على سرير مستشفى الشفاء الطبى المدمر، تصارع غدير الرضيع (30) عامًا من أجل البقاء على قيد الحياة بعد تعرضها للإصابة برفقة أبنائها في قصف إسرائيلي لمنزل كانت موجودة فيه في مدينة بيت لاهيا شمال قطاع غزة، أدى القصف إلى بتر في القدم اليسرى، بينما قدمها اليمنى تعاني من كسور وبلاتين والتهابات حادة، فيما تنتشر الشظايا في باقي جسدها.
يُسمع صوت أنينها الدائم في أروقة المستشفى، لا تهدأ إلا بعد تناول بعض المسكنات أو المهدئات التي تساعدها على النوم لبرهة من الوقت.
تقول غدير وهي تتحسس قدمها المبتورة : «كنت نائمة بجوار أبنائي الثلاثة، كانت أصوات الانفجارات قريبة جدا، لم نستطع الحركة من مكان وجودنا، فجأة رأيت ضوءا شديدا أحمر في المكان، وبعدها صحوت وأنا أصرخ داخل المستشفى الأندونيسي، سقط عدد من الشهداء من بينهم سيدة حامل في الشهر التاسع كانت تنتظر مولودها، استشهدت برفقة زوجها ووالدتها وشقيقها، تحولت حياتي إلى جحيم بعدما بترت ساقي اليسرى كلها، أما ساقي اليمنى فتعاني من كسور، أجريت لي عمليه طبية وتم وضع بلاتين، أعاني من تقرحات والتهابات شديدة في قدمي، تزداد يومًا بعد يوم، المضادات الحيوية معظمها منتهية الصلاحية إن وجدت».
صمت ساد المكان بينما كانت دموع الموجودات من النساء شاهدة على حجم المعاناة، فالمستشفيات لم تعد كالسابق، مدمرة دون إمكانيات، حتى الطواقم الطبية لم يعد وجودها كالسابق فبعض الأطباء أصبحوا في عداد الشهداء والجرحى وآخرون أسرى في سجون الاحتلال الإسرائيلي.
مسحت غدير دموعها وأشارت لي بيدها وكأنها تتوسل العالم كله أن يقف بجانبها قائلة: «أتمنى أن أتمكن من السفر للخارج برفقة أطفالي، حالتي الصحية تتدهور وأخشى أن يؤدي الالتهاب إلى بتر قدمي الأخرى بالكامل، لا يوجد طعام، المجاعة تتفشى وهذا تسبب في نقص الفيتامينات والكالسيوم، المعبر مغلق منذ أكثر من عام أمام سفر المرضى والجرحى، هذا الحال لا يسر عدو ولا صديق، حياتنا تساوت مع العدم».
الغرفة داخل قسم النساء بالمستشفى مكتظة بالمريضات ما بين إصابات بسبب القصف، نساء يعانين من الفشل الكلوي، وأخريات مصابات بالسرطان، أما المصابات بالأمراض المزمنة فمعظمهن لم يحصلن على العلاج المناسب بسبب النقص الحاد في المستلزمات الطبية.
عدم توفر العلاج أنهك أجساد المرضى، بين الحياة والموت، ينتظر جميعهم نافذة أمل للعلاج في الخارج قبل أن يُغلَق باب النجاة إلى الأبد بعد حصولهم على تحويلات طبية عاجلة بالتزامن مع إغلاق المعبر واستمرار الحرب والمجازر والنزوح والإبادة .
إلى جانب آخر في خيمة مهترئة وبالية يعاني المصاب منصور صالح (35) عامًا الأمرين للحصول على العلاجات اللازمة بعد إصابته جراء القصف الإسرائيلي على شمال غزة، مكث منصور داخل المستشفى أكثر من عام تقريبًا يعاني من «موت سريري» كما كان يطلق عليه الأطباء، لكنه تعافى وأصبح على كرسي متحرك، يعاني من نوبات عصيبه شديدة، تحتاج إلى مهدئات بشكل دوري، في ظل شح الأدوية وعدم وجود المراكز الطبية المتخصصة في غزة لمتابعة حالته، أصبح يعاني من مضاعفات صحية خطيرة كما أخبرتني زوجته: «كنت أستلم علاج منصور بشكل دوري كل شهر، أحمل التقرير الطبي وأذهب إلى إحدى المؤسسات التي توفر هذا النوع من العلاج المهدئ، اليوم لا علاج موجود، زوجي يعاني من نوبات صراخ وهلع بشكل مستمر خصوصًا في الليل، أطفالي أصيبوا بالخوف بسبب صراخه المستمر».
تصف زوجة منصور الوضع في المخيم قائلة: «كل شيء هنا مؤلم ومتعب، الخيمة ضيقة، والظروف لا تُطاق، وحتى الطعام أصبح قليلًا ولا يكفي، أبنائي يعانون من سوء التغذية بسبب نقص الطعام والمجاعة المنتشرة في غزة».
حال منصور كحال الآلاف من سكان القطاع، المصابين الذين يفتقدون للمراكز المتخصصة التي كانت تقوم على رعايتهم قبل اندلاع الحرب في أكتوبر عام 2023.
في خيمةٍ بالية بملعب اليرموك غرب مدينة غزة، تُحاول هناء سالم (44) عامًا إشعال موقد بدائي مصنوع من علبة حديد فارغة، بينما يجلس أطفالها بجوارها ينتظرون وجبة حساء العدس على أحر من الجمر، فقدَت هناء قدمها اليسرى في قصفٍ إسرائيلي في بداية الحرب، أصبحت تفاصيل حياتها اليومية رحلة كفاح مستمرة.
تقول بينما تحاول الحفاظ على النار مشتعلة، تدس بعض الحطب تحت النار «كل شيء أصبح صعبًا، لا مقومات للحياة داخل الخيمة، ولا سهولة في الحركة مطلقًا، حتى غسل الأواني تحوّل إلى معضلة في ظل شح الماء النظيف وبعد مسافة محطة المياه، يتطلب مني الأمر القفز على عكازٍ واحد مدة 10 دقائق على الأقل بشكل يومي، أطفالي صغار لا يستطيعون المساعدة، وزوجي تم اعتقاله أثناء وجوده برفقتي داخل مستشفى الشفاء، لا طعام متوفر ولا مساعدات، بصعوبة أستطيع الحصول على طعام لأطفالي في ظل تفشى المجاعة «الخيمة التي تسكنها هناء مع عائلتها المكونة من ستة أفراد لا تتجاوز مساحتها 8 متر مربع، وهي مصنوعة من القماش في الصيف تتحول الخيمة إلى فرن وفى الشتاء تصبح الخيمة عبارة عن بركة تتجمع فيها الأمطار، الاحتلال لم يسرق ساقي فقط، بل سرق حتى حقي في الحزن دون إهانة، بيتي أصبح أثرًا بعد عين، لم يتبق لنا شيء لنشعر بأننا بخير «تضيف بينما تمسح دموعها التي لم تجف منذ أشهر».
في المخيمات أصبحت أبسط حقوق الإنسان في العيش بكرامة حلم مستحيل، نقص حاد في الطعام والماء ومقومات الحياه الطبيعية.
معاناة الجرحى الذين يفتقدون إلى الرِّعاية الصحية ليست حالة فردية، يشير الطبيب خليل الدقران، المتحدث باسم وزارة الصحة الفلسطينية في غزة، الذي يوضح كيف أن الحصار وظروف الحرب جعلت معاناتهم أكثر تعقيدًا.
يشتكي هؤلاء الجرحى أيضًا تأخر إجراء العمليات الجراحية لهم بسبب شح الأدوية، في الوقت ذاته، يعصف الحصار في مكونات النظام الصحي بقطاع غزة. المستشفيات التي تفتقد للكثير من الأدوية والمستلزمات الطبيّة والأطعمة التي تُقدم للمرضى، أصبحت المستشفيات غير قادرة على تقديم الرِّعاية الصحيّة اللازمة للجرحى والمرضى، بينما يُدمر الاحتلال المرافق الحيوية، بما في ذلك مشفى حمد، الذي كان يوفّر الخدمات الطبية الضرورية للمصابين.
«القطاع الطبي على حافة الانهيار»، يقول الطبيب الدقران، مُضيفًا أنَّ الوضع الصحي للمصابين يتدهور بشكلٍ متسارع في غياب العلاج المتخصص.
أما جراح العظام في مستشفى الشفاء، الدكتور أحمد العبسي، فقد قال وهو يشير إلى صورة أشعة لطفلة فقدت ساقيها: «هذه حالة بتر واحدة فقط من أصل 4500 حالة مُسجلة رسميًا».
ويضيف العبسي: «70% من الحالات بحاجة إلى عمليات تكميلية، لأنَّ البتر الأول أجري في ظروفٍ طارئة، دون تعقيم كافٍ».
وأكّدت تقارير ميدانية أنَّ معظم المبتورين في غزة يُعانون من التهاباتٍ مُزمنة بسبب نقصٍ حادّ في المضادات الحيوية وغياب ظروف التعقيم المناسبة.
«الالتهابات الثانوية بعد البتر مُنتشرة بشكلٍ كبير، نتيجة لتعرُّض الجروح لظروفٍ غير صحيّة أثناء أو بعد العمليات مُباشرة»، يوضح العبسي.
يتقاطع حديث العبسي مع ما ورد في تقرير «هيومن رايتس ووتش» الصادر في أبريل 2024، والذي وثق حالات لمبتورين أُجريت لهم عمليات بتر دون تخدير كافٍ، ما زاد من خطر الالتهابات الشديدة التي تُهدد حياة العديد منهم.
ليس المبتورون فقط، بل إنَّ 60% من المصابين في غزة يُعانون مضاعفاتٍ صحيَّة نتيجة نقص الرعاية الطبيّة، وفقًا لتقرير الأمم المتحدة الصادر في مارس 2024.
كما أكّد التقرير أنّ 70% من المستشفيات في القطاع غير قادرة على تقديم خدمات جراحية آمنة بسبب نقص المُعدَّات الطبيّة وأدوات التعقيم.
بدورها، تفيد المختصة الاجتماعية والنفسية ختام أبوعودة، أنَّ الحالات المصابة بإعاقات طارئة ناتجة عن الحرب في قطاع غزة، تعاني آثارا نفسية واجتماعية عميقة على المصابين.
إذ يعاني هؤلاء الأشخاص من صدمات نفسية حادة، مثل الاكتئاب والقلق، واضطرابات النوم.
وتشير أبو عودة إلى أنّ الإصابات يصاحبها تراجع في الثقة بالنفس وصعوبة في التكيف مع الحياة الجديدة؛ ما يؤدي إلى عزلة اجتماعية متزايدة والشعور بالرفض من المجتمع ويزيد تحدّياتهم اليومية ويؤثر على جودة حياتهم.
على الصعيد الاجتماعي، يواجه المصابون صعوبة في الاندماج في المجتمع، خاصة في ظل الظروف الاقتصادية المتدهورة في غزة. فالعزلة الاجتماعية تصبح أكثر وضوحًا، حيث يتعذر عليهم الوصول إلى فرص العمل أو المشاركة في الأنشطة اليومية بسبب الإعاقة.
كما أن أعباء الرعاية الصحية المستمرة تضع ضغوطًا مالية كبيرة على الأسر، مما يعمق معاناتهم. وتقول أبو عودة: «هذه التحديات تزداد صعوبة في ظلّ نقص الدعم الاجتماعي والموارد الطبية المتاحة»؛ مما يجعل التأقلم مع الحياة اليومية أمرًا بالغ التعقيد ويؤثر على الاستقرار النفسي والاجتماعي للمصابين وأسرهم.
عشرات الآلاف يتشاركون هذا الواقع وذات المأساة والمصير، إذ تُشير التقارير المحليّة الأولية إلى أن الحرب الإسرائيلية الأخيرة وفي تصريح ورد عن وزارة الصحة في غزة أشار إلى أن حصيلة العدوان الإسرائيلي على غزة وصل إلى 56,259 شهيـــدا و 132,458 إصابة منذ السابع من أكتوبر للعام 2023م.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: یعانی من التی ت فی غزة
إقرأ أيضاً:
مسؤول طبي : الأمراض تنتشر بشكل كبير في غزة
قال مسؤول طبي ، مساء اليوم الأحد 29 يونيو 2025 ، إن الأمراض تنتشر بشكل كبير في قطاع غزة ولا سيما بين الأطفال ، مبينا أنه تم تسجيل أكثر من 400 حالة حمى شوكية منذ بداية العام الجاري.
وأضاف المتحدث باسم مستشفى شهداء الأقصى بدير البلح وسط قطاع غزة ، خليل الدقران ، لقناة الجزيرة القطرية ، أن سوء التغذية ينتشر في جميع محافظات القطاع ، ونعيش ظروفا صعبة جدا وأماكن الإيواء والنزوح، بلا مساعدات".
وأوضح أن هناك أكثر من 580 شهيدا و4 آلاف مصاب في صفوف منتظري المساعدات ، مبينا أن ارتفاع أعداد الجرحى يضغط على منظومة الرعاية الصحية في القطاع، والمنظومة الصحية شبه منهارة بسبب ارتفاع عدد المصابين.
وأشار إلى أن آلية المساعدات الجديدة سبب للمنظومة الصحية أزمة كبيرة ، مؤكدا أن الاحتلال الإسرائيلي يستهدف التكايا التي توزع الطعام على السكان.
ودعا المسؤول الطبي المنظمات الدولية لتحمل مسؤولياتها في مساندة المؤسسات الصحية في قطاع غزة.
المصدر : وكالة سوا اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد المزيد من آخر أخبار فلسطين الوحيدي : إسرائيل دمرت 74% من أصول قطاع الاتصالات في غزة إصابة 3 مواطنين برصاص مستوطنين في حزما شمال شرق القدس الأمن الوقائي يُجري مراسم الاستلام والتسليم للمدراء الجدد الأكثر قراءة ظاظا : رحمة تسعى بكل الطرق لإدخال المساعدات إلى غزة الجيش الإسرائيلي يهاجم عشرات الأهداف في إيران سعر صرف الدولار مقابل الشيكل اليوم الاثنين الاحتلال يشن حملة اعتقالات واسعة في محافظة رام الله والبيرة عاجلجميع الحقوق محفوظة لوكالة سوا الإخبارية @ 2025