في عالمٍ تتسارع فيه التحولات الاقتصادية، وتتعاظم فيه التحديات التي تمس العدالة الاجتماعية والشفافية والاستدامة، تبرز الحاجة إلى منظومة قيمية توازن بين الربح والمسؤولية، بين النمو وحفظ الحقوق، ومن اللافت أن القرآن الكريم، ومنذ قرون، قدّم إطارًا أخلاقيًا يُلهم هذا التوازن، من خلال توجيهات تختصر جوهر العدالة الاقتصادية.
تُشير بعض الآيات إلى أهمية الالتزام بالمعايير العادلة في التعاملات التجارية، وهي دعوة لاحترام المعايير والمواصفات، والابتعاد عن الغش والتضليل، وضمان وضوح العقود وحماية المستهلك. إنها إشارة واضحة إلى أن السوق لا يقوم فقط على العرض والطلب، بل على الصدق في التعامل، واحترام كرامة الإنسان في أبسط تعاملاته المالية.
كما تؤكد هذه القيم أهمية الدقة والإنصاف في الحسابات والتقارير، وهي قاعدة أساسية في الحوكمة المالية الحديثة؛ فالشفافية ليست ترفًا تنظيميًا، بل وسيلة لحماية الاقتصاد من الانهيارات، وصون الثقة بين الأطراف، وتحقيق استقرار الأسواق.
ومن جهة أخرى، تأتي حماية حقوق الناس كأحد أركان هذه الرؤية، إذ لا تستقيم الأسواق حين تُبخس الجهود، أو تُهضم الحقوق، أو يُستغل الضعفاء. العدالة هنا تعني أن يحصل كل طرف على ما يستحقه، دون مبالغة أو انتقاص، سواء كان عاملًا، أو مستهلكًا، أو مستثمرًا.
ولا تكتمل هذه الرؤية إلا بالتحذير من الإفساد الاقتصادي، بكل أشكاله، سواء كان ذلك من خلال الاحتكار، أو تدمير البيئة، أو غسل الأموال، أو الممارسات التي تضر بالمجتمع من أجل مصلحة فئة محدودة. فالسعي إلى التنمية لا يكون على حساب الآخرين أو على حساب المستقبل.
وتتسق هذه القيم مع ما تهدف إليه «رؤية عُمان 2040»، التي تسعى لبناء اقتصاد وطني متنوع ومستدام، قائم على مبادئ العدالة والمواطنة، ويستند إلى الشفافية والحوكمة الرشيدة؛ فالرؤية تستلهم من هذه القيم القرآنية منطلقًا لبناء مجتمع مزدهر، يوازن بين التقدم الاقتصادي والعدالة الاجتماعية، ويُعلي من شأن الإنسان كركيزة أساسية في التنمية الشاملة.
من خلال هذه القيم، تتشكل أمامنا ملامح اقتصاد إنساني متزن، يحفظ الحقوق، ويصون البيئة، ويعزز النزاهة، ويقود إلى تنمية مستدامة حقيقية، اقتصاد لا يُقاس فقط بالأرباح، بل بقدر ما يقدمه من فُرص عادلة، وما يحققه من طمأنينة للناس في تعاملاتهم ومعيشتهم.
يقول عزَّ من قائل: «وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا» (الإسراء: 35).
حمدة الشامسية كاتبة عُمانية في القضايا الاجتماعية
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: هذه القیم
إقرأ أيضاً:
القومي لحقوق الإنسان يشارك في الدورة الإقليمية حول "التكنولوجيا وحقوق الإنسان" بتونس
شارك المجلس القومي لحقوق الإنسان من خلال وفد من الأمانة الفنية في الدورة التدريبية الإقليمية المتخصصة حول "التكنولوجيا وحقوق الإنسان"، التي نظّمها المعهد الدنماركي لحقوق الإنسان واستضافتها دولة تونس خلال الفترة من 30 نوفمبر إلى 5 ديسمبر 2025، بمشاركة ممثلين عن المؤسسات الوطنية لحقوق الإنسان من عدد من الدول العربية.
وتأتي الدورة التدريبية في إطار تعزيز قدرات الجهات الفاعلة في مجال حقوق الإنسان على التعامل مع التحديات الرقمية الناشئة وضمان حماية الحقوق الأساسية في الفضاء الرقمي، وذلك اتساقًا مع اهتمام المجلس بتطوير جاهزيته المؤسسية لمواكبة قضايا التحول الرقمي وتأثيراته على منظومة الحقوق والحريات، خاصة في ما يتعلق بحماية الخصوصية وتنظيم المراقبة وحرية التعبير عبر الإنترنت، وضمان عدم تعرض الفئات الأكثر هشاشة لأي انتهاكات في البيئة الرقمية.
وتضمّنت الدورة برنامجًا تدريبيًا مكثفًا شارك فيه 21 متدربًا من المغرب وتونس ومصر والأردن والجزائر، وتناول قضايا محورية حول العلاقة بين التكنولوجيا وحماية الحقوق الأساسية، من خلال جلسات تفاعلية وتمارين عملية، شملت إعداد خرائط وطنية للتحديات الرقمية ورصد الفجوات التشريعية والمؤسسية.
وقدم وفد الأمانة الفنية بالمجلس إسهامات مهنية فعّالة في جلسات العمل من خلال عرض خبرات المجلس في متابعة القضايا الرقمية والتعامل مع الشكاوى ذات الصلة، والمشاركة في صياغة مجموعة من المقترحات التي تستهدف تعزيز الحماية الرقمية على المستوى الوطني والإقليمي، وتطوير سياسات تراعي التوازن بين متطلبات التطور التكنولوجي وحماية حقوق الإنسان
وتأتي هذه المشاركة ضمن جهود المجلس لدعم العمل الإقليمي وتطوير آليات التعاون وبناء شبكات مهنية متخصصة تعزّز من قدرة المؤسسات الوطنية على مواكبة التحول الرقمي وحماية الحقوق.