المسلة:
2025-11-22@01:41:39 GMT

انكسار الهيبة

تاريخ النشر: 28th, June 2025 GMT

انكسار الهيبة

27 يونيو، 2025

بغداد/المسلة: رياض الفرطوسي

حين تُقصف السماء لا تتساقط الصواريخ فقط، بل تنهار معها الصور المزيفة للقوة. في هذه الحرب، لم تُهزم إيران، ولم تنتصر إسرائيل، لكن الذي انكسر حقاً هو وهم “الهيبة” الذي روّجت له تل أبيب لعقود، وسوّقته واشنطن كقاعدة استراتيجية لا تُمس. إننا أمام لحظة تاريخية لا تُقاس بحجم الدمار فقط، بل بعمق التحوّل في موازين الردع، وسقوط الرواية القديمة للهيمنة.

في هذا المقال سنتتبع ملامح هذا الانكسار.

لم تكن السماء هذه المرة مجرد مجال للقتال. لقد تحوّلت إلى مرآة تعكس خلل العالم، وتكشف زيف التفوق، وتعري الحقيقة المجردة التي حاولت إسرائيل طويلًا طمسها تحت رماد أسلحتها. الحرب التي أرادت لها تل أبيب أن تكون استعراضاً صاخباً لانتصار محسوم، تحوّلت إلى كابوس استراتيجي لم يكن في الحسبان. فإيران، التي اعتادت أن تُقاتل بالحذر، فجّرت المفاجأة، لا بالتصعيد وحده، بل بإعادة تعريف طبيعة الردع وحدود التوازن.

لم تعلن إيران الحرب، لكنها كانت مهيأة لها. ولم تنتظر أن تُستدرج إلى الأرض، بل نقلت المواجهة إلى قلب السماء التي طالما توهّمت إسرائيل امتلاكها حصرياً. صواريخ ذكية عبرت القباب الحديدية كما لو كانت تمرّ عبر خطابٍ متصدّع. مراكز بحثية تحولت إلى ركام. بيوت وعمارات في تل أبيب وحيفا لم تعد تصلح للنشيد الوطني ولا لتصوير الجنود العائدين من الجبهات. وها هو مركز الأبحاث القومي الإسرائيلي نفسه يعترف بأن 73٪ من السكان لم يعودوا يصدقون ما تروّجه الحكومة عن «نجاحات» وهمية. الحقيقة صارت أقوى من الإعلام.

لقد تورّطت الولايات المتحدة، كما تفعل دائماً، في لحظة رعناء من الحسابات الخاطئة. تصوّر الرئيس دونالد ترامب أن الحسم لن يتجاوز ساعات. أن طهران سترفع الراية البيضاء، وأن صورته ستُعلق في قلب القدس المحتلة إلى جانب بنيامين نتنياهو في احتفال المنتصرين. لكن إيران، بخبرتها التاريخية، لم تقاتل بالطريقة التي يعرفها الغرب. بل قاتلت كما يُقاتل من لا يراهن على أحد، ولا يثق في أحد، ولا يكتب تاريخه إلا بمداد الرفض.

لقد شاركت واشنطن في الخديعة. أو هكذا ظنّت. فاستخدمت المفاوضات ستاراً لتغطية قرارٍ إسرائيلي بالحرب. وطالبت الإيرانيين صراحةً بإسقاط مرشدهم الأعلى، وكأنها تُعيد كتابة سيناريوهات العراق وسوريا بنسخة جديدة. لكنها لم تنتبه إلى أن الزمن تغيّر، وأن الشعوب المتورطة في الموت اليوم لم تعد كما كانت أمس.

حين هدّدت أمريكا بالتدخل، تراجعت تحت ضغط الداخل. الأصوات الرافضة اشتعلت من قلب واشنطن، لأن إيران لم تُعلن الحرب على أمريكا، ولأن البوصلة بدأت تنحرف، لا سياسياً فقط، بل أخلاقياً أيضاً. في المقابل، صواريخ إيران بدأت تكشف هشاشة قواعد اللعبة، ووضعت واشنطن أمام سؤال لم يكن في الحسبان: هل تخاطر بحرب شاملة لمجرّد إنقاذ صورة إسرائيل؟ وهل تجرؤ على فتح أبواب الجحيم في الخليج من أجل أن يبتسم نتنياهو في مؤتمر صحفي؟

المعادلة بدأت تتغيّر. لم تعد إسرائيل تملك حصرية المبادرة. التفوق العسكري لم يعد امتيازاً خالصاً، والدعم الأميركي لم يعد كافيًا لتغطية ارتباك المؤسسة الأمنية في تل أبيب. إننا أمام لحظة مفصلية يتقاطع فيها الفشل العسكري مع الفضيحة السياسية. فهل بقي شيء من الرواية الإسرائيلية؟ من تلك القصة التي تقول إنهم دائماً في موقع الدفاع، وإنهم الأكثر التزاماً بالقانون الدولي، وإنهم لا يقتلون المدنيين؟ هل يمكن حقاً أن تُقنع العالم بأن آلاف القتلى في غزة مجرّد «خسائر جانبية»؟

لقد تجاوزت إيران مرحلة المقاومة العمياء، ودخلت لعبة الحرب بتخطيط ووعي ومعرفة. صحيح أنها لم تَنتصر بعد، لكن الأصح أن إسرائيل لم تعُد قادرة على الادّعاء بأنها انتصرت. والتاريخ لا يكتبه من لم يخسر فقط، بل من أفشل مشروع الآخر.

في عمق هذه الحرب، تُمتحن مفاهيم جديدة: ما معنى الردع؟ وما حدود التفوق؟ ومن يحسم المعركة في زمن الطائرات المسيّرة والصواريخ فوق الصوتية؟ وهل لا تزال القواعد العسكرية كافية لضمان الأمن؟ أم أن هناك زمناً جديداً يوشك أن يولد من تحت الأنقاض، ومن فوق السطوح المحترقة، ومن بين جثث الأطفال في غزة والصرخات المكبوتة في طهران وتل أبيب على حد سواء؟

العالم يتابع، لكن لا أحد يستطيع التكهّن بالنهاية. الكل يتكلم عن النصر والهزيمة، لكن من يُحدد معايير النصر؟ من الذي يربح حقاً: من يُسقط الأبراج، أم من يُسقط الرواية؟ من يحتفل بالعدّاد الإلكتروني للضحايا، أم من يُربك المعادلة ويُجبر الخصم على مراجعة عقيدته القتالية؟ لقد دخلت الحرب مرحلة اللايقين، وهو أكثر ما يُرعب العدو الذي لا يحتمل المفاجآت.

لا ريب أن حرب اليوم قد تُفتح على أبواب أوسع. هناك حديث خافت عن السلاح النووي. وهناك إشارات مريبة من الجانب الإيراني إلى مفاجآت قادمة. فهل تكون الخطوة التالية تجربة نووية تُقلب الطاولة تماماً؟ وإن حدث ذلك، فمَن الذي يملك حق الرد؟ ومن الذي يتحمّل فاتورة العواقب؟

القانون الدولي، الذي ما زال يُحاضر علينا بحقوق الإنسان، يقف اليوم صامتاً. أو خائفاً. أو متواطئاً. لأن مشهده في غزة لا يحتاج إلى دليل: آلاف القتلى، صور أطفال مبتوري الأطراف، شوارع تُقصف كأنها صفحات قابلة للطيّ. أين المجتمع الدولي؟ أين الأمم المتحدة؟ أين تلك العدالة التي تُطربنا بها العواصم الكبرى حين تخاطبنا من فوق منصات المؤتمرات؟ لا جواب، سوى أن العالم اليوم يُدار بالصوت الأعلى لا بالحق الأوضح.

ربما لن تكون هذه الحرب مجرد جولة عابرة في دفتر الصراع، بل لحظة فارقة يُعاد فيها رسم حدود القوة. إنها مواجهة لا تُقاس بعدد الضربات، بل بعمق التحول: من يكتب التاريخ الآن، ومن يُجبر الآخر على قراءته بصوتٍ مرتجف؟

من حق إسرائيل أن تُراجع حساباتها. ومن حق إيران أن تشعر بأنها نقلت المعركة إلى مستوى لم يكن أحد يتوقعه. لكن الأهم من كل هذا، أن المنطقة كلها دخلت مرحلة جديدة. مرحلة لا تُقصف فيها السماء فقط، بل يُقصف معها وهم الاستقرار، وسُعار التفوق، وشهية الكذب الاستراتيجي.

لقد بدأ الزمن يتحرك في اتجاه آخر… وزمن الرواية الإسرائيلية القديمة، يبدو أنه قد شارف على نهايته.

المسلة – متابعة – وكالات

النص الذي يتضمن اسم الكاتب او الجهة او الوكالة، لايعبّر بالضرورة عن وجهة نظر المسلة، والمصدر هو المسؤول عن المحتوى. ومسؤولية المسلة هو في نقل الأخبار بحيادية، والدفاع عن حرية الرأي بأعلى مستوياتها.

About Post Author moh moh

See author's posts

المصدر: المسلة

كلمات دلالية: تل أبیب

إقرأ أيضاً:

هل انتهى دور «إسرائيل» الوظيفيّ؟

 

يخلط الكثيرون بين معادلتين مختلفتين، الأولى هي الدور الوظيفي لكيان الاحتلال كمخلب متقدّم وثكنة مزروعة في قلب الشرق لحماية المصالح الغربية عموماً، والأمريكية خصوصاً، وتأديب ومعاقبة كل مَن يتجرأ على تحدّيها، والثانية هي الالتزام الغربي عموماً، والأمريكي خصوصاً، بحماية كيان الاحتلال والحفاظ على قوته وتوفير الأسباب لتمكينه من الحصول على كل ضمانات الأمن الوجودي والاستراتيجي لبقائه على أرض فلسطين والاستعداد الغربي عموماً، والأمريكي خصوصاً، لتأديب ومعاقبة كل مَن يتجرأ على تحدّي هذه المعادلة.

السؤال المفصلي الذي يواجه أيّ باحث جدّي لا تحركه جيوبه الساعية للانتفاخ من عالم البروباغندا والاستخبارات، هو: أين تقع حرب السنتين التي شهدتها المنطقة؟ هل هي تعبير عن الدور الوظيفي للكيان في حماية المصالح الغربية عموماً، والأمريكية خصوصاً، باعتبار قوة المقاومة في غزة، من جهة عقبة أمام مشروع طريق الهند – أوروبا الهادف لتعطيل خط الحريري الصيني الذي يمر عبر إيران نحو أوروبا، وطريق الحرير الأمريكي البديل يفترض أن تستثمر فيه مئات مليارات الدولارات، من أنابيب نفط وغاز وطرق سريعة وخطوط سكك حديد تربط سواحل الخليج بساحل فلسطين المحتلة على مقربة من غزة، وكل هذا يستدعي تصفية المقاومة في غزة وإن أمكن تهجير سكانها، ومن جهة موازية تمثل المقاومة في غزة أحد الأجنحة الفعالة في محور المقاومة الذي تمثل إيران عمقه الاستراتيجي، والذي تجب تصفيته حتى تتمكّن واشنطن من عزل موسكو وبكين، فتجعل موسكو مجرد مركز منعزل في أقصى شمال الكوكب وبكين مركز آخر منعزلاً في أقصى الشرق، أم أن ما جرى في حرب السنتين كان حشداً غربياً شاملاً للدفاع عن كيان الاحتلال وتثبيت وجوده بعد الزلزال الذي عصف بمكوناته وروحه إثر طوفان الأقصى، ما استدعى مجيء القادة والرؤساء وأساطيلهم وحاملات طائراتهم؟

الجواب يستدعي الفصل بين ما تقوله الحرب وما تقوله نهاياتها، حيث يبدو واضحاً أن الحرب نفسها كانت تعبيراً مزدوجاً عن حرب أمريكيّة تتصل بالسعي لتوظيف اللحظة الإسرائيلية ومراكمة أسباب القوة فوقها، لاختبار إمكانية تعديل موازين القوى مع محور الصين روسيا إيران، من بوابة إضعاف إيران إذا تعذّر كسرها أو إخضاعها، من جهة، ومن جهة مقابلة محاولة لإعادة رسم الجغرافيا السياسية والعسكرية والاقتصادية في غرب آسيا، من خلال توظيف اللحظة الإسرائيلية في الحرب والاستثمار فيها، لإنهاء قوى المقاومة وفرض الهيمنة على غرب آسيا وتحويله إلى منطقة صافية للنفوذ الأمريكي، ولكن هذه الحرب هي نفسها حرب “إسرائيل” الكبرى وحرب “إسرائيل” العظمى وحرب “إسرائيل” الوجودية وحرب “إسرائيل” الحدودية، لكن هذه الحرب التي حققت لأمريكا موقعاً تفاوضياً أفضل في معادلتي الصراع مع روسيا والصين، والصراع حول غرب آسيا، أخفقت في حسم الصراع وتحقيق اطمئنان “إسرائيل” الوجودي والحدودي، وضمناً فتح الطريق نحو “إسرائيل” العظمى و”إسرائيل” الكبرى، وبمقدار ما أن النتيجتين بائنتان ولا تحتاجان إلى إثبات، فإنهما تفتحان الطريق نحو فرضية إشكالية كبرى، حيث حسن استثمار واشنطن على الفرصة التفاوضية يستدعي فك التلازم بين حربها وحرب “إسرائيل”، والتسليم بأن التطلعات الإسرائيلية صارت عقبة أمام استثمار أمريكا لوضعها التفاوضي الجديد، وأن الدور الوظيفي لـ”إسرائيل” قد انتهى، وأن على أمريكا فرض الانتقال إلى معادلة الحماية مع “إسرائيل” بدلاً من معادلة الدور الوظيفي.

إذا نجحت واشنطن في التخلص من عبء الدور الوظيفي لـ”إسرائيل”، وانطلقت في خط الانفتاح على حقائق ووقائع المنطقة، فهي تستطيع أن تستثمر على حلفاء مثل السعودية ومصر وتركيا، وتنفتح على علاقة من نوع مختلف مع إيران، وهذا التحرر يحاكي وضع أمريكي داخلي ضاق ذرعاً بدرجة التماهي الأمريكي مع السياسات الإسرائيلية والإجرام الإسرائيلي، وتتيح زيارة ولي العهد السعودي إلى أمريكا ملاحظة بعض الإشارات التي تقول إن تل أبيب لم تعد بوابة واشنطن، وإن مكانة دول مثل السعودية تعاظمت بالمقارنة مع دور “إسرائيل”، دون الوقوع في وهم التخلي الأمريكي عن حماية “إسرائيل” وضمان أمنها الوجودي والاستراتيجي، وإنه إلى حد كبير صار أمن “إسرائيل” أمريكياً منوطاً بضبط التهور الإسرائيلي والتغول الإسرائيلي والتوحش الإسرائيلي، لفتح الباب أمام حلفاء مثل السعودية لتوفير ضمانات الحماية المطلوبة لبقاء “إسرائيل” الوجودي والاستراتيجي. وهذا يتوقف على قدرة واشنطن على السير بخيار يحاكي توصيات لجنة بيكر هاملتون عام 2006م وفي قلبها التفاعل إيجابياً مع المبادرة العربية للسلام.

* رئيس تحرير صحيفة البناء اللبنانية

 

 

مقالات مشابهة

  • إعلام عبري: ترامب لا يتوقع انسحاب إسرائيل من الأراضي التي احتلتها جنوب سوريا
  • هل انتهى دور «إسرائيل» الوظيفيّ؟
  • جوزيف عون: الجيش اللبناني جاهز لتسلم النقاط الخمس التي تحلتها إسرائيل
  • إسرائيل تستعد لسيناريو قتال مع إيران يستمر لأكثر من 12 يوما
  • إيران ترفض السماح للطاقة الذرية بتفتيش منشآتها النووية المتضررة من الحرب
  • خاتمي يُحذر من انهيار النظام بسبب تفاقم الأزمات والتهديدات التي تواجهها إيران
  • روسيا التي صنعها بوتين.. كيف أُعيد تشكيل البلاد ؟
  • ما الذي تحتاجه خطة ترامب لإنهاء الحرب بين روسيا وأوكرانيا؟
  • سوريا تندد باقتحام نتنياهو لجنوبها الذي تحتله إسرائيل عسكريا
  • النار تحت الرماد.. سيناريوهات “صراع وشيك” بين إيران وإسرائيل