يسألونك عن الفردانية .. هـل حاضـرنا فوضـوي؟
تاريخ النشر: 25th, May 2025 GMT
شكّلت العلاقات الاجتماعية، حتى عهد قريب، صورة مفعمة بالحيوية والنشاط، ونُظر إليها آنذاك على أنها المقياس الذي يُقاس به تكاتف المجتمع، وتقارب أفراده، وتآزرهم، وتكاتفهم، دون إغفال أثر تلاحم الأسر الممتدة على المنظومة الاجتماعية ككل. هذا الوضع ساعد كثيرا على تجاوز المعضلات الاجتماعية، كبيرها وصغيرها، وفسح للأفراد مساحة واسعة للاستمتاع بمزايا كل ما يُشار إليه بأنه من فضائل الحياة الاجتماعية.
فلم يُختزل مفهوم «الاجتماعية» في مجرد لَمَّة عابرة لحدث ما، سعيدًا كان أو حزينًا، بل أصبح حالة ذهنية؛ بمجرد ذكر اسم «الجماعة» تهدأ الأنفس، وتحلق بأحلامها نحو تحقيق ما تصبو إليه، مستحضرة ذلك الكم الهائل من المؤازرة والتقارب والتعاون. بل يشعر الفرد بكثير من الزهو؛ فهو في حاضنة الجماعة، وليس فردًا معزولًا، مقصيًّا أحلامه، مهدورًا كرامته. فإن استمر على عزلته بقرار فردي، أصبح في ثقافة الجماعة شخصًا منبوذًا، يُشار إليه بالسوء، لأنه خرج عن الدائرة.
هذا كان في زمن كان للجماعة فيه دورٌ محوري في تصويب الأخطاء الفردية، بقصد أو بغير قصد. ولأن دور الجماعة كان مؤثرًا، خصبًا في العطاء، جادًّا في الإصلاح، كان اليقين قائمًا بأن الفرد جزء لا يتجزأ من الجماعة، فلا غنى له عنها، ولا غنى لها عنه. ظل هذا الحال حتى عهد قريب، قبل أن تتنامى الأسر النووية، التي ساعد على نشأتها المخططات السكنية الحديثة، وتكاثرها لأسباب أغلبها اقتصادية، كتنامي الوظائف التي استوطنت العاملين في بيئات غير بيئاتهم الأصلية.
رغم ذلك، يحاول الأفراد في هذه المجتمعات الحديثة التخفيف من وطأة الفردانية عبر استحضار مفهوم القرية، بإنشاء معززات مجتمعية كالمساجد، ومدارس القرآن، والمجالس العامة، والأسواق التقليدية، وإحياء القيم الاجتماعية كالتزاور والعزائم، ومؤازرة بعضهم بعضًا في حالات الوفاة وغيرها من المناسبات. وأنا هنا أخص بالحديث المجتمع العُماني، المتحاب، المتعاطف، المتآزر، المتعاون، المتكامل، المتجاوز لكثير من التباينات.
تتحمّل الوظيفة الحديثة قسطًا كبيرًا من مسؤولية تنامي الفردية، بسبب خصوصية بعض الوظائف التي تتطلب انفصال الموظف عن مجتمعه فترات طويلة. وهذا «الاحتجاز» الوظيفي الذي يُمارَس على الفرد لم يأتِ بقصد، بل تحوّل إلى أمر طبيعي، يعتاده الفرد، ويصبح جزءًا من سلوكه اليومي. ولكن، بالمقابل، يخسر الفرد الكثير من المعززات الاجتماعية التي تُبقي اللحمة المجتمعية حيّة.
تنعكس هذه القطيعة على أفراد الأسرة، وخاصة الأبناء، الذين يقضون جلَّ أوقاتهم، ما عدا أوقات الدراسة، بين الجدران الأربعة، يعتركون مع الفراغ مستخدمين الأجهزة الذكية، والحواسيب، وأدوات الاتصال الحديثة.
وبمرور الزمن، يصبح هذا السلوك طبيعيًا، فتترسخ الفردانية في الناشئة، التي تفقد كثيرًا من السمت الاجتماعي، والقيم الضابطة للسلوك، والإيمان بأهمية وجود منظومة قيمية تقود نحو السلوك القويم، الذي يؤصّل الهوية والانتماء إلى المجتمع والوطن.
أرخت الاجتماعية، عبر تجربتها الطويلة، الكثير من القوانين والنظم والقيم الحاكمة، التي شرعنت تفاصيل العلاقة بين الأفراد والمجموعات. وكان تجاوزها يُعد خروجًا على الإجماع، ويستدعي تدخل الجماعة لإعادة الفرد إلى رشده. هذا النظام الاجتماعي الذي كان قائمًا في مجتمعنا العُماني، أسهم كثيرًا في الحفاظ على تماسك المجتمع، وتعاونه، وتكافله.
لكن هذا التموضع بدأ يعاني من حراك موضعي وتململ، لم يصل بعد إلى التفكك، لكنه يسير نحوه، في ظل الانفتاح على المجتمعات الأخرى، والتداخل الديموغرافي، كحالات الزواج من خارج المجتمع، وتنامي التجنيس للوافدين، ما أدى إلى استقطاب أنماط ثقافية وسلوكية مختلفة عن بنية المجتمع الأصلية. ومثل هذه التباينات قد تخلخل النسيج الاجتماعي، وتُحدث فوضى قيمية، وتنازلات عن هوية المجتمع.
وقد ظهرت ملامح ذلك في السماح بالتصوير باللباس غير التقليدي في الوثائق الرسمية. وإن كانت هذه التغيرات مفروضة بمبررات الاستقطاب، فإن آثارها السلبية لن تكون غائبة، بل مرشحة للتنامي، ما يُفقد النسيج الاجتماعي الكثير من خصوصيته.
والسؤال هنا:
هل على الدولة أن تتحمّل مسؤولية إعادة الإنتاج الاجتماعي؟
الإجابة المباشرة: نعم. ولكن عمليًّا، ليس الأمر يسيرًا، حتى في ظل وجود القوانين. فالأمر تحكمه اعتبارات سياسية واقتصادية وحقوقية واجتماعية.
لقد صار العالم قرية كونية، ولم يعد بالإمكان التحكم في الهوية كما في السابق.
تبقى المسؤولية الكبرى على الفرد، ومدى وعيه بأهمية التوازن في تعاطيه مع الآخر، سلوكًا ولباسًا وقناعات، ومقدار ما يأخذ من الآخر عند الضرورة، دون الانفصال عن واقعه. الأهم هو إحساس الفرد بمسؤوليته الاجتماعية والوطنية، حين يبلغ الأمر تهديدًا للهوية.
وقد أشار الكاتب جون إهرنبرغ في كتابه «المجتمع المدني - التاريخ النقدي للفكرة» إلى هذا المعنى قائلا: «فالدولة لا يمكن أن تأخذ على عاتقها مسؤولية إعادة الإنتاج الاجتماعي، والسياسة هي أكثر من كونها حريات مدنية وحقوقًا دستورية؛ والحرية أوسع من تحقيق الرغبات المادية؛ والحياة العامة لا يمكن أن تكون وسيلة لحماية المجتمع المدني، وضبطه، أو إعادة تنظيمه».
من هذا المعنى، يُستشف أن المسؤولية التاريخية في الحفاظ على الهوية تقع على أبناء المجتمع أنفسهم. فلا ينبغي أن يتيحوا، ولو قيد أنملة، المجال لمن يريد العبث بالمكتسبات الاجتماعية، تحت أي مبرر.
أحمد بن سالم الفلاحي كاتب وصحفـي عماني
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
استنفار أمني تجاه حركة الإخوان بفرنسا
كانت البلدان الغربية تتعاطف مع حركة الإخوان أثناء ثورات الربيع العربي، وشمل هذا التعاطف سكوت السلطات الأمنية في بلدان أوروبية منها فرنسا على احتجاجات وتظاهرات حركة الإخوان المسلمين في فرنسا، والتي كانت تؤازر مثيلاتها في بلدان الربيع العربي، ومنها مصر التي انكوت بنار تلك الجماعة الإرهابية، والإسلام السياسي والتكفيري الذي كانت تتبناه تلك الجماعة، وعلى الرغم من تحذيرات الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي لأمريكا والدول الغربية بعدم تعاطفها مع قيادات تلك الجماعة في الداخل والخارج، إلا أنهم كانوا يواصلون الدعم مع اتهام مصر والبلدان العربية بانتهاك حرية الرأي والتعبير، الديموقراطية، وحقوق الإنسان، وها هي تلك الدول ينكشف لها المستور، وتنكوي بنار تلك الجماعة وأنشطتها التي وصلت إلى حد تجنيد الأوروبيين إلى سوريا والعراق وغيرها، وعلى رأس تلك الدول فرنسا التي استفاقت مؤخراً لمواجهة خطر نشاط جماعة الإخوان في فرنسا، وفي إطار مكافحة فرنسا لما يسمى بالانعزالية الإسلامية، وخطرها على قيم العلمانية الفرنسية، وقيم الجمهوري الفرنسية، بل وفي إطار الخوف على الهوية والتعددية والنسيج الوطني الفرسي، اجتمع رئيس الجمهورية الفرنسي "ايمانويل ماكرون" داخل مجلس أمني مع حكومته وقيادات حزبية وفكرية، وذلك لمواجهة خطورة انتشار الفكر الإخواني المتشدد والمتطرف، وطموحاته السياسية وخطورته على فرنسا وعلى أوروبا، وقد جاء هذا الاجتماع بناء على تعزيزات أمنية واستخباراتية تفيد بإمكانية تعرض فرنسا لعمليات إرهابية وتخريبية مع انتشار لفكر الإخوان وأنشطته اللا محدودة في بعض المساجد والمدارس والملاعب الرياضية وبعض الجمعيات الخيرية، ومحلات المأكولات والأطعمة، وغيرها من الأماكن التي تستقطب في مجملها الشباب الذي يعاني من مشاكل اجتماعية وخدمية والقصر والعازفين عن التعليم، والعمل على تقويد القيم العلمانية الفرنسية، واستخدام أيديولوجية معينة تعمل على تغيير فكر هؤلاء الشباب وغيرهم تحت اسم الدين، وتحت شعار إقامة دولة الخلافة الإسلامية في أوروبا.
وقد انتهى الاجتماع الأمني باتخاذ إجراءات صارمة تجاه توجهات جماعة الإخوان، ومنها فرض رقابة مشددة على المدارس والجمعيات الخيرية وغيرها لمنع التمويل الأجنبي والتحقق من أنشطة المشاريع الإخوانية المشتبه بها، ومن ثمّ غلق بعض تلك المؤسسات التي تروج للكراهية والتشدد واختراق النسيج الوطني الفرنسي، ومنها منع فرنسا ارتداء الحجاب تحت سن 15 عامًا في الأماكن العامة، وبأن تواصل فرنسا روابطها ودعمها للمساجد والإسلام الروحي من خلال فرض ميثاق الجمهورية الفرنسية على المساجد والهيئات الإسلامية، والتواصل الأمني والثقافي مع تلك الجهات، وبالمقابل فإن تلك الإجراءات قد أثارت حفيظة الكثير من قيادات الأحزاب المعارضة بفرنسا التي اتهمت الحكومة اليمينية بإشغال الرأي العام بتلك القضية مع عجزها وفشلها في إدارة الدولة، والتسبب في نشر روح العداء والكراهية للجالية الإسلامية التي تتعرض للعنف والإرهاب والعنصرية من جانب اليمين المتطرف، أما رئيس مسجد باريس الكبير "شمس حافظ" فقد حذر باسم الجالية الإسلامية، وباسم أئمة المساجد بفرنسا من توظيف بعض من قيادات الأحزاب اليمينية المتطرفة تلك الشعارات لأغراض سياسية وانتخابية، واتباع سياسة الكيل بمكيالين للخلط بين الإسلام الروحي المنضبط وبين الأيديولوجية التي تتبعها جماعة الإخوان، والتي تستخدم الدين لأغراض سياسية وتكفيرية، وبالتالي التسبب في وصم الجالية الإسلامية الكبيرة بفرنسا بسبب أنشطة جماعة الإخوان، كما دعا عميد مسجد باريس السلطات الفرنسية إلى التحلي بالوعي والتماسك الوطني بسبب تداعيات التقرير، ومصرحًا بأن تاريخ ودور المسجد في فرنسا سيظل هادفًا ومدافعًا ومعبرًا عن رؤية الإسلام ومبادئه وقيمه السمحة التي تتوافق نصًّا وروحًا مع مبادئ وقيم الجمهورية الفرنسية، ومن ثمّ رفض الجالية الإسلامية بفرنسا توظيف الإسلام لأغراض سياسية، وتكفيرية تهدف إلى شق الاصطفاف الوطني بفرنسا، أي برفض الجالية الإسلامية لأفكار تلك الجماعة وأنشطتها.