اليمن واستراتيجية الحرب الاقتصادية
تاريخ النشر: 24th, July 2025 GMT
من ساحات القتال إلى ميادين الاقتصاد والنقد، كشفت قيادة صنعاء عن عمق رؤيتها الاستراتيجية وبراعة حنكتها في إدارة الأزمات، محولةً حرباً اقتصادية شرسة شنتها “دول تحالف العدوان” بقيادة أمريكية سعودية إماراتية إلى قصة صمود وابتكار وإنجاز على أرض الواقع اليمني.
لقد أدركت قيادة صنعاء منذ اللحظة الأولى أن إجراء نقل البنك المركزي اليمني من صنعاء إلى عدن، لم يكن مجرد إجراء إداري، بل كان بمثابة ضربة استراتيجية خطيرة تهدف إلى شل عصب الحياة الاقتصادية لليمن وإفقار شعبه، وقطع رواتب موظفيه، وخلق فوضى مالية ونقدية تعصف باستقرار اليمن وتسهل السيطرة عليه بعد فشل العدوان العسكري عليه والذي دام لسنوات.
لقد استهدفت الحرب الاقتصادية العملة الوطنية اليمنية كأداة رئيسية، بحيث انطلقت حكومة الارتزاق، المدعومة من دول تحالف العدوان، لطباعة كميات هائلة من الريال اليمني وبطريقة عشوائية بلا غطاء، مما أدى إلى إغراق السوق المحلية سواء في المناطق المحررة أو المحتلة، بهذه الكتلة النقدية “المزورة” وغير الشرعية بكل المعايير الاقتصادية، بهدف إحداث تضخم جامح يلتهم مدخرات المواطن اليمني ويدمر القوة الشرائية، ويسحق الاقتصاد المحلي، ويخلق حالة من اليأس والإحباط تسهل إخضاع الشعب الذي صمد ببسالة لسنوات.
وهنا يبرز الذكاء الاستراتيجي للقيادة في صنعاء، والذي تجلى في خطوات مدروسة مترابطة ومتدرجة، اتسمت بالحزم والابتكار والتوقيت الدقيق، فبدلاً من الانجرار إلى ردود أفعال عشوائية، أدركت قيادة صنعاء خطورة الإغراق للأسواق المتعمد بالعملة “المزورة” وفهمت أن السماح بتداولها جنباً إلى جنب مع العملة الوطنية القديمة، سيؤدي حتماً إلى كارثة اقتصادية لا تحمد عقباها.
فكانت الخطوة الأولى والحاسمة لها جراء هذا الإجراء، هي فرض السيادة النقدية وحماية السوق المحلي، بحيث قام البنك المركزي اليمني في صنعاء، وبتوجيهات القيادة، بحظر تداول العملة “المزورة” وبشكل تدريجي بدءاً من العاصمة صنعاء قلب الصمود ومقر السيادة الوطنية، ومن ثم توسع الحظر ليشمل بقية المحافظات المحررة تباعاً، وهذه الخطوة لم تكن سهلة، بل واجهت تحديات جمة، ولكنها كانت ضرورية من أجل وقف النزيف الاقتصادي.
وفي نفس الوقت، أظهرت القيادة الحكيمة في العاصمة صنعاء حساً وطنياً عالياً بتشجيع التعامل بالعملة الوطنية، مهما كان حالها – مقطعة أو شبه تالفة – كتعبير عملي عن الثقة في الاقتصاد الوطني ورفض سياسة الإفقار والإذلال.
لقد فهمت قيادة صنعاء أن هذه المعركة معركة اقتصادية ونفسية ضد شعبنا اليمني في آن واحد، وأن الحفاظ على تداول العملة الوطنية هو خط دفاع أول عن الكرامة والاستقلال.
ولكن عدوانية أدوات التحالف لم تتوقف عند حد طباعة العملة بلا غطاء وإغراق الأسواق بها، بل انتقلت إلى شن حرب إجرامية على العملة الوطنية نفسها، بحيث سعت حكومة الإرتزاق، وبدعم مباشر من دول تحالف العدوان، إلى إتلاف العملة الوطنية القديمة المتداولة في المناطق المحررة وبطرق متعددة، ومنها حظر تداول فئات معينة منها وبشكل مفاجئ في المناطق المحتلة، ومن ثم منع إدخالها إلى المناطق المحتلة، بل وتشجيع تدميرها وتشويهها بشكل متعمد، بالإضافة إلى الاستمرار في ضخ عملتهم “المزورة” بمليارات الريالات في محاولة يائسة لاستبدال العملة الوطنية بها.
هذا الهجوم المزدوج من إغراق السوق المحلية بعملة بلا قيمة وإتلاف العملة الوطنية، استهدف وبشكل خاص الفئات المتوسطة والصغيرة (50، 100، 200 ريال) تمهيداً لضرب الفئات الأكبر (500، 1000 ريال)، مما تسبب في تدهور سريع وحاد في قيمة الريال وارتفاع جنوني في الأسعار، وخلق معاناة حقيقية للمواطن اليمني.
وفي ذروة هذه الأزمة، أظهر البنك المركزي اليمني في صنعاء، وبتوجيهات من القيادة الحكيمة، براعة استثنائية وابتكاراً ملحوظاً في الخطوة الثانية: المتمثلة بإعادة بناء الثقة واستحداث أدوات نقدية رادعة بدلاً من الانجرار إلى معركة طباعة ورقية قد تستنزف الموارد وتكون عرضة للتزوير والإغراق مجدداً، اختارت القيادة في صنعاء سلاحاً اقتصادياً ذكياً ومفاجئاً تمثل في تحويل الفئات الصغيرة إلى عملات معدنية في خطوة مدوية هزت حسابات العدوان، واستبدلت العملات الورقية لفئة 100 ريال أولاً، وتلتها فئة الـ 50 ريالا بعملات معدنية.
لم تكن هذه الخطوة مجرد استبدال مادي، بل كانت ضربة استراتيجية متعددة الأبعاد:
أولاً: العملات المعدنية أعلى تكلفة في التزوير بشكل كبير مقارنة بالأوراق النقدية، مما يجعل محاولات تزويرها أو إغراق السوق بنسخ مزورة منها مهمة شبه مستحيلة وباهظة التكلفة بالنسبة لأعداء اليمن وشعبه، فقطع بذلك رهانهم على الاستمرار في حرب التزوير والإغراق لهذه الفئات.
ثانياً: العملة المعدنية ترمز إلى الديمومة والاستقرار، مما يساهم في استعادة جزء كبير من الثقة المفقودة بالعملة الوطنية في أوساط المواطنين.
ثالثاً: سهولة تداولها وقبولها في المعاملات الصغيرة لقطاعات اقتصادية حيوية كانت تعاني من شح السيولة المناسبة.
لقد كانت هذه الخطوة بمثابة مفاجأة تكتيكية قلبت موازين الحرب الاقتصادية، وأثبتت أن قيادة صنعاء ليست في موقع الدفاع فحسب، بل قادرة على المبادرة والابتكار.
ولم تتوقف عجلة الابتكار عند هذا الحد، فبعد نجاح طرح العملات المعدنية وترميم الثقة في الفئات الصغيرة، انتقلت استراتيجية القيادة في صنعاء وببراعة إلى معالجة الفئات المتوسطة والكبيرة وإصلاح البنية النقدية، بطرح الإصدار الثاني لفئة 200 ريال الورقية بعملة ورقية مماثلة ولكن بمواصفات أمنية متطورة وعالية التعقيد، تجعل من عملية تزويرها أمراً بالغ الصعوبة، وبتصميم يعزز الهوية الوطنية اليمنية.
وهذا الإصدار لم يكن مجرد طباعة نقدية، بل كان جزءاً من خطة شاملة ومستمرة لاستبدال العملة الورقية التالفة والمتهالكة المتداولة في الأسواق بجميع فئاتها، بدءاً من الأصغر إلى الأكبر، عبر شبكة فروع البنك المركزي اليمني في صنعاء والمحافظات المحررة، وهي عملية مستمرة وممنهجة تهدف إلى سحب العملة المتضررة والمتهالكة من التداول واستبدالها بعملة جديدة وآمنة، مما يساهم وبشكل كبير وفعال في تنظيف السوق النقدي، وتعزيز سلامة التداول، ومكافحة التزوير، والحفاظ على القيمة الرمزية والمادية للريال اليمني.
إنها عملية ضخمة ومعقدة، ولكنها تنفذ بثبات وحرفية عالية، وهذا يعكس القدرة المؤسسية المتميزة التي أعيد بناؤها في صنعاء رغم كل ظروف الحرب والحصار.
المصدر: الثورة نت
كلمات دلالية: البنک المرکزی الیمنی العملة الوطنیة قیادة صنعاء الیمنی فی فی صنعاء
إقرأ أيضاً:
إجراءات جديدة لتنظيم تجارة الفضة في اليمن
تتّجه الجهات المعنية في إطار اهتمامها بالأعمال المهنية والحرفية التي تشتهر بها صنعاء ومدن يمنية أخرى إلى تنظيم تصدير واستيراد المنتجات الحرفية المصنوعة من الفضة والعقيق والمرجان.
وعمّمت الغرفة التجارية والصناعية المركزية بأمانة العاصمة صنعاء لكل تجار وأصحاب الحرف اليدوية والفضية والمنتجات الحرفية الأخرى مذكرة صادرة عن الهيئة العامة للآثار والمتاحف، بشأن تنظيم تصدير واستيراد المنتجات الحرفية المصنوعة من الفضة والعقيق والمرجان.
بموجب هذه المذكرة التي اطلع عليها "العربي الجديد"، يتعين الالتزام بالطرق والإجراءات الرسمية المعتمدة لتصدير المنتجات الحرفية الفضية والعقيق والمرجان، حيث تم التعميم بمنع إخراج هذه المنتجات من البلاد إلا بعد الحصول على التصاريح الرسمية من الهيئة العامة للآثار والمتاحف.
في السياق، يقول مختصون بصناعة العقيق اليماني والخواتم والفضيات إن هذا المنتج الاقتصادي المهم بحاجة إلى تسويق وفتح المزيد من نوافذ البيع للخارج.
التاجر والمتخصص في صناعة العقيق والفضيات في أحد أسواق صنعاء القديمة أحمد الشامي، يؤكد في تصريح لـ"العربي الجديد"، على ضرورة اهتمام الجهات المختصة بهذا المنتج ومساعدة التجار والعاملين في هذه الصناعة في فتح أسواق خارجية لبيع منتجاتهم من العقيق والفضيات والمرجان ومختلف الأحجار الكريمة التي تزايد الطلب عليها بشكل لافت.
وهناك فرص واعدة لتصديرها للأسواق الخارجية، مشيراً إلى أن عملية البيع للخارج تتم بجهود فردية فقط. ويشير الشامي إلى أن هناك مصانع ومشاغل تعمل على تكسير وتشكيل الأحجار التي يتم جلب معظمها من جبال منطقة آنس بمحافظة ذمار شمالي اليمن، وذلك بعد تقطيعها وقصها وصقلها وتلميعها وتحويلها إلى فصوص بحسب كل نوع من الأحجار، حيث تتفاوت أسعارها بين 10 و20 ألف ريال بحسب حجم ونوعية الحجر، فيما هناك أصناف من العقيق والمرجان والفضيات يصل سعر الخاتم الواحد إلى نحو 50 ألف ريال (الدولار = نحو 535 ريالاً).
من جانبه، يتحدث مالك محل للمنتجات الحرفية والأحجار الكريمة في مدينة صنعاء القديمة، عبدالواسع الصنعاني، بحسرة لـ"العربي الجديد"، عن أيام ازدهار السياحة وتدفق السياح إلى اليمن، وكيف ازدهرت مبيعات الفضيات والعقيق اليماني للسُياح والزائرين الذين كانت تعجّ بهم أزقة وأسواق صنعاء القديمة قبل الحرب، لافتاً إلى أن توقف السياحة وتدفق السياح إلى اليمن أثر بشكل بالغ على مختلف الأعمال والمهن والمشغولات الحرفية في مثل هذه الأسواق العتيقة بمدينة صنعاء القديمة.
وينتشر في أسواق صنعاء القديمة التي زارتها "العربي الجديد" العديد من الأعمال الحرفية والمشغولات اليدوية في مشهد لافت يجسد حيوية هذه المدينة العتيقة ومجتمعها النابض بالحياة والإنتاج، المرتبط بمهن الآباء والأجداد المتوارثة عبر عقود من الزمن في هذه الأحياء والأزقة المقسمة بحسب كل مهنة ومنتج، فيما تواجه هذه الأعمال والمهن صعوبات وتحديات بالغة يهددها بالانهيار.
يقول أحد الحرفيين المختصين بصناعة الفضيات والعقيق، عبدالخالق خودم، لـ"العربي الجديد"، أن ما يقومون به للحفاظ على مهنتهم هو جهود ذاتية في ظل عدم اهتمام الجهات المعنية أو المنظمات التابعة للقطاع الخاص التجاري بهذه المهنة ومساعدتهم في التسويق والترويج لها، فضلاً عن عزوف الجهات العامة الحكومية عن الاهتمام بهذه الحرف بفعل الأوضاع التي يمر بها اليمن وتوقف عمليات الترويج والتسويق السياحي.
وتذكر بيانات الجهات المختصة في صنعاء، أن هناك أكثر من 50 ورشة لإنتاج العقيق بمدينة صنعاء يصل معدل إنتاجها السنوي إلى حوالي 50 ألف فص، إضافة إلى أن هناك ما يقارب 15 نوعا من العقيق والفضيات والأحجار الكريمة الأخرى التي يتم العمل عليها في مشاغل ومصانع القص والصقل والإنتاج.