ترك رحيل الكاتب والمفكر والشاعر الفلسطيني زكريا محمد العام الماضي صدمة في الرأي العام الثقافي الإبداعي الفلسطيني، صدمة لن يكون بالإمكان تفادي آثارها حتى الآن، فقد ترك الفراغ الذي أعقب الرحيل عجزا أو تخبطا في تفسير ما يجري بغزة الآن، وتفسير زكريا ليس أي تفسير، ورأيه السياسي ليس أي رأي، يمزج الغائب العظيم في مادته السياسية بين السخرية والتاريخ والحاضر والجرأة والجغرافيا والتراث، ولا يغيب عن ناظريه في كل تفكيره البوصلة التي تحكم أفقه: فلسطين وحريتها وعلمانيتها ووحدتها وحقها في الاستقلال والعودة والسيادة.
لم يكن زكريا شاعرا وباحثا في الأديان والتراث، فحسب، كان أيضا فنانا تشكيليا ونحاتا وروائيا وكان محللا سياسيا من الطراز الفريد، الفريد بالمعنى المقاوم والمعارض لكل ما يجري من سقوط متتابع في وحل الهزيمة، لكنه لم يكن من أنصار الشعارات والبلاغة وعقلية المغامرة، والمتاجرة في الدين واستخدامه للسيطرة على الحياة والفنون خصوصا، وقد واجه أكثر من مرة مواقف إسلاميين رفضوا أو هاجموا الحريات العامة، ومنعوا عروضا فنية، وكتبوا ضد الحق في الاحتفال بالحياة والفن.
طيلة حياته وقف زكريا مع الحق في المقاومة لكنه أيضا كان من الداعين الى التأمل العلمي في المشهد الاقليمي والعالمي، وإلى التركيز على الوحدة الوطنية، ولم يكن هذا العملاق فقط محلل أحداث ذكي ومتابع، كان شجاعا جدا في كتابة رأيه ومواقفه عبر صفحته الرسمية على الفيس بوك، كان يتلقى يوميا عشرات الرسائل الشاتمة والمهددة والمجهولة ولم يكن من الصعب معرفة مصدرها، وقد تعرض أكثر من مرة للاعتقال والتهديد من أكثر من طرف. ما الذي سيستذكره المئات من المريدين في ذكراه الأولى القادمة، في أغسطس القادم، يا ترى؟ كيف سيفكرون بغيابه،؟ قبل أسابيع صدر عن دار الأهلية بعمّان كتاب (رسائل الى زكريا) للكاتب الغزي خالد شاهين، شاهين يعيش الآن في غزة، في خيمة صغيرة مع أهله وعائلته، منذ رحيل العملاق لم يتوقف عن الكتابة عنه والاقتباس، شاهين يعتبر زكريا صوت الفلسطينيين المقموع، وصاحب النص الشعري المقاتل، والذهن النقدي المغسول بالحب والغضب، وقد أمطره في كتابه رسائل حب وإعجاب وحنين وتحسر على أيام كان الأسد فيها يزأر دون توقف، في وجه الخراب والبلادة واستخدام قضية البلاد لمصالح شخصية وحزبية.
هل هذا إحياء ذكرى مبكر، لأنظف ما أنجبته فلسطين من مفكرين وشعراء عضويين غير قابلين للبيع والشراء، هل هو حنين شخصي لأيام جميلة قضيتها مع زكريا الانسان؟
هل هو استغاثة بزكريا الميت ليتدخل تحليلا ومقاومة وعلما في هذه المقتلة اليومية لأطفالنا في غزة؟.
لي مع زكريا قصة شخصية لن تعرفوا زكريا إلا منها وسأختم بها:
في ٢٠٠٧ قطعت إسرائيل رواتبنا كاملة، كان أبي يصرف عليّ، يناولني كل صباح عشرة شواقل، كنت أسكن في غرفة صغيرة قرب السفارة الكندية برام الله، لا قهوة في بيتي ولا خبز، زارني مرة زكريا محمد، فاعتذرت له: لا قهوة في بيتي يا زكريا سامحني، فابتسم مهونا عليّ الأمر. قائلا: كلنا نعاني ولا يهمك.
في صباح اليوم الثاني، جئت الى غرفتي قادما من بيتي في المخيم، دفعت باب البرندا الزجاجية بيدي ودخلت لفتح باب الغرفة،ففوجئت بخمس ورقات نقدية من فئة المئة شيكل متناثرات على أرض (البرندا) فاستنتجت أن زكريا العظيم قد جاء ورماها لي تضامنا مع قهوتي وخبزي، رأيته بعد الحادثة بأيام فشكرته على ال ٥٠٠ شيكل، لكنه أنكر أنه هو الذي رماها لي، قائلا: المهم زبّطت حالك؟.
على مدى سنوات طويلة منذ ٢٠٠٧ كان آخرها قبل شهرين فقط ظللت أشكر زكريا قائلا له: شكرا على الخبز شكرا على القهوة شكرا لأنك من بلادنا.
وظل مصرا ضاحكا يقول: ( يا زلمة انت ما ازهقت, مش أنا مش أنا).
لم أقل لزكريا أبدا أن صاحبة البيت بعد يوم واحد من الحادث فقط حذرتني وهي ترتجف من شخص طويل وبشعر أبيض رأته من الطابق الثاني وهو يفتح نافذة (البرندا) ويرمى شيئا ما.
مع السلامة يا حبييي يا زكريا.
وشكرا على الخبز والقهوة والشعر، ووجودك في بلادنا.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: لم یکن
إقرأ أيضاً:
إبراهيم نصر في ذكرى وفاته.. صاحب “زكية زكريا” الذي أسعد القلوب ورحل بهدوء (تقرير)
في مثل هذا اليوم، الاثنين 12 مايو، تحل ذكرى وفاة الفنان الكبير إبراهيم نصر، أحد رواد الكوميديا المصرية، والذي غيّبه الموت عام 2020 عن عمر ناهز 73 عامًا، بعد مشوار طويل من العطاء الفني رسم فيه البسمة على وجوه أجيال من المشاهدين.
من شبرا إلى القلوب
ولد إبراهيم نصر النخيلي في 18 أغسطس 1946 بحي شبرا العريق، لأسرة تنحدر أصولها من محافظة أسيوط، منذ صغره، لفت الأنظار بموهبته في تقليد الشخصيات، وبدأ خطواته الأولى فوق مسرح المدرسة، قبل أن يدرس الفلسفة بكلية الآداب ويتولى رئاسة فريق التمثيل الجامعي، محققًا جوائز عدة تقديرًا لموهبته الفذة.
الفنان القدير إبراهيم نصرخطوات فنية متعددةبدأ مشواره كمونولوجيست، وشارك في برامج الأطفال، قبل أن يلفت الأنظار بأدائه المتميز في برنامج “عزيزي المشاهد” مع الإعلامية أماني ناشد، ومن هنا انطلقت رحلته مع التلفزيون والدراما والمسرح، حيث شارك في مسلسلات مثل “الزمن المر” و”حكاية لها العجب”، إلى جانب عدد من المسرحيات المميزة.
“الكاميرا الخفية”.. علامة مميزة
لكن الاسم الحقيقي الذي التصق بإبراهيم نصر كان “زكية زكريا”، الشخصية التي قدّمها في برنامج “الكاميرا الخفية” خلال التسعينيات، وحققت جماهيرية جارفة، خاصة مع عرضه في شهر رمضان، لتصبح جزءًا من ذاكرة المصريين الرمضانية.
برنامج الكاميرا الخفية لإبراهيم نصرعلى شاشة السينمالم تقتصر مسيرة نصر على الكوميديا التلفزيونية، بل امتدت إلى السينما، حيث شارك في أفلام حققت نجاحًا كبيرًا، منها:
• “شمس الزناتي” مع عادل إمام (1991)
• “إكس لارج” مع أحمد حلمي (2011)
• “الكهف” مع ماجد المصري (2018)
كما كانت له بصمات مسرحية من خلال عروض مثل “أهلا يا دكتور” و”زكية زكريا والعصابة المفترية”.
وداع صامت.. وذكرى لا تُنسى
رحل إبراهيم نصر في هدوء صباح يوم 12 مايو 2020، وتم تشييع جثمانه من كنيسة المرقسية القديمة، ليدفن في مقابر العائلة بالعباسية. إلا أن إرثه من الضحك والفرح لا يزال حاضرًا في ذاكرة محبيه، وحلقات “زكية زكريا” ما زالت تُشاهد على نطاق واسع عبر الإنترنت.
فنان من طراز خاص
كان إبراهيم نصر ممثلًا استثنائيًا جمع بين العفوية والذكاء في الأداء، وتمكن من أن يخلق لنفسه مدرسة خاصة في الكوميديا، جعلته من أبرز نجوم هذا الفن في مصر والعالم العربي. ورغم غيابه، يبقى صوته وضحكته وشخصياته حاضرة في كل بيت.