أحداث دمشق 1860 تقلبات الفردوس والجحيم في قصة مذبحة وتعاف
تاريخ النشر: 13th, May 2025 GMT
في العام 1860 شهدت منطقة جبل لبنان ودمشق صراعا طائفيا داميا بين الموارنة والدروز، تطور إلى مجازر واسعة النطاق، بدأت الأحداث بانتفاضة الفلاحين الموارنة في كسروان ضد الإقطاعيين الذين كان أغلبهم من الدروز، وسرعان ما انتقل لهيب الصراع الطائفي الدامي لدمشق لتقع أحداث دامية فيها أدت لتدخل دولي.
وصدر حديثا للمؤرخ والأكاديمي الأميركي المعروف يوجين روغان كتاب "أحداث دمشق: مذبحة 1860 وتدمير العالم العثماني القديم" (The Damascus Events: The 1860 Massacre and the Destruction of the Old Ottoman World).
يستعرض الكتاب صورة بانورامية لدمشق في منتصف القرن الـ19، كمركز سياسي وتجاري، وكبوتقة تفاعل فيها نسيج اجتماعي وديني معقد. يستعرض روغان تفاصيل الحياة اليومية في الأحياء المختلطة، وشبكة العلاقات المتداخلة بين الطوائف، موضحا كيف كانت آليات التعايش التقليدية قائمة رغم وجود تراتبية اجتماعية واضحة. لكنه ينبه إلى أن هذا التوازن الهش كان قد بدأ بالتآكل تحت وطأة التغيرات المتسارعة التي فرضتها الإصلاحات العثمانية التي عرفت بـ"التنظيمات" والتدخل الأوروبي، مما جعل المدينة أرضا خصبة للاستقطاب.
إعلانيسرد الكتاب قصة من الماضي، لكنه لا يكتفي بها بل يقدم، كما يقول روغان في مقابلة صحفية، "مسارا بطيئا لكنه ممكن للعودة من حافة الإبادة". يستند روغان – أستاذ مادة تاريخ الشرق الأوسط الحديث، ومدير مركز الشرق الأوسط في كلية سانت أنتوني التابعة لجامعة أكسفورد- في عمله البحثي الاستثنائي هذا إلى أرشيف منسي أعاد إحياءه، معتمدا بشكل لافت على يوميات وتقارير قنصلية، فرنسية وبريطانية، نادرا ما استُخدمت سابقا، بالإضافة إلى وثائق عثمانية وعربية أضفت على بحثه ثقلا تفتقر إليه كثير من الدراسات الغربية عن المشرق.
نقطة البداية كانت اكتشافا مثيرا في "الأرشيف الوطني" بواشنطن، حيث عثر المؤرخ على دفاتر نائب القنصل الأميركي ميخائيل مشاقة، وهو أحد الناجين من المذبحة. يصف روغان لحظة الاكتشاف قائلا: "كنت أرتعش وأنا أقلّب الصفحات، شعرتُ أن يدا افتراضية تعبر الزمن". هذه الوثائق شكلت النسيج الذي نسج منه فصول الكتاب، الذي يهدف، كما تقول دار بنغوين، إلى "إعادة تكوين عالم مفقود تحت ضغط العولمة الإمبريالية والتجارة الأوروبية".
وليست مفردات الاستعمار والتجارة بعيدة عن أحداث المقتلة، فقد بدأت الأحداث بثورة الفلاحين الموارنة على الإقطاعيين وملاّك الأراضي من الدروز الذي ردوا بهجوم مضاد في لبنان، وفي تلك الحقبة برزت بيروت كميناء يصل أوروبا مع مدن سورية مثل دمشق، ولعبت المجتمعات المسيحية الدمشقية دورا كبيرا كمترجمين ووكلاء تجاريين وبرزت منهم طبقة ثرية على حساب التجار المسلمين والحرفيين الذين فقد بعضهم عمله بتأثر صناعة النسيج المحلية وانخفاض الانتاج المحلي وغلق الورش، ووضع كثير من السكان المحليين اللوم على القوى الأوروبية جراء كل ذلك.
تصدعات ما قبل المقتلةفي الأجزاء الأولى من الكتاب، يرسم روغان خريطة التصدعات الاجتماعية والاقتصادية التي سبقت المذبحة، والتي تفاقمت بفعل إصلاحات التنظيمات العثمانية ومرسوم خط همايون عام 1856 (إصلاحات قانونية عثمانية شملت المساواة بين مواطني الدولة بمختلف أديانهم وأعطت امتيازات للرعايا الأجانب).
إعلانويوضح المؤلف كيف "بدت المساواة تحت القانون رمادا يُذرّ على الهيبة العثمانيّة"، مسلطا الضوء على تحول السوق الدمشقي إلى حلبة منافسة قاسية بين التجار المسيحيين الصاعدين -المدعومين أحيانا بامتيازات أوروبية- والمسلمين الذين خشوا التهميش.
ومع انتشار شائعات الحرب الأهلية بين الدروز والموارنة في جبل لبنان، وصلت التوترات الطائفية إلى ذروتها. يسجل روغان أنه "بحلول 1860 لم تكن الكراهية بحاجة إلا إلى شرارة لتتحول عنفا".
اندلعت الشرارة صباح التاسع من يوليو/تموز 1860. يقتبس روغان صرخة الغوغاء أمام القلعة: "لنُنْهِ المسيحيين، لنبِدهم". خلال 8 أيام دامية، احترقت نحو 1500 دار، وقُتل ما يقارب 5 آلاف مسيحي، وفقا لحصيلة يستند فيها الكتاب إلى دفاتر الخزينة العثمانية. ينقل الكتاب رسالة مؤثرة من مشاقة إلى قنصل الولايات المتحدة في بيروت يصف فيها نجاته: "هاجمنا مثاوِلةُ الحيّ… ضُربتُ على رأسي بفأس وسُحِقَت عيني، لكن صديقا مسلما أنقذني".
ويشرح الكتاب كيف شكلت هذه الأحداث تحديا متزايدا للدولة العثمانية في سعيها للحفاظ على سيادتها وتطبيق إصلاحاتها في وجه ضغوط داخلية وخارجية متصاعدة.
وسط هذه الفوضى الدامية، يبرز الدور البطولي للأمير عبد القادر الجزائري (الذي كان مقيما في دمشق آنذاك بعد نفيه من وطنه الجزائر)، حيث سخّر الأمير مقاتليه لحماية الأحياء المسيحية، وأنقذ، بحسب تقديرات روغان، أرواح ما يصل إلى 10 آلاف شخص من عنف الغوغاء. يؤكد روغان أن هذا الفصل تحديدا يبيّن أن المذبحة كانت "لحظة إبادية لا تُختزل في ثنائية مسلم-مسيحي"، إذ نجا نحو 85% من مسيحيي دمشق بفضل حماية جيرانهم المسلمين ونخب المدينة.
View this post on InstagramA post shared by الجزيرة الوثائقية (@aljazeeradocumentary)
يخصص المؤلف مساحة واسعة لتحليل تدخل الصدر الأعظم فؤاد باشا، مبعوث السلطان العثماني الذي وصل إلى دمشق مزودا بسلطات استثنائية، ويقول إن فؤاد باشا تحرك بحزم وأنشأ محاكم خاصة قامت بمحاكمة المتورطين من مختلف الشرائح الاجتماعية والعسكرية (بما فيهم مسؤولون كبار)، وفرض عقوبات صارمة شملت إعدام مدانين، ودفع تعويضات للمتضررين، وقاد ورشة إعادة إعمار واسعة أعادت فتح الأسواق وبناء المدارس، ويؤرخ الكتاب لذلك التاريخ باعتباره بداية نهضة وازدهار للمدينة، بحسب المؤلف.
إعلان رحلة تعافوبفضل هذه الإجراءات السريعة والفعالة، استعادت المدينة عافيتها، وباتت، على حد تعبير روغان، "تنظر إلى المستقبل بحلول عام 1888".
وتتحدى رواية روغان هنا أسطورة "الرجل المريض" التي وُصمت بها الدولة العثمانية، مبرزة كفاءة الإدارة العثمانية وقدرتها على فرض العدالة والتعافي السريع. يعلق روغان بأن الكتاب "ينقسم إلى نصفين: كيف نبلغ الهاوية، ثم كيف نرجع منها".
لا يكتفي الكتاب بالتوثيق والسرد، بل يقدم أطروحة أوسع مفادها أن الطائفية في المشرق ليست جوهرا ثابتا، بل هي وليدة حداثة مرتبكة وإصلاحات قانونية وانكشاف اقتصادي على السوق العالمية زعزع التراتبيات التقليدية. ويرى أن التعايش ممكن حين تمتلك الدولة سلطة شرعية تفرض من خلالها العدالة على الجميع.
حظي الكتاب بإشادات واسعة من النقاد، خاصة أن السرد التاريخي الذي يقدمه روغان اعتبر جسرا للقراء غير الأكاديميين، ويقدم الكتاب خلاصات تاريخية مثل تأكيد المؤلف أن اللحظات المفصلية لا تولد من فراغ بل هي نتاج تراكم سلسلة طويلة من الأحداث.
ومع ذلك، لم يسلم الكتاب من النقد، حيث أُخذ عليه تضاؤل حضور الفئات المهمشة، كالمجتمعات الحرفية، مقارنة بالتركيز على دور النخب السياسية والعسكرية والوجهاء. كما رأى بعض القراء أن عدم توسيع المقارنة لتشمل أحداث عنف أخرى في القرن الـ19، مثل تلك التي وقعت في الهند البريطانية أو القوقاز، قد قلل من فرصة إضفاء صبغة عالمية مقارنة على ظاهرة العنف الطائفي في تلك الحقبة الدامية التي شهدت فيها أجزاء مختلفة من العالم حوادث عنف شبيهة على خلفية تدخلات استعمارية.
ولفت الكتاب الانتباه إلى قضية الذاكرة المنقسمة حول أحداث 1860 وكيفية تفسيرها لاحقا من قبل الطوائف المختلفة والقوى الخارجية. يشير روغان إلى تباين الروايات حول أسباب المذبحة ودور الأطراف المختلفة فيها، وكيف تم توظيف هذه الأحداث تاريخيا لخدمة أجندات سياسية وطائفية مختلفة، سواء لتبرير التدخل الأوروبي أو لتعزيز الهويات الطائفية المنغلقة، مما يعقد عملية التصالح التاريخي ويُبقي على جراح الماضي مفتوحة في الذاكرة الجماعية للمنطقة.
إعلانوفي خواتيم الكتاب يؤكد روغان أن تجربة دمشق المريرة والتعافي المدهش الذي تلاها تحمل درسا أخلاقيا معاصرا. فالمجتمعات قادرة على تجاوز أعمق الشروخ الطائفية متى توفرت الإرادة السياسية والعدالة والإنصاف والذاكرة المشتركة التي لا تستثني أحدا.
المصدر: الجزيرة
إقرأ أيضاً:
هيئة الكتاب تُعيد إصدار مسرحية «الناس اللي فوق» لـ نعمان عاشور
أصدرت وزارة الثقافة مؤخرا، متمثلة في الهيئة المصرية العامة للكتاب، برئاسة الدكتور أحمد بهي الدين، طبعة جديدة من المسرحية الشهيرة "الناس اللي فوق" للكاتب المسرحي الكبير نعمان عاشور، أحد أعلام المسرح الواقعي في مصر والعالم العربي، وذلك في إطار سعيها الدائم لإحياء التراث الأدبي والمسرحي المصري.
تأتي هذه الخطوة ضمن مشروع الهيئة لإعادة نشر أبرز الأعمال الكلاسيكية التي ساهمت في تشكيل الوعي الثقافي والاجتماعي للأجيال السابقة، وتهدف إلى تعريف القراء الجدد بهذه النصوص المهمة، التي ما زالت تحمل في طياتها دلالات اجتماعية وثقافية عميقة رغم مرور عقود على كتابتها.
تُعد "الناس اللي فوق" واحدة من أبرز أعمال نعمان عاشور، وقد كُتبت في أواخر خمسينيات القرن الماضي، تحديدًا عام 1958، وتتميز المسرحية بانتمائها إلى نمط المسرح الواقعي الذي اشتهر به عاشور، حيث يرصد من خلال شخصياته التحولات التي طرأت على المجتمع المصري بعد ثورة يوليو 1952.
تتناول المسرحية بعمق موضوع الصراع الطبقي، من خلال تصوير ثلاث طبقات اجتماعية رئيسية تعيش في مبنى واحد: الطبقة العليا ممثلة في شخصية عبد المقتدر باشا وعائلته، والطبقة المتوسطة من خلال المهندس حسن أفندي وزوجته وابنته، والطبقة الشعبية التي تتمثل في الخادمة أم أنور وابنها، ومن خلال تفاعل هذه الشخصيات، يرسم نعمان عاشور صورة دقيقة للمجتمع المصري في تلك الحقبة، موضحًا كيف أثرت المتغيرات السياسية والاجتماعية على توازنات القوى بين الطبقات المختلفة.
وتُصنّف المسرحية ضمن ما يُعرف بأسلوب "الأوتشيرك"، وهو شكل درامي مستوحى من المسرح الروسي، لا سيما أعمال مكسيم غوركي، ويقوم على المزج بين الطرح الاجتماعي والسرد المسرحي المبني على التحليل النفسي والواقعية الاجتماعية.
ويُذكر أن نعمان عاشور، يُعد من أبرز رواد المسرح العربي، وكتب العديد من المسرحيات التي تناولت المجتمع المصري بطبقاته المختلفة، وكان له دور مهم في تطوير شكل ومضمون المسرح العربي، حيث قدم أعمالاً تمزج بين النقد الاجتماعي والطرح الفكري الجاد، في قالب فني قريب من الناس.