الأحزاب والعشائر وتحدّيات المرحلة المقبلة في الأردن

التاريخ السياسي الأردني مثالٌ واضحٌ على نمو الأحزاب السياسية في مراحل سابقة حين كان المجتمع أقلّ تمدّنا وتعليما.

هل تستطيع الأحزاب في الأردن خلال أشهر قليلة متبقية أن تبرهن على وجودها، وأن تبني قاعدة اجتماعية شعبية؟

"مأسسة" العمل الحزبي تمثل المهمة رقم 1 للأحزاب جميعاً، بمعنى بناء أجهزة الحزب وتحويله إلى "مؤسّسة سياسية" بالمعنى البنيوي الوظيفي

إن كانت هنالك إرادة حقيقية في الدولة وقناعة بهذا المسار فإنّها ستساعد في جعل الانتخابات المقبلة محطّة إيجابية ومتقدّمة لتطوير العمل الحزبي.

ينبغي من الأحزاب أن تهتم بالعديد من الجوانب الأساسية، في مقدّمتها صياغة خطاب سياسي وبرامجي مقنع وواقعي ومشتبك مع هموم الشارع وقضاياه الرئيسية!

* * *

بالإضافة إلى أهمية "البيئة السياسية" الحاضنة للأحزاب السياسية، هنالك مهمة كبيرة تقع على عاتق الأحزاب نفسها في تطوير قدراتها المؤسسية والسياسية لتكون قادرة على إقناع الشارع بخطابها وبناء القاعدة الشعبية المطلوبة، بخاصة في التجارب التي تشهد ولادة جديدة لأحزاب جديدة عديدة، بخاصة إذا كانت هنالك ضحالة في العمل الحزبي سابقاً في الأوساط الاجتماعية.

ينطبق ذلك تماماً على الحالة الحزبية الأردنية اليوم، بعد إطلاق عملية التحديث السياسي، وسنّ تشريعات محفّزة للعمل الحزبي، بخاصة قانونا الانتخاب والأحزاب.

إذ تجد الأحزاب الجديدة نفسها خلال الشهور القليلة المقبلة أمام تحدٍّ حقيقي وكبير في ماراثون سياسي وانتخابي استعداداً للانتخابات النيابية الأولى التي ستشهد الامتحان الأول الكبير للمشهد الحزبي في ظل قانون يعطي الأحزاب نسبة 35% من مقاعد مجلس النواب، على صعيد القائمة الوطنية، ويتيح لها التنافس أيضاً على صعيد القوائم المحلية على مستوى المحافظات.

عانت أغلب الأحزاب الأردنية في العقود الثلاثة الأخيرة من ظاهرة "الهرم المقلوب" (مصطلح استخدمته دراسة عن الأحزاب السياسية أجراها معهد السياسة والمجتمع مع صندوق الملك عبدالله الثاني)، إذ كان التزاحم على المواقع القيادية بينما كان هنالك ضعف شديد في العمل المؤسّسي الممتد، فضلاً عن غياب القاعدة الاجتماعية.

لذلك وفي التحضير للانتخابات المقبلة، ومع وجود أحزاب جديدة عديدة، بالإضافة إلى عمليات الاندماج وتصويب الأوضاع لباقي الأحزاب، فإنّ "مأسسة" العمل الحزبي تمثل المهمة رقم 1 للأحزاب جميعاً، بمعنى بناء أجهزة الحزب وتحويله إلى "مؤسّسة سياسية" بالمعنى البنيوي الوظيفي، وتشكيل أجنحة ومنظّمات قادرة على تجذير عمل الحزب في المجتمع وبناء جسور الاشتباك بينه وبين الشارع.

في المقابل، ثمّة نظرية تتبناها نخبة عريضة من السياسيين الأردنيين، أنّ البيئة الاجتماعية غير مؤاتية للعمل الحزبي، إذ تطغى الانتماءات العشائرية والجهوية والفردية على اتجاهات الشارع الأردني، وهي مقولة تحتاج نقاشا معمّقا.

لكن وبفرض صحّتها، فإنّ القول بوجود بيئة مجتمعية - ثقافية محدّدة، تتواءم مع العمل الحزبي حصرياً مسألة نظرياً فيها نقاش كبير أيضاً، فالثقافة السياسية، وفقاً للعديد من منظّري الانتقال الديمقراطي لا تكون سابقة ومنجزة قبل عملية الانتقال، بل هي تأتي مصاحبة للعملية ومراحلها وتتكرّس بالتوازي والتزامن مع تطور اللعبة السياسية باتجاه تكريس الديمقراطية.

أكثر من ذلك، إذا افترضنا ضرورة وجود الثقافة السياسية "المدنية، بوصفها شرطاً مسبقاً للانتقال الديمقراطي (وهو ما اعترضنا عليه سابقاً)، فإنّ اثنين من أبرز منظّري الثقافة المدنية، جبرائيل ألموند وسيدني فيربا (في كتابهما "الثقافة المدنية" 1963) يريان أن الثقافة السياسية المطلوبة هي مزيج من ثلاثة أنواع من الثقافات؛ مدنية ومحدودة وضحلة، لتأمين قدرٍ من المشاركة السياسية بالتزاوج مع الاستقرار السياسي، وهي ثقافات موجودة في المجتمع الأردني بنسبة جيّدة للثقافة المدنية التي ترتبط بالطبقة الوسطى ومستوى التعليم والتمدّن.

ولعلّ التاريخ السياسي الأردني مثال واضح على نمو الأحزاب السياسية في مراحل سابقة حين كان المجتمع أقلّ تمدّناً وتعليماً، في مرحلة الخمسينيات، عندما صعدت أحزابٌ تمكّنت من استقطاب الشارع وبناء قاعدة شعبية، نسبة كبيرة منها من أبناء العشائر الذين انخرطوا في العملية الحزبية.

وإذا كانت التجربة الحزبية تراجعت، فذلك يعود إلى أسبابٍ متعدّدة؛ منها المرحلة العُرفية الممتدّة من حظر الأحزاب السياسية، ومنها سياسات الدولة وخطابها المخوّف والمتخوّف من العمل الحزبي، ما عزّز الانتماءات الأخرى على حساب الانتماء الحزبي.

وهي مرحلةٌ ليس من المتوقّع أن نتجاوز تداعياتها بين ليلةٍ وضحاها، بخاصة أنّ هنالك شكوكاً كبيرة لدى نسبة اجتماعية عريضة ومعتبرة في مصداقية نيات الدولة تجاه الأحزاب السياسية.

ليست الأحزاب كائنات فضائية، فهي تتطلب بيئة حاضنة أولاً، ووقتاً لتطوير العمل المؤسّسي وبناء القواعد الشعبية وصناعة السياسات البديلة والاشتباك مع الشارع، وهذا كلّه مشروط بصيرورة العملية الديمقراطية نفسها، وبالتالي العملية تفاعلية تشاركية وتدرجية، كما حدث في مختلف التجارب الحزبية والديمقراطية في العالم.

هل تستطيع الأحزاب في الأردن خلال أشهر قليلة متبقية أن تبرهن على وجودها، وأن تبني قاعدة اجتماعية شعبية؟

هو تحدّ كبير وصعب، لكن إن كانت هنالك إرادة حقيقية في الدولة وقناعة بهذا المسار فإنّها ستساعد في جعل الانتخابات المقبلة محطّة إيجابية ومتقدّمة لتطوير العمل الحزبي.

لكن هذا يقتضي من الأحزاب أن تهتم بالعديد من الجوانب الأساسية، في مقدّمتها صياغة خطاب سياسي وبرامجي مقنع وواقعي ومشتبك مع هموم الشارع وقضاياه الرئيسية، وبناء أجنحة قوية بخاصة؛ لدى الشباب والمرأة وفي مجال الإعلام الرقمي الذي يمثّل اليوم أحد أهم مصادر القوة والضعف لدى الأحزاب في العالم.

إلاّ أنّه إذا كان هنالك شرط مسبق وحيد فهو استقلالية الأحزاب السياسية، ووجود مساحة عمل واسعة لها، ورسائل سياسية واضحة تؤكّد على نزاهة الانتخابات النيابية المقبلة ونظافتها، لأنّ ذلك هو محفّز التنافس الحزبي وبناء القدرات لاستثمار المقاعد المخصّصة في قانون الانتخاب.

لا أدّعي أنّنا أمام مهمة سهلة أو مضمونة، بل هي عملية صعبة وشاقّة، وكانت تتطلب وقتاً أطول، وإذا كان هنالك داعٍ لتأجيل الانتخابات المقبلة لمنح الأحزاب وقتاً أكبر فلمَ لا، إذا كان ذلك القرار واضحاً وتوافقياً ويخدم تطوير التجربة الحزبية، لأنّ البديل عن فشل التجربة الحزبية هو الاستمرار في حلقةٍ مفرغةٍ من الأزمات السياسية التراكمية واستمرار استنزاف النخب السياسية وتعزيز بواعث العزوف عن المشاركة السياسية بخاصة لدى جيل الشباب.

*د. محمد أبورمان باحث في الإصلاح السياسي، وزير أردني سابق

المصدر | العربي الجديد

المصدر: الخليج الجديد

كلمات دلالية: الأردن الأحزاب العشائر العمل الحزبي التحديث السياسي الانتقال الديمقراطي البيئة الاجتماعية قانون الانتخاب الأحزاب السیاسیة العمل الحزبی إذا کان

إقرأ أيضاً:

هنالك متغيرات هامة في مسار حرب السودان

أولها : خطوط الإمداد المادي و اللوجستي تغيرت بالكامل وفق احتمالين . الإمداد عبر الصحراء الليبية والحدود الغربية مع شاد أصبح مكشوفا ومفضوحا أمام الرأي العالمي الذي يراقب حول كيفية صمود مليشيا طارئة أمام جيش كبير مثل الجيش السوداني الجانب الآخر ربما فعلاً القائمين على السلطة في ليبيا وشاد تغيرت مواقفهم بعض الشيء بعد تهديدات قيادات الجيش بمهاجمة مناطق و مطارات الإمداد خاصة شاد أما الجنرال خليفة حفتر الذي بادر بالنفي فهو رجل جيش يعرف خطورة تبني حرب بالوكالة عن دولة مهما كان المقابل المالي الذي يستلمه ..

خطوط الإمداد الحالية التي تعمل ليل نهار تتم عبر الجار الجنوبي لتكون النقطة الرئيسية لهبوط طائرات الكارقو 40 طن في مطار جوبا ومن جوبا يتم نقل محدود يُوزع عبر طائرات شحن أقل من متوسطة 12 طن الي مدينة الناصر ومنها بالبر الي الحدود الشمالية / الجنوبية لدولتي جنوب السودان وشماله .. لذلك أتوقع ان يكون قرار وقف تدفق بترول جنوب السودان الي البحر الأحمر قرار تأديبي وليس قرار فني يتعلق بالقصف بالمسيرات الاستراتيجية على ميناء بورسودان ..

المشتركة وكما نتابع أغلقت منافذ الإمداد عبر الصحراء وهذا هو نفس تفسير وجود متحركات الصياد المتعددة في شمال كردفان زحفا الي غربها وجنوبها وهو نفس تكتيك حصار الجنجويد في وسط السودان القديم او ولاية الجزيرة الكبري نجد أن التكتيك وقتها جاء عكس ما يتوقع الناس بالعاطفة ؛ ان تقوم القوات المسلحة بتحرير الجزيرة من الشمال نحو الوسط والجنوب لكن المفاجأة كانت بتحرير منطقة جبل موية الاستراتيجية الهامة ومنها بدأ الزحف ولم يتوقف هذا تكتيك غاية في الصعوبة ..

على طول الضفة الشرقية لنهر النيل بمسمياته الجغرافية صعودا النيل والنيل الأبيض هذه المناطق خالية من التمرد تماماً الضفة الشرقية من الجنوب الي الشمال ومن الوسط الي الشرق وأقصى الشرق مناطق خضراء بالأمن إلا من قليل قصف عبر المسيرات الانقضاضية والاستراتيجية وهو في العلوم العسكرية كما قال اللواء بكراوي لا يغير من نتيجة الحرب الحالية مهما كان القصف كثيفا ..

تصريحات القائم بالأعمال الصيني في السودان جاءت كردة فعل متأخرة على قرار الرأي العام السوداني الذي اتهم الصين بالصمت ازاء استخدام طائراتها المسيرة الاستراتيجية في قصف مواقع حيوية الصين ذات نفسها هي من قامت ببنائها مثل مواني النفط في بورسودان والقصر الجمهوري وسط الخرطوم وكان في إمكان الصين مُساءلة الإمارات حول دواعي تزويدها مليشيا الدعـــــــ م السريــــــ ع بالتقنية الهامة والمتطورة خاصة وأن تأثيرا المسيرات كان واضحاً في تقييم جدول أعمال الجيش دون تفاصيل معقدة ..

سياسياً بعد فشل فرية إعلان حكومة موازية نجد المسيرات آخر المحاولات الفاشلة للضغط على قيادة الجيش ليذهب الي منابر التفاوض قديمة او جديدة لذلك ستعمل الإمارات على(تزييت) المليشيا بالشحوم لتعمل بطريقة اتوماتيكية بعيداً عنها ومتى ما توقفت لا ضرر على أبوظبي ..

المتوقع ألا تستسلم عصابات مليشيا ال دقلو الإرهابية عن الجرائم .. قد يستخدمون حيلة العاجز بمحاولة الاغتيـــــ ـــالات والتخريب وفي بلد واسع وفاتح المداخل مثل السودان من الممكن نجاح بعض المحاولات خاصة تخريب المرافق الخدمية و البِنية التحتية و وسائل التواصل والخدمات..

الإنقاذ في عنفوانها اوائل الألفية الحالية وعندما خاب جيش الأمة في أحداث اختراق عسكري عبر الحدود الشرقية اتخذ نفس المسلك المُشين واذكر تفجير أنبوب النفط شرق مدينة شندي 2005 م تقريباً لذلك الحذر ثم الحذر لان خلايا التمرد اليائسة بيننا لابد من نشر ثقافة التأمين عبر كامرات المراقبة وتحديث تقنيات التعرف على الوجه في المدن ونشر الشرطة والمخابرات
.

Osman Alatta

إنضم لقناة النيلين على واتساب

مقالات مشابهة

  • وزير الإدارة المحلية والبيئة: رفع العقوبات عن سوريا سيفتح آفاقاً اقتصادية جديدة
  • تركز على الأولويات.. قرارات وتكليفات رئاسية مهمة ترسم ملامح المرحلة المقبلة
  • مصادر أميركية: اتفاق الهدنة ورقة لبنان الأقوى في المرحلة المقبلة
  • الدكتور هشام العلوي: العلاقات بين العراق ومصر تشهد تطورًا كبيرًا في المرحلة المقبلة
  • «تنسيقية الأحزاب السياسية» تحمل الجهات المدنية والعسكرية مسؤولية تدهور الأوضاع في طرابلس
  • سند مجلي يدعو لإعادة تفعيل دور الشباب في الحياة السياسية: “نحتاج إلى قيادة شبابية مدرّبة لصناعة المستقبل
  • مش هتلاقي الدولار واليورو في الشارع.. نائب وزير الخارجية يحذر الشباب من مخاطر الهجرة غير الشرعية
  • ترامب يغادر قطر بعد لقاء "ودي ومفصلي" مع الأمير تميم: تصريحات نارية ترسم ملامح المرحلة المقبلة
  • هنالك متغيرات هامة في مسار حرب السودان
  • المجلس العسكري الحاكم في مالي يعلن حلّ جميع الأحزاب السياسية