المسلة:
2025-06-28@01:41:19 GMT

انكسار الهيبة

تاريخ النشر: 28th, June 2025 GMT

انكسار الهيبة

27 يونيو، 2025

بغداد/المسلة: رياض الفرطوسي

حين تُقصف السماء لا تتساقط الصواريخ فقط، بل تنهار معها الصور المزيفة للقوة. في هذه الحرب، لم تُهزم إيران، ولم تنتصر إسرائيل، لكن الذي انكسر حقاً هو وهم “الهيبة” الذي روّجت له تل أبيب لعقود، وسوّقته واشنطن كقاعدة استراتيجية لا تُمس. إننا أمام لحظة تاريخية لا تُقاس بحجم الدمار فقط، بل بعمق التحوّل في موازين الردع، وسقوط الرواية القديمة للهيمنة.

في هذا المقال سنتتبع ملامح هذا الانكسار.

لم تكن السماء هذه المرة مجرد مجال للقتال. لقد تحوّلت إلى مرآة تعكس خلل العالم، وتكشف زيف التفوق، وتعري الحقيقة المجردة التي حاولت إسرائيل طويلًا طمسها تحت رماد أسلحتها. الحرب التي أرادت لها تل أبيب أن تكون استعراضاً صاخباً لانتصار محسوم، تحوّلت إلى كابوس استراتيجي لم يكن في الحسبان. فإيران، التي اعتادت أن تُقاتل بالحذر، فجّرت المفاجأة، لا بالتصعيد وحده، بل بإعادة تعريف طبيعة الردع وحدود التوازن.

لم تعلن إيران الحرب، لكنها كانت مهيأة لها. ولم تنتظر أن تُستدرج إلى الأرض، بل نقلت المواجهة إلى قلب السماء التي طالما توهّمت إسرائيل امتلاكها حصرياً. صواريخ ذكية عبرت القباب الحديدية كما لو كانت تمرّ عبر خطابٍ متصدّع. مراكز بحثية تحولت إلى ركام. بيوت وعمارات في تل أبيب وحيفا لم تعد تصلح للنشيد الوطني ولا لتصوير الجنود العائدين من الجبهات. وها هو مركز الأبحاث القومي الإسرائيلي نفسه يعترف بأن 73٪ من السكان لم يعودوا يصدقون ما تروّجه الحكومة عن «نجاحات» وهمية. الحقيقة صارت أقوى من الإعلام.

لقد تورّطت الولايات المتحدة، كما تفعل دائماً، في لحظة رعناء من الحسابات الخاطئة. تصوّر الرئيس دونالد ترامب أن الحسم لن يتجاوز ساعات. أن طهران سترفع الراية البيضاء، وأن صورته ستُعلق في قلب القدس المحتلة إلى جانب بنيامين نتنياهو في احتفال المنتصرين. لكن إيران، بخبرتها التاريخية، لم تقاتل بالطريقة التي يعرفها الغرب. بل قاتلت كما يُقاتل من لا يراهن على أحد، ولا يثق في أحد، ولا يكتب تاريخه إلا بمداد الرفض.

لقد شاركت واشنطن في الخديعة. أو هكذا ظنّت. فاستخدمت المفاوضات ستاراً لتغطية قرارٍ إسرائيلي بالحرب. وطالبت الإيرانيين صراحةً بإسقاط مرشدهم الأعلى، وكأنها تُعيد كتابة سيناريوهات العراق وسوريا بنسخة جديدة. لكنها لم تنتبه إلى أن الزمن تغيّر، وأن الشعوب المتورطة في الموت اليوم لم تعد كما كانت أمس.

حين هدّدت أمريكا بالتدخل، تراجعت تحت ضغط الداخل. الأصوات الرافضة اشتعلت من قلب واشنطن، لأن إيران لم تُعلن الحرب على أمريكا، ولأن البوصلة بدأت تنحرف، لا سياسياً فقط، بل أخلاقياً أيضاً. في المقابل، صواريخ إيران بدأت تكشف هشاشة قواعد اللعبة، ووضعت واشنطن أمام سؤال لم يكن في الحسبان: هل تخاطر بحرب شاملة لمجرّد إنقاذ صورة إسرائيل؟ وهل تجرؤ على فتح أبواب الجحيم في الخليج من أجل أن يبتسم نتنياهو في مؤتمر صحفي؟

المعادلة بدأت تتغيّر. لم تعد إسرائيل تملك حصرية المبادرة. التفوق العسكري لم يعد امتيازاً خالصاً، والدعم الأميركي لم يعد كافيًا لتغطية ارتباك المؤسسة الأمنية في تل أبيب. إننا أمام لحظة مفصلية يتقاطع فيها الفشل العسكري مع الفضيحة السياسية. فهل بقي شيء من الرواية الإسرائيلية؟ من تلك القصة التي تقول إنهم دائماً في موقع الدفاع، وإنهم الأكثر التزاماً بالقانون الدولي، وإنهم لا يقتلون المدنيين؟ هل يمكن حقاً أن تُقنع العالم بأن آلاف القتلى في غزة مجرّد «خسائر جانبية»؟

لقد تجاوزت إيران مرحلة المقاومة العمياء، ودخلت لعبة الحرب بتخطيط ووعي ومعرفة. صحيح أنها لم تَنتصر بعد، لكن الأصح أن إسرائيل لم تعُد قادرة على الادّعاء بأنها انتصرت. والتاريخ لا يكتبه من لم يخسر فقط، بل من أفشل مشروع الآخر.

في عمق هذه الحرب، تُمتحن مفاهيم جديدة: ما معنى الردع؟ وما حدود التفوق؟ ومن يحسم المعركة في زمن الطائرات المسيّرة والصواريخ فوق الصوتية؟ وهل لا تزال القواعد العسكرية كافية لضمان الأمن؟ أم أن هناك زمناً جديداً يوشك أن يولد من تحت الأنقاض، ومن فوق السطوح المحترقة، ومن بين جثث الأطفال في غزة والصرخات المكبوتة في طهران وتل أبيب على حد سواء؟

العالم يتابع، لكن لا أحد يستطيع التكهّن بالنهاية. الكل يتكلم عن النصر والهزيمة، لكن من يُحدد معايير النصر؟ من الذي يربح حقاً: من يُسقط الأبراج، أم من يُسقط الرواية؟ من يحتفل بالعدّاد الإلكتروني للضحايا، أم من يُربك المعادلة ويُجبر الخصم على مراجعة عقيدته القتالية؟ لقد دخلت الحرب مرحلة اللايقين، وهو أكثر ما يُرعب العدو الذي لا يحتمل المفاجآت.

لا ريب أن حرب اليوم قد تُفتح على أبواب أوسع. هناك حديث خافت عن السلاح النووي. وهناك إشارات مريبة من الجانب الإيراني إلى مفاجآت قادمة. فهل تكون الخطوة التالية تجربة نووية تُقلب الطاولة تماماً؟ وإن حدث ذلك، فمَن الذي يملك حق الرد؟ ومن الذي يتحمّل فاتورة العواقب؟

القانون الدولي، الذي ما زال يُحاضر علينا بحقوق الإنسان، يقف اليوم صامتاً. أو خائفاً. أو متواطئاً. لأن مشهده في غزة لا يحتاج إلى دليل: آلاف القتلى، صور أطفال مبتوري الأطراف، شوارع تُقصف كأنها صفحات قابلة للطيّ. أين المجتمع الدولي؟ أين الأمم المتحدة؟ أين تلك العدالة التي تُطربنا بها العواصم الكبرى حين تخاطبنا من فوق منصات المؤتمرات؟ لا جواب، سوى أن العالم اليوم يُدار بالصوت الأعلى لا بالحق الأوضح.

ربما لن تكون هذه الحرب مجرد جولة عابرة في دفتر الصراع، بل لحظة فارقة يُعاد فيها رسم حدود القوة. إنها مواجهة لا تُقاس بعدد الضربات، بل بعمق التحول: من يكتب التاريخ الآن، ومن يُجبر الآخر على قراءته بصوتٍ مرتجف؟

من حق إسرائيل أن تُراجع حساباتها. ومن حق إيران أن تشعر بأنها نقلت المعركة إلى مستوى لم يكن أحد يتوقعه. لكن الأهم من كل هذا، أن المنطقة كلها دخلت مرحلة جديدة. مرحلة لا تُقصف فيها السماء فقط، بل يُقصف معها وهم الاستقرار، وسُعار التفوق، وشهية الكذب الاستراتيجي.

لقد بدأ الزمن يتحرك في اتجاه آخر… وزمن الرواية الإسرائيلية القديمة، يبدو أنه قد شارف على نهايته.

المسلة – متابعة – وكالات

النص الذي يتضمن اسم الكاتب او الجهة او الوكالة، لايعبّر بالضرورة عن وجهة نظر المسلة، والمصدر هو المسؤول عن المحتوى. ومسؤولية المسلة هو في نقل الأخبار بحيادية، والدفاع عن حرية الرأي بأعلى مستوياتها.

About Post Author moh moh

See author's posts

المصدر: المسلة

كلمات دلالية: تل أبیب

إقرأ أيضاً:

إسرائيل تعلن لأول مرة تحرك كوماندوز برية داخل إيران

صراحة نيوز- كشف رئيس الأركان الإسرائيلي إيال زامير عن تحرك مجموعات “كوماندوز برية” داخل إيران خلال الحرب التي استمرت 12 يومًا بين البلدين. وأوضح أن النجاحات تحققت بفضل القوات الجوية وقوات الكوماندوز التي عملت سرًا في عمق أراضي العدو، مما منح الجيش الإسرائيلي حرية التحرك العملياتي.

زامير أشار في فيديو نشره الجيش إلى أن هذه هي المرة الأولى التي تنفذ فيها قوات برية إسرائيلية عمليات داخل إيران، مؤكداً أن الحرب قد انتهت لكن الحملة لم تكتمل بعد، مع ضرورة البقاء في حالة تأهب لمواجهة التحديات المقبلة.

ويأتي هذا الإعلان بعد هدنة أُعلن عنها بوساطة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أنهت الصراع الذي استمر 12 يومًا بين إسرائيل وإيران، فيما لم تصدر طهران أي تعليق رسمي حتى الآن.

مقالات مشابهة

  • كشف نسبة صواريخ إيران التي ضربت داخل إسرائيل من العدد الإجمالي.. والأخيرة تعدد 13 هدفا حققته بـ12 يوما
  • لماذا فشلت إسرائيل في كسر إيران؟
  • لماذا شددت إسرائيل حصار غزة بعد الحرب مع إيران؟ مغردون يتفاعلون
  • إيران: خسائر إسرائيل في الحرب كانت كبيرة
  • هل انتصرت إيران أم أن إسرائيل هزمت؟
  • إسرائيل تكشف عن تحرك الـكوماندوس براً في إيران خلال الحرب
  • إيران ليست حزب الله.. ماذا قيل في إسرائيل عن مرحلة ما بعد الحرب؟
  • إسرائيل تعلن لأول مرة تحرك كوماندوز برية داخل إيران
  • لماذا تخلت روسيا عن إيران في حربها مع إسرائيل؟