثة التي شادها الاستعمار، والدور المحوري الذي قام به المستعمر نفسه بتخريجه أجيالًا ممن اطمأنّ إلى أنهم سيحملون رايته ويدافعون عنها بعد خروجه.
إلى جانب تأثير الصراع السياسي الحاد، الذي حوّلها من مشروع كان ينبغي أن يكون ثابتًا من ثوابت البناء الوطني، إلى مجرد مشروع للتنافس السياسي، تختلف حوله القوى السياسية اختلافًا بيّنًا.
تصلح المملكة السنارية في إعطائنا نموذجًا عمليًا لتطبيق الشريعة وفقًا لمفهومها التاريخي في تجارب المسلمين، وذلك باعتبارها نموذجًا حياتيًا نابعًا من ثقافة المجتمع ومُعبّرًا عن تكوينه التلقائي.
وبما أن المملكة قامت أساسًا على مرجعية الإسلام، وطوّرت لاحقًا معارفها العلمية والعرفانية في إطاره، فإنها كانت تطبّق الشريعة بتعريفها المقاصدي الرحيب، الذي يشمل الأخلاق والعادات والمعاملات والعقائد والعبادات، أو كما عرّفها ابن تيمية:
«والصواب أن الشريعة جامعة لكل عمل فيه صلاح الدين والدنيا، وهو كتاب الله وسنّة رسوله، صلى الله عليه وسلم، وما كان عليه سلف الأمة في العقائد والعبادات والأصول والأعمال والسياسات والأحكام والعطايا.»
إعلانوبجانب كل هذا المدى المفتوح من المباحات، أضافت المملكة السنارية بُعدًا عرفانيًا في ثقافة المجتمع، قامت دعائمه على الطرق الصوفية.
لقد كانت الشريعة الغرّاء هي التعبير الطبيعي للمجتمعات في ممالك السودان الوسيط: سنار، وتقلي، والمسبعات، ودارفور.
وعلى الرغم من العزلة الجغرافية للسودان عن مراكز العالم الإسلامي الحضارية، وحداثة الإسلام فيه، فإن الحركة العلمية سرعان ما انتظمت تلك المجتمعات.
ففي مملكة سنار (كبرى هذه الممالك)، انفتح ملوكها على تعميق العلم الشرعي، ودعوة العلماء والفقهاء إلى الدولة الوليدة، وكان ظهور شخصيات كـغلام الله بن عائد، وأولاد جابر، ومحمود العركي، علامة مهمة في نشر الثقافة الإسلامية.
ثم جاءت الطرق الصوفية، ابتداءً من زيارة تاج الدين البهاري، والشيخ حمد أبو دنانة، وآخرين، في نهاية القرن السادس عشر الميلادي، وهو الأمر الذي جعل دعائم الإسلام تقوم على ساقَي الشريعة والحقيقة.
وفي مجال القضاء، تم إنشاء المحكمة الكبرى بسنار، والمحاكم الصغرى في أطرافها المختلفة.
وبجانب هذه المحاكم، كان هناك (قضاة الشريعة البيضاء)، وهم علماء متخصصون في الشريعة، يقومون بالفصل في الخصومات في البوادي والقرى بالشريعة فقط.
كما أن (قضاء الأجاويد) كان منتشرًا في ذلك الوقت، وهو أشبه بالتحكيم في زماننا.
ويقول محمد حسن المفتي في مؤلفه القيّم "تطور نظام القضاء في السودان":
"إن القضاة جميعهم من الرجال الصالحين، وكان كل منهم عالمًا عاملًا، عادلًا، ورِعًا، تقيًا، وشيخًا إسلاميًا، آمرًا بالمعروف وناهيًا عن المنكر، وقد اشتهر كل منهم بين قومه بالمروءة والوفاء بالعهد."
وما جعل الشريعة نظامًا للمجتمع والقضاء، هو أنها نشأت مستقلة عن سلطان الدولة، وكانت تعبيرًا طبيعيًا عن تلك المجتمعات التي اعتنقت الإسلام، فقام نظام حياتها وفقًا لشروطه.
إعلانكما أنهم عرفوا يقينًا أن:
"الشريعة لم تأتِ لتعيد تصميم النظام الاجتماعي – وهو ما فعلته الدولة الحديثة – بل أتت لتوجّهه على وفق ما يمكن أن يُسمّى العُرف والمَعروف، وكان هدفها إقامة العدل وإيجاد التناغم الاجتماعي اللذَين يُفضيان إلى تمكين البنى الاجتماعية من أداء مهماتها بسلاسة."
وهذا المعنى، الذي يؤكده وائل حلاق، كان حاضرًا في الوعي الاجتماعي والسلطاني في ممالك السودان القديمة، التي استمدّت روح تشريعها من مفاهيم الشريعة المستقرة في المعرفة الإسلامية وتجاربها في مجتمعات المسلمين.
ولذلك، لم تُحصر الشريعة في مجال القوانين فقط، وإنما جرى التعامل بها تلقائيًا في مجالات المعاملات والعقائد والقوانين.
ولعل تأثّر تلك الممالك بمذهب الإمام مالك، الذي يعظّم المقاصد والاستحسان وجلب المصالح وسد الذرائع – وخاصة في العقوبات والبيوع – قد يسّر للحكام والقضاة تمثّل الشريعة في الحياة العامة وفي القضاء.
ويُعزى تقبّل الشريعة من العامة ونجاحها في ذلك الوقت إلى أنها – أي الشريعة – لم تكن مجرّد نظام قضائي أو مذهب فقهي تنحصر وظيفته في تنظيم العلاقات الاجتماعية وتسوية النزاعات بين الناس، وإنما كانت ممارسة خطابية، ربطت نفسها بنيويًا وعضويًا بالعالم من حولها، وأنها نمت وترعرعت في قلب النظام الاجتماعي الذي أتت لتخدمه.
(وائل حلاق – ما هي الشريعة؟)
الشريعة كأيديولوجيابدأت أولى بوادر الخلاف والانقسام حول الشريعة في عهد الدولة المهدية، فقد ابتدأ المهدي دعوته بإلغاء المذاهب الإسلامية، وأضاف أصلًا جديدًا إلى أصول التشريع المستقرة عند المسلمين، وهو التشريع عن طريق: (الإلهام، والكشف، والهواتف، والحضرات).
فصارت مصادر التشريع هي: القرآن، والسنة، ومنشورات المهدي. وبذلك آلت رئاسة القضاء العليا إلى الإمام المهدي، على عكس ما كان عليه الأمر من استقلالية الشريعة كمنظومة مجتمعية، واستقلال القضاة والمحاكم في المملكة السنارية.
إعلانويُعتبر منشور قواعد الأحكام الصادر عن الإمام المهدي نموذجًا جيدًا لعقلية التشريع التي سادت خلال تلك الفترة وباستخدام المهدي وخليفته من بعده اجتهادهما القائم على المنشورات كمصدر ثالث للتشريع، بدأت عقيدة المهدية تظهر بوجهها الأبرز، مكوّنة ثقافة جديدة في سيرورة تطبيق الشريعة في السودان، وهي الثقافة القائمة على استيلاد أيديولوجيا محددة، أو فلنقل: نسق فكري خاص يقوم على فهم مخصوص للشريعة، يستمد حجّيته من تفسير المهدي ومن بعده خليفته للنصوص القرآنية والحديثية.
إذ بإسقاطهما إرث المسلمين الفقهي، الذي بُنيت قواعده عبر مسيرة طويلة من الاجتهاد، والذي ولد إطارًا فضفاضًا أعطى الشريعة استقلاليتها وحيويتها في مجتمعات المسلمين، فإنهما أسّسا لخلاف عميق في البنية الإسلامية، كانت نتيجته انفصال طبقة العلماء، التي نمت طوال عهد الحكم التركي المصري في السودان، عن المهدية.
بل وقادت هذه الطبقة ثورة تفسيرية مضادة، ترتكز إلى الفقه التقليدي المعروف بين جماهير المسلمين، لتحارب المهدية برؤية مضادة من داخل الدين الإسلامي.
ورغم هذه المعركة الحادة، ظل الخلاف بين الفريقين محصورًا حول الطريقة المثلى لتطبيق الشريعة الإسلامية.
كيف نشأ الصراع على الشريعةأحدث المستعمر الإنجليزي انقلابًا حقيقيًا في المجتمع السوداني، وذلك بهدمه بنيان الشريعة الذي ظل يحكم السودان قرونًا متطاولة.
وكعادة الاستعمار، كان الإنجليز يعتقدون أن الشريعة لا تصلح لإدارة الدولة الحديثة، بل إن المجتمعات التي جاؤوا إليها مجتمعات غارقة في الظلام، حسبما لخّص القس سبنسر تريمنجهام في كتابه "الإسلام في السودان":
"كان موقف البريطانيين منذ البداية اعتبار السودان شعبًا مستغَلًا متخلفًا."
ولذلك ابتدأ البريطانيون بتشريع قوانين حديثة جلبوها من الهند وبريطانيا، شيدوا بها نظامًا قضائيًا حديثًا.
لكنهم كانوا من المكر والدهاء بحيث لم يرغبوا في استفزاز المسلمين، فأقاموا نظامًا آخر موازيًا، لكنه أقل أهمية واهتمامًا، وأوكلوا إليه مهمة القضاء الشرعي للنظر في قضايا الأحوال الشخصية للمسلمين.
وهكذا نجح المستعمر في ترسيخ فكرة الثنائية في القضاء، وفي بذر النظرة الاحتقارية لكل ما مثّلته الشريعة من نظام ومصادر للتشريع.
بدأت معركة تطبيق الشريعة مباشرة بعد خروج المستعمر، بين نخبةٍ تشربت مبادئ القانون الغربي ونُظمه الأخلاقية، وبين طائفة إسلامية كانت ناشئة، تستشعر في نفسها ضعف البدايات، فلجأت إلى تحالف تتناصر به في مواجهة البيئة المتغرّبة، المتقوية بأجهزة الدولة وسلطانها.
وكان أهم ما ميّز الصف الإسلامي ميزتان ستكونان لاحقًا مجال الصراع حول الشريعة مع القوى العلمانية:
الميزة الأولى: اعتماد التيار المركزي عند الإسلاميين بشكل كلي على الدولة لإحداث التغيير الاجتماعي، وأن نظريته للإصلاح تقوم على التمكّن من السلطان السياسي، ومن ثمّ فرض الإصلاح من أعلى، بالتي هي أحسن أو حتى بالتي "هي أخشن" إن توفرت الفرصة لذلك.
وقد استند بعضهم في تبرير هذه الرؤية إلى أثرٍ ورد عن سيدنا عثمان بن عفّان وشاع عندهم على أنه حديث نبوي، وهو:
"إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن."
وعلى كلٍّ، فقد استشعرت النخبة العلمانية خطورة هذه الفئة، التي تريد منازلتها فيما تعتبره عقر دارها، وهو:
"تمثال الدولة الحديثة الموروثة من الإنجليز."
الميزة الثانية هي حصر المنازلة مع القوى العلمانية حول أطروحة الدستور الإسلامي والقوانين، أو فلنقل: حصر الشريعة في جانبها التشريعي؛ حيث تم توظيفها شعارًا لإحراج القوى السياسية، وخاصة تلك المستندة إلى طائفتي الختمية والأنصار بمرجعياتهم الإسلامية، ومناجزة الحزب الشيوعي الذي كان في قمة عنفوانه في ذلك الوقت.
وطوال الفترة التي أعقبت الاستقلال وحتى قيام ثورة مايو/ أيار في العام 1969، لم تكن الأطروحة واضحة عند الإسلاميين. ويؤكّد استعانتهم بسكرتير أبي الأعلى المودودي، ظفر الله الأنصاري، لوضع مسوّدة الدستور، أن الرؤية حول الشريعة لم تتبلور بعد.
إعلانعلى أن ذلك لم يكن سببًا عند الترابي لتأجيل المطالبة بتطبيق الشريعة، إذ يقول:
"ولا يصح تأخير نزول الحق حتى تتوافر كل المباحث العلمية التي تجليه، وتتهيأ من نفسها تصاريف الظروف، بل هدي الدين أن يُسارع إلى الحق ما بانت وجهته العامة، وإلى الخير ما ارتسمت معالمه الأساسية."
نواصل في الحلقة القادمة بحث تطورات الصراع حول الشريعة، وكيف تحوّل النزاع إلى صراع سياسي حاد، وُظّفت فيه الشريعة وقودًا، بينما كان التطور السياسي قد حسم وجهة البلاد منذ أن نصّ دستور العام 1973 على أن الشريعة الإسلامية مصدر للتشريع في السودان، وبعد توقيع الدكتور الترابي – وزير العدل حينها – على تقرير لجنة مراجعة القوانين في العام 1978، والتي وجدت أن 10% فقط من جملة 286 قانونًا راجعتها اللجنة، كانت بحاجة لتعديل بعض موادها لتتسق مع الشريعة الإسلامية.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات الشریعة الإسلامیة الدولة الحدیثة حول الشریعة فی السودان الشریعة فی ل الشریعة ی الشریعة نظام ا ما کان على أن
إقرأ أيضاً:
الحرب كارثة حاذقة قال تشرشل حذاري أن تهدرها
(ظل كثرٌ منا ينعون السودان لحروبه الطويلة الرديدة بينما تغيب عنهم إرادتنا بها وبالتفاوض خلالها عزائمنا لبناء دولة أمة في ظرف دولي كاد يلغي الدولة الوطنية من فرط حصاره لها”.
قال ونستون تشرتشل “لا تضع هدراً كارثة حاذقة أبداً”. والحرب على رأس هذه الكوارث الحاذقة بالطبع. وبدا أن القوى التي تدعو إلى “لا للحرب” من يضيع كارثة حربنا الحاذقة. فهي عندهم “عبثية” و “لعينة” بما يعني خلوها من معنى كان بالإمكان أن يقع من دونها. فاتفقت، وهي تتهيأ لاجتماع الرباعية التي انتدبت نفسها لوقف الحرب باجتماع تأجل في واشنطن الثلاثاء الماضي، أن يتعاقد الاجتماع على استبعاد القوات المسلحة وقوات “الدعم السريع” وأية تكوينات عسكرية أخرى نهائياً من السلطة في الحكومة الانتقالية لما بعد وقف الحرب. واستعجب خالد كودي، الناشط في الحركة الشعبية لتحرير السودان (جناح عبدالعزيز الحلو) للمطلب وتساءل إن كان الجيش و”الدعم السريع” دخلا إلى ساحة الوغى “من الباب العارض”. فغير خافٍ أن قوى “لا للحرب” سبقت إلى تصميم الحكومة الانتقالية قبل أن تتبين لها منازل كل من القوتين في ترتيبات السلام الموعودة. فمطلب هذه القوى أن تخلو الساحة من مثيري “الشغب” السياسي، وهما الجيش و”الدعم السريع”، عودة بسيطة لتاريخ للثورة سبق الحرب، قيل فيه إن الحرب جاءت “في جوهرها لتصفية ثورة ديسمبر المجيدة وقبرها وقطع الطريق أمام ابتدار مسار تحول مدني ديمقراطي حقيقي، يحقق غايات الثورة في السلام والحرية والعدالة”. فالحرب، التي كثيراً ما قيل أنها اندلعت للقضاء على ثورة أرادت بناء دولة أمة تسع الجميع كما يقولون، ليست عبثية بل هي كارثة حاذقة لا يصح التبذير فيها جزافاً.
ويجري تصوير السودان على أنه بلد في حال حرب أزلية مع نفسه منذ استقلاله، أو ربما قبيله. وهو تصوير كاد يجعل الحرب من حادثات الطبيعة، أي إنها في الجينات الوراثية، لا في تدافع سياسات المجتمع. وانطوى جمع من الصفوة على هذه الصورة عنه وعن بلده. ولهم عبارة تقليدية كلما اضطرب الأمر، “السودان انتهى”. فلا يرون من هذه الحرب التي نصدر فيها عن جينات بكماء إلا ضلالةً لا ضرباً من وعثاء بناء دولة ما بعد الاستعمار التي تركها وقد نجرها لغاياته بالعنف كيفما اتفق له وليرث الوارث “رعية” لا “موطنين”، بل ما تعذر على هذه الصفوة رؤيته حقاً أنها لم تكف هي نفسها حرباً وسلاماً عن التفاوض حول السوية في الوطن المستقل. فاضطلعوا بثلاث ثورات أعوام 1964 و1985 و2018 لإنهاء نظم ديكتاتورية صادرت بقوة السلاح القرار حول ما تكون عليه الدولة وهويتها. فهذه الثورات هي ذرى الإرادة للعيش معاً، في تعريف الفيلسوف إرنست رينان للأمة. فالثورة في السودان هي الإرادة الوحيدة لعيش السودانيين في أمة. وهي بهذه الصفة مما يسميه علماء السياسة الطاقة التي تتنادى بها الأمة إلى مركز “centripetal” في حين أن الحكومة فينا، وقوى الثورة المضادة التي سادت فيها، هي الطاقة المنفرة من المركز “centrifugal”. ووجدت أفضل تقريب في اللغة العربية للمفهومين في فقه الوضوء للصلاة. فالطاقة الأولى هي الاستنشاق أي جذب الماء بالنفس إلى باطن الأنف بينما الطاقة الثانية هي الاستنثار وهي إخراج الماء من باطن الأنف ليرشح حيث شاء.
ومن بين من لم يرَ من الحرب سوى خيبتنا، خالد عمر يوسف القيادي في “صمود”، فأصابه السقم من الدولة نفسها. واحتكم في ذلك لمؤشرات عالمية عن بؤسنا، فأزعجه أن مؤشر الدول الهشة صنّف السودان كثاني الدول هشاشة في العالم لعام 2024. وليس مستغرباً أن تعجز الدولة في عام حرب كذلك العام عن “تقديم السلع والخدمات السياسية الأساسية إلى مواطنيها، بما فيها فقدان السيطرة على أراضيها والعجز عن توفير الأمن وتراجع شرعية الحكومة وانهيار الخدمات العامة وصعود النخب المتنازعة أو التدخل الخارجي” وهي صفات الدولة الهشة. ويلحن خالد عمر يوسف بحجته هذه في وجه من دعوا إلى محاربة قوات “الدعم السريع” حتى تخلص الدولة إلى المدنية والحداثة التي لا تكون بوجودهم فيها بأية حال من الأحوال. وبدا من يوسف أنه ممن يرى في حروبنا فشلاً لا خوضاً وعراً في بناء الأمة الدولة. ومن دعا إلى الدفاع عنها بوجه قوة في مثل “الدعم السريع”، في رأيه، كمثل مَن بيت على ذهابها. ويستغرب المرء أن يشمل تعريف الدولة الهشة نزاع الصفوة التي هي، تعريفاً، حاملة الرؤى المختلفة لما تريد لبلدها وبؤرة للخلاف حوله. وهو اختلاف حميد مما يحدث في الدولة الديمقراطية لا مشاحة وله فقهه وإجراءاته. وجاء صراع الرؤى هذا في كلمة أخيرة للفيلسوف الفرنسي برنار-هنري ليفي عن حرب السودان. فقال إنها ليست حرب جنرالين، وليست حرباً إثنية قبائلية. في واقع الحال إنها، في قوله، انقسام حقيقي بين رؤيتين لمستقبل البلاد.
وإذا استنكرنا حربنا خلال بناء الأمة الدولة، فكأننا استنكرنا الأمة الدولة نفسها، فهي الكائن الذي ولد أول ما ولد في رحم الحرب. وسارت في الناس عبارة تشارلز تيللي (1929-2008)، أستاذ علم الاجتماع ورائد دراسة تكوّن الأمة الدولة الأوروبية “الأمم تخوض الحروب والحرب تبني الأمة”. فليس من أمة على بسيطة الغرب لم تولد من حرب: حرب الـ30 عاماً في أواسط أوروبا (1618-1648)، الحرب الأهلية الإنجليزية (1642-1651)، الحرب الأهلية الفرنسية (1562-1598)، والحرب الأهلية الأميركية (1861-1865)، والحرب الأهلية الإسبانية (1936-1938). وكانت حروباً عالية الكلفة، ولكنها وقعت وعين العالم، من جهة الحكم على أخلاقيتها وطبائع من خاضوها، غافلة. فلم تكُن فيهم أمم متحدة التي نشأت بعد الحرب العالمية الثانية لتسائل الدولة المنتسبة لها عن كل حركة في إدارتها لشأن أمتها حتى صارت فيها مفوضية لحرية التعبير وأخرى لمنع التعذيب. وفي سياق مراقبة العالم الدقيقة لشأن الدولة مع أمتها كتب صحافي زار غينيا الاستوائية عن انحجاب شيوع الفساد والاستبداد فيها عن العالم بسبب أنها بلد صغير لا يعرفه كثير من الناس، وقد لا يكترثون لمعرفته. فبوسع طبقته الحاكمة، في قوله، فعل ما بدا لها في أهلها غير آبهة لأنه ما من أحد في العالم يراقب مجرياتها. ولا يقول المرء بهذا مستنكراً الحساسية الدولية للحقوق بالطبع، ولكن ليقرر بلا واقعية أحكام القيمة عنا ونحن نحارب في بناء الأمة الدولة التي تُعتبر الحرب حقيقة من حقائقها. فجاءت أوروبا لبناء الأمة الدولة والعالم في شبيبته فسرها وجئناه على الهرم.
ويأتي الهدر للكارثة الحاذقة من باب تسويق “لا للحرب” لخصومتها مع الإسلاميين. فظلت “قوى الحرية والتغيير” وبمسمياتها العاقبة تسوّق لمواقفها ضد الإسلاميين لمن نشدت تضامنهم معها بما اتُفق لهم من مخاوف من الإسلاميين في نطاقهم. وجاء القيادي في “صمود” بكري الجاك بطائفة مما ينطوي الإسلاميون عليه من مفازع، طالما جاءت أميركا الرئاسية لمسألة السودان، ليسوقها على نهج المعاملات للرئيس ترمب. فقال إن السودان، بعلاقاته مع إيران بعد فقدانها نفوذها في سوريا ولبنان، وبتأثير “الإخوان المسلمين” في حكومة بورتسودان، سيكون منصة لها في شرق البحر الأحمر مما سيقلق أميركا وإسرائيل. ومما سيقلق أميركا بخاصة هو نفوذ روسيا التي ترمي عينها على امتلاك قاعدة على البحر الأحمر في السودان، ناهيك عن تعاظم نفوذها في غرب أفريقيا عند حدود السودان بعد مغادرة فرنسا لتلك المناطق. ثم جاء بكري بمفازع الإرهاب من “الإخوان” في السودان الذي سيجعلونه واسطة العقد بين الجماعات الإرهابية من غرب أفريقيا وشرقها.
وهذا التربح من التفزيع من الكيزان يهدر كارثتين ناصعتين من تلك التي حذر تشرتشل ألا تهدرهما أبداً وهما “دولة الإنقاذ” في السودان والحرب التي جاءت في أعقاب سقوطها. ولا يقول المرء بهذا شفقة بـ”الإخوان المسلمين”، ولكن لأن السودان ربما كان الدولة الوحيدة دون غيرها التي خضعت لحكم جماعة “الإخوان المسلمين” لثلاثة عقود، وقضى السودانيون عليها مصابرة وسلمياً. فهم، بعبارة، بيت الخبرة في شأنهم. لم تتورع معارضة “الإنقاذ” خلال دولتها من توظيف كارت “الإرهاب”، وكسبت دولاً، إلا أن كلاً منها عاد للتعاطي معها في توقيته الخاص. ولم تستغل “الإنقاذ” شيئاً لكسبهم أو تحييدهم في حين استكثرت ذلك على شعبها فمكر عليها وهو خير الماكرين. ويأتي الإهدار هنا من اختلاق عاهة للكيزان للسوق بينما ربما ما كانت في آخر اهتمامات من قاومها من السودانيين. فكانت “الإنقاذ” من بين حكومات سلفت محافِظة (دولة الفريق إبراهيم عبود 1958-1964) ويسارية ووسطية ودينية في مغرب عمرها (دولة الرئيس نميري 1969-1985) من التي قلنا إنها عطلت، باحتكارها القرار السياسي، الإرادة الوطنية في تكييف دولة ما بعد الاستعمار تكييفاً جاذباً لكل من رغبوا في دولة للمواطنة في مركز البلاد وهوامشها. ولم يحل فصل الدين عن السياسة خلال نظامَي عبود وغالبية نظام نميري مما لم تحل دونه دينية الدولة تحت “الإخوان المسلمين”. وهو فرض دولة قابضة صعر الملك الجبار فيها خده فخرجت له الأمة بـ”السيوف تعاتبه”. وعرف الناس خلال مقاومتهم لسياسات “الإنقاذ” وتشريعاتها، وعن كثب منزلة الدين من المعاد والمعاش كما لم يتوافر لغيرهم. وتنزل عليهم ذلك تقى ووعياً بالأمة الدولة الرحبة.
وأكثر أبواب إهدار الكارثة الحاذقة خلال الحرب القائمة في المفارقة التي تكتنف قوى “لا للحرب” حيالها. فالحرب عندهم عبثية وهي سليلة حروب قامت فينا منذ استقلال السودان. وحملت تلك الحرب التي ما هدأ “أوراها”، كثيراً من السودانيين للسقم من أنفسهم ذاتها ومن بلدهم. وتجد أن جماعة “لا للحرب” من الجانب الآخر أعطوا الحرب معنى في أخص عناوينهم وهو ثورة ديسمبر 2018. فاندلعت الحرب في روايتهم بفعل “المؤتمر الوطني وحركته الإسلامية وواجهاتهما… ويعملون على استمرارها” للقضاء على ثورة ديسمبر حتى يعودوا للحكم. ولا يعرف المرء كيف تصالحت “لا للحرب” مع هذه المفارقة وهي كمن يتحدث من جانبي فمه. فمن أين للعبث أن يداخل حرباً لم تعين المتهم بإشعالها وحسب، بل عينت هدفه من ورائها بدقة متناهية؟ وكيف تجعل من وقف الحرب مطلباً وخصمك لن يرضى من دون العودة للحكم بديلاً مما وصفوه برغبته في استمرار الحرب للغاية؟ ومن دون ذلك عندك خرط القتاد.
ظل كثرٌ منا ينعون السودان لحروبه الطويلة الرديدة بينما تغيب عنهم إرادتنا بها وبالتفاوض خلالها عزائمنا لبناء دولة أمة في ظرف دولي كاد يلغي الدولة الوطنية من فرط حصاره لها. وصارت حالنا حال الفتاة والذئبين. قيل إن فتاة ما ظلت ترى ذئبين يتعاركان في حلمها، فأطلعت والدها على شقائها بهذا الحلم المتكرر، فقال لها في تفسيره إن الذئبين يمثلان قوتين واحدة للشر والأخرى للخير. فسألت الفتاة ومن سينتصر على الآخر؟ قال والدها، الذي تطعمينه! وظللنا نطعم استياءنا من الحرب لا عزائمنا أن ننفذ بجرأة إلى أمة دولة حديثة.
عبد الله علي إبراهيم
إنضم لقناة النيلين على واتساب