تابعتُ بشغف بعضا من فعاليات المؤتمر الدولي الأول للاستشراق: "الاستشراق الجديد، نحو تواصل حضاري متوازن"، والذي نظمته عدة جهات حكومية قطرية، من بينها وزارة التربية والتعليم والتعليم العالي"، خلال يومي 26 و27 نيسان/ أبريل الماضي. وأسعدني تنوع الحضور خاصة الأكاديميين من أنحاء العالم؛ وأيضا الانفتاح على طرف من المؤسسات الغربية المعنية بالأمر مثل "جامعة ليدن" الهولندية، وأيضا كان مما يبهج الوعدُ الواضح بعقد الدوحة المؤتمر سنويا مع تناول محاور أخرى؛ فإننا بهذا كمسلمين طالما دار علم الاستشراق حولنا وحان لنا أن نعتني بهذا العلم؛ ونحاول بذل ما نستطيع حوله، مخالفين بهذا النمط المعتاد عن هذا العلم من الاهتمام الغربي له، ومنه المؤتمرات التي اعتاد الغرب عقدها في عواصمه منذ عام 1873م في باريس.
ونرى هذا ضلع المثلث الرئيس الأول الذي نراه مكونا لتقدمنا في هذا المجال، أما الثاني فهو صدق عزيمتنا في سبر أغوار نظرة الغرب نحونا -أيا ما كانت- وهو ما نراه يستلزم نهضة في الجانب الآخر الواجب من النهر ألا وهو "الاستغراب"، أو دراسة الغرب دراسة تتناسب مع رغبتنا في معرفة أسرار تقدمه، ثم قدرتنا على مجاراته حتى في محاولته الإلمام بأحوالنا؛ وذلك حرصا على أن تجري أسفله مياه كثيرة في صالحنا. ويبقى الضلع الثالث الذي نراه لا يقل أهمية عن سابقيه بل لعله يفوقهما.
فغني عن التفصيل أن موقع الشرق الجغرافي يتضافر مع تاريخه وحضارته العربية الإسلامية التي سادت العالم؛ وإن لم تخل من المظالم -بدرجات- إلا أنها كانت خير حافظ وأكثر رحمة بالعالم كله، ومن هذا عدم بخل هذه الحضارة بما وصلت إليه من معارف، بل أتاحته للغرب، فتشرّبه ونبَغَ، وبنى حضارة عظمى على أسسها، وإن كان يحاذر "الدوران الحضاري" وعودة السيادة لموضع شروق الشمس لدينا حتى اليوم.
وإن كنا نقر بأن هذا ليس الغرض الغربي الوحيد من الاستشراق، إلا أننا لا ننكره في المقابل، ونقر برغبته التي ما تزال متقدة بمعرفة كنهنا، وبماذا نختلف عنه، وهل نظل نراوح أماكننا أم نفارقها. وفي هذا السياق نتقبل عقد نحو35 مؤتمرا عن الاستشراق منذ عام 1873م حتى 1997م؛ وعلى مدار جميع هذه المؤتمرات لم تستقبل عاصمة عربية فعاليات أحدها سوى الجزائر في النسخة الـ14 منه، وكانت هذ أول مرة تعقد خارج أوروبا، وغني عن البيان أنها كانت تحت الاحتلال وقتها؛ فلم يكن الأشقاء هناك يملكون القرار بعقده فضلا عن الاستفادة منه، أما المرة الثانية التي يعقد في بلد مسلم وإن كان غير عربي فهي في النسخة الـ22، حيث عقد في إسطنبول التركية عام 1951م. وفي جميع الأحوال نشطت الجمعيات الاستشراقية بين أمريكية وفرنسية وبريطانية وما تزال.
يُحمد للدوحة الاهتمام بهذا التوجه الذي يجب أن تتبعه معاهد عربية وإسلامية تدرس كيف يرانا الغرب أو "الآخر" بلغة بعض مفكريه التبادلية، فنحن لديه "آخر"، وهم يظنون أننا لديهم "آخر"؛ نعم نحن بحاجة لنفي خطاب المتطرفين الغربيين والداعين للقضاء على معارضي استمرار الحضارة الغربية -وهذه النزعة الشعوبية غير خافتة سياسيا- وما نعانيه كعرب ومسلمين خاصة كأقليات، واستمرار احتلال فلسطين العزيزة رغم انتهاء الاحتلال المباشر من العالم كله، فضلا عن تولي رئاسة أمريكا "دونالد ترامب" للدورة الثانية، ولكننا في جوهرنا وحقيقة ديننا دعاة سلام وعدل للعالم، وهو أمر يعرفه الغرب، وتثبته الدوحة منذ نسخة مؤتمر الاستشراق، ويبقى أن نبادر بدراسة الغرب دراسة علمية على أسس منهجية وافية لنعرف فيم وكيف تفوق علينا، كما فعل معنا في أوج تأخرنا، وقبل أن ندري كنه موقعنا الحضاري قرب نهاية القرن دراسات العشرين.
توقف المذيع الغربي في إحدى فقرات حفل ختام مؤتمر الدوحة للاستشراق سائلا رئيس الجامعة الأمريكية في القاهرة ورئيس إحدى فروع الجامعات الغربية في الدوحة وهما مصريايا متسائلا عن اللغة التي يجب أن يتحدث بها؛ أهي العربية، ثم مضى بلغة التكنولوجيا، أو كما قال في لفظة تبدو عابرة جرت على لسانه ثم مضى بالإنجليزية متسائلا: هل أنتم -حقا- مستعدون لمعرفة وجهة النظر الغربية عنكم أو ما يراه الأشرار عن الأخيار؟ فيما بدأ الأول بالدفاع عن "وجهة النظر الغربية" وأنها ليست كذلك، وتجاوز الثاني لمجهودات الراحل إدوارد سعيد في الاستشراف، وعلق السؤال بالذهن: متى يكتمل المثلث؟!
إننا مطالبون عالميا بملاحقة دراسات الغرب عنا (الاستشراق)، ومطالبون بنفس النهج والقدر -ثانيا- على الأقل بألا نكون مدافعين على طول الخط، أي أن نبرع في علم "الاستغراب"؛ وهذا ضلع المثلث الثاني الذي لا يتأتى أبدا في ظل غياب الضلع الأول، أما الثالث فهو تقدمنا حضاريا لنبرع في الدارسات، ونملك ما يجعل العالم يحترمنا عبره، وهو ما يستحق مواجهات تحديات موقفنا الحالي الحضاري، ويدعو لتماسك العالم العربي الإسلامي أولا، وهو ما يفوق موقف الدوحة الحالي، وإن تمنينا أن تساهم فيه كما نجحت في تنظيم مؤتمر الاستشراق!
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات قضايا وآراء كاريكاتير بورتريه قضايا وآراء المؤتمر الاستشراق الغربية الحضارة مؤتمر الغرب مسلمين حضارة استشراق قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء سياسة مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة مقالات سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة
إقرأ أيضاً:
زيارات كييف المتكررة.. هل يمهد الغرب لمواجهة كبرى ترفضها موسكو؟
عادت العاصمة الأوكرانية كييف إلى واجهة المشهد الدبلوماسي الأوروبي، مع تكثف زيارات القادة الأوروبيين في الأسابيع الأخيرة، وسط تصعيد متواصل في الحرب الممتدة منذ أكثر من ثلاث سنوات.
وبينما تصف العواصم الغربية هذه الزيارات بأنها تعبير عن التضامن والدعم السياسي والإنساني، تعتبرها موسكو دليلًا إضافيًّا على انخراط أوروبا في "حرب بالوكالة" ضد روسيا، وتوظفها لصالح أوكرانيا في صراع جيوسياسي متصاعد.
وجهة النظر الروسية: مؤامرة غربية مغلفة بالدبلوماسية
تُشكك موسكو في نوايا الزوار الأوروبيين، وترى في زياراتهم رسائل سياسية تستهدف رفع معنويات كييف المنهكة. وتعتبر القيادة الروسية أن أي حديث عن وقف لإطلاق النار -حتى وإن كان مؤقتًا- ما هو إلا وسيلة لإعادة تموضع الجيش الأوكراني وتجديد موارده.
وترفض موسكو أي تسوية لا تضمن انسحاب الناتو من محيطها الإقليمي، أو تُبقي على خطوط تماس لا تتوافق مع مكاسبها الميدانية.
وفي هذا السياق، تبعث روسيا برسائل واضحة تؤكد مضيها في العملية العسكرية، وتروج عبر إعلامها لهشاشة الموقف الأوروبي وتآكله، سياسيًا واقتصاديًا، في ظل استمرار الحرب.
كييف: رسائل دعم في توقيت حساس
في المقابل، تنظر أوكرانيا لهذه الزيارات بوصفها ضرورية لإعادة الزخم إلى دعم غربي بدأ يتراجع تدريجيًا، خاصة مع تصاعد النقاشات في أوروبا حول كلفة الحرب. وتُصرّ كييف على أن أي حل سياسي يجب أن يُبنى على انسحاب روسي كامل وضمانات أمنية، لا على تجميد الصراع.
التباين الأوروبي واضح. فدول أوروبا الشرقية، مثل بولندا ودول البلطيق، تواصل الضغط لتصعيد الدعم حتى "الانتصار الكامل"، بينما تميل عواصم مثل برلين وباريس إلى خيارات أكثر واقعية، تعكس تململًا داخليًّا من استمرار الحرب.
وفي هذا السياق، أثار كشف بريطانيا عن خطة طوارئ سرية لمواجهة هجوم روسي محتمل جدلًا واسعًا حول احتمالية توسيع موسكو لحربها. لكن مراقبين، من بينهم الكاتب المقيم في موسكو سعد خلف، يرون أن الحديث عن هجوم مباشر على بريطانيا أو ألمانيا يدخل في إطار التضخيم السياسي والدعائي، وليس على أجندة القيادة الروسية الحالية.
روسيا والغرب: صراع ممتد دون مواجهة مباشرة
يؤكد خلف، في تحليله المبني على متابعة دقيقة للخطاب الرسمي الروسي، أن موسكو لا تسعى لمواجهة عسكرية مباشرة مع دول الناتو الكبرى. بل إنها تركز على حماية مجالها الحيوي، وردع توسع الحلف نحو حدودها. كما يرى أن التهويل من "الخطر الروسي" يخدم أهدافًا غربية تتعلق بتبرير رفع ميزانيات الدفاع وتوحيد الرأي العام الداخلي.
في النهاية رغم أن الحديث عن مواجهة شاملة يبدو مستبعدًا في المرحلة الحالية، إلا أن زيارات القادة الأوروبيين إلى كييف تعكس إدراكًا بأن الحرب دخلت مرحلة جديدة أكثر تعقيدًا.
وبينما تتجنب روسيا المواجهة المباشرة، فإن أوروبا تسير على خيط رفيع بين دعم أوكرانيا وتجنب الانزلاق إلى صدام مباشر مع موسكو. ويبدو أن مرحلة "الصراع البارد المفتوح" باتت واقعًا يصعب تجاهله.