في مشهد يعيد إلى الأذهان صدمات اقتصادية كبرى، سجّل الدولار الأمريكي أسوأ أداء نصف سنوي له منذ أوائل السبعينيات، متراجعًا بما يقارب 11% خلال النصف الأول من عام 2025. 

هذا الهبوط لم يشهده العالم منذ عام 1973، العام الذي انهار فيه نظام "بريتون وودز" وبدأت العملات تتداول بحرية في الأسواق. 

ومع أن العملة الأمريكية لطالما كانت رمز القوة الاقتصادية العالمية، إلا أن المؤشرات الحالية توحي بأن الطريق أمامها بات محفوفًا بالتحديات، وربما أمام مرحلة ممتدة من الضعف.

هبوط غير مسبوق يثير تساؤلات المستثمرين

خلال العقد الأخير، شهد الدولار فترات ضعف متفرقة، لكنها لم تكن بهذا العمق أو الحدة.

هذه المرة، يعتقد محللون في "وول ستريت" أن التراجع قد يكون بداية مسار طويل من الهبوط، لا مجرد تصحيح عابر. التوقعات التي كانت في السابق تميل لعودة الدولار إلى الصعود، انقلبت لتصبح أكثر حذرًا، بل إن بعض الخبراء يرون أن المشهد الحالي يفتح صفحة جديدة في تاريخ العملة الأمريكية.

عوامل ضغط متشابكة: الفائدة، التحوط، والسياسة

يشير خبراء الاقتصاد إلى أن عدة عوامل تتآمر على الدولار في الوقت نفسه. أبرزها التوقعات القوية بقيام الاحتياطي الفيدرالي بتخفيض أسعار الفائدة في الأشهر المقبلة، وهو ما يضعف جاذبية العملة الأمريكية أمام المستثمرين الباحثين عن عوائد أعلى.

كما أن سياسات التحوط التي يتبناها المستثمرون الدوليون، خصوصًا بعد أداء قوي للأسهم العالمية، تضع ضغطًا إضافيًا على العملة.

 ولا يمكن إغفال ما يصفه البعض بـ"السياسة الضمنية لضعف الدولار" التي تنتهجها إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، بهدف دعم الصادرات وجعل المنتجات الأمريكية أكثر تنافسية.

التحوط الأجنبي.. من الحذر إلى الاستنزاف

بعد الأزمة المالية عام 2008، اندفع المستثمرون حول العالم نحو الأسواق الأمريكية، ما رفع الطلب على الدولار وأدى لسنوات من القوة المستمرة.

 لكن مع تغير الظروف، بدأ هؤلاء في إعادة النظر، خاصة مع ارتفاع عوائد الأسواق العالمية الأخرى وتزايد الضبابية بشأن سياسات واشنطن التجارية.

يقول أحد الاستراتيجيين الماليين: "المستثمرون الأجانب الذين لديهم تعرض كبير للدولار سيواصلون التحوط، لكن هذا سيصبح عملية استنزاف مستمرة".

وعلى الرغم من أن عمليات البيع الجماعي للأصول الأمريكية لم تحدث بعد، إلا أن علامات الحذر تتزايد، كما أظهرت مزادات الخزانة الأخيرة وتقارير وزارة الخزانة الأمريكية.

تخفيضات الفائدة تلوح في الأفق

في وقت سابق من هذا العام، كان التوقع السائد أن رسوم ترامب الجمركية قد تثير موجة تضخم جديدة، لكن البيانات لم تُظهر ذلك بعد.

ومع استمرار تباطؤ التضخم وسوق العمل، يترقب المتداولون خطوة من الاحتياطي الفيدرالي لخفض أسعار الفائدة، ربما في سبتمبر المقبل، وهو ما سيشكل ضغطًا إضافيًا على الدولار، ويعزز توجه المستثمرين نحو عملات وأصول أخرى.

إدارة ترامب وسياسة الدولار الضعيف

رغم أن إدارة ترامب لم تصدر إعلانًا رسميًا عن تبني سياسة إضعاف الدولار، إلا أن تصريحات مسؤولين في آسيا، مثل اليابان وكوريا الجنوبية، تكشف أن مسألة العملة كانت حاضرة في محادثاتهم مع البيت الأبيض.

ضعف الدولار قد يمنح ميزة للصادرات الأمريكية ويعزز أرباح الشركات الكبرى، خاصة تلك التي تحقق جزءًا كبيرًا من إيراداتها خارج الولايات المتحدة.

استراتيجيون في "مورغان ستانلي" أكدوا أن "ضعف الدولار يمثل دافعًا غير مقدر لأرباح الأسهم الأمريكية"، مشيرين إلى أن الشركات ذات القيمة السوقية الكبيرة قد تكون المستفيد الأكبر من هذا التوجه.

الدولار… لا يزال سيد العملات

رغم التراجع، يبقى الدولار العملة الاحتياطية الأهم في العالم، بفضل مزيج من الشفافية والسيولة والبيئة السياسية المستقرة في الولايات المتحدة. 

وحتى مع تزايد الدعوات لتنويع الاحتياطيات نحو اليورو أو اليوان أو الذهب، يرى المحللون أن الأمر لا يتعدى كونه تنويعًا نسبيًا، لا استغناءً كاملاً عن "الدولرة".

تتفوق سوق السندات الأمريكية من حيث الحجم والعمق على نظيراتها العالمية، ما يجعلها الخيار الأول للمستثمرين الباحثين عن أمان وعوائد مجزية، وهي ميزة لا تزال عصية على المنافسة.

  تحولات قد تعيد رسم الخريطة المالية العالمية

أكد الدكتور هاني الشامي، عميد كلية إدارة الأعمال بجامعة المستقبل، أن هذا الانخفاض القياسي يعكس اضطرابًا مزدوجًا في الاقتصادين الأمريكي والعالمي. 

ويرى أن مزيجًا من السياسات النقدية المتقلبة، وضغوط التضخم، وتباطؤ النمو الاقتصادي، إلى جانب بحث الأسواق عن بدائل أكثر أمانًا، كلها عوامل تضافرت لدفع الدولار نحو هذا المصير.

ويحذر الشامي من أن استمرار هذا المسار سيجعل البنوك المركزية والمستثمرين حول العالم يعيدون التفكير في اعتمادهم على الدولار كعملة احتياطية رئيسية، ما قد يمنح اليورو أو اليوان الصيني مساحة أكبر للهيمنة على المشهد المالي العالمي.

جرس إنذار لصناع القرار في واشنطن

يشدد الشامي على أن هذا التراجع الحاد يجب أن يدفع واشنطن لإعادة تقييم سياساتها النقدية والمالية، ووضع استراتيجيات أكثر توازنًا لحماية قوة العملة والحفاظ على ثقة الأسواق.

كما يرى أن هذه الأزمة قد تفتح الباب أمام تحولات هيكلية في النظام النقدي العالمي، حيث يمكن أن نشهد توجهًا متزايدًا نحو تنويع الاحتياطيات الدولية، وتقليل الاعتماد المفرط على الدولار، بل وحتى بروز تكتلات نقدية إقليمية لمواجهة التقلبات.


منذ عقود، كان الدولار رمزًا للهيمنة الاقتصادية الأمريكية، وأداة أساسية لتأثير واشنطن على الاقتصاد العالمي. اليوم، ورغم أنه ما زال يحتفظ بمكانته، إلا أن التحديات التي يواجهها تفرض على الولايات المتحدة إعادة التفكير في سياساتها، ليس فقط لحماية العملة، بل للحفاظ على موقعها في قلب النظام المالي الدولي.

قد لا يكون هذا الانخفاض نهاية حقبة الدولار، لكنه بلا شك بداية فصل جديد، سيحدد ما إذا كانت هذه العملة ستبقى القائد بلا منازع، أم ستشاركها الساحة قوى نقدية أخرى صاعدة.

طباعة شارك الدولار الأسواق العملة الاقتصاد الولايات المتحدة اليورو

المصدر: صدى البلد

كلمات دلالية: الدولار الأسواق العملة الاقتصاد الولايات المتحدة اليورو العملة الأمریکیة الولایات المتحدة على الدولار إلا أن

إقرأ أيضاً:

ارتفاع أسعار الذهب مدعومة بضعف الدولار وتوقعات خفض الفائدة الأمريكية

ارتفعت أسعار الذهب، اليوم الأربعاء، مدعومة بضعف الدولار بعد بيانات التضخم الأمريكية المعتدلة، والتي عززت الرهانات على خفض أسعار الفائدة في سبتمبر المقبل.

وارتفع الذهب في المعاملات الفورية 0.2% إلى 3351.46 دولار للأونصة، واستقرت العقود الأمريكية الآجلة للذهب تسليم ديسمبر عند 3399.60 دولار.

وتتوقع الأسواق احتمالا نسبته 90% لخفض مجلس الاحتياطي الفيدرالي (البنك المركزي الأمريكي) سعر الفائدة في سبتمبر، مع توقع خفض إضافي واحد على الأقل، بحلول نهاية العام.

فيما يترقب المستثمرون المزيد من البيانات الاقتصادية الأمريكية المقرر صدورها الأسبوع الجاري، مثل مؤشر أسعار المنتجين وطلبات إعانة البطالة الأسبوعية ومبيعات التجزئة.

أما بالنسبة للمعادن النفيسة الأخرى، فقد ارتفعت الفضة في المعاملات الفورية 0.8% إلى 38.17 دولار للأونصة، وتراجع البلاتين 0.1% إلى 1335.82 دولار، واستقر البلاديوم عند 1129.37 دولار.

أسعار الذهبأخبار السعوديةالعقود الآجلةبيانات التضخم الأمريكيةضعف الدولارقد يعجبك أيضاًNo stories found.

مقالات مشابهة

  • الدولار يترنح| أسوأ شهور منذ السبعينيات تهدد عرش العملة الأمريكية
  • الشرطة الأمريكية تكثف جهودها لاستعادة دُمية لابوبو المسروقة من الأسواق
  • ارتفاع أسعار الذهب مدعومة بضعف الدولار وتوقعات خفض الفائدة الأمريكية
  • إسحق أحمد فضل الله يكتب: حوارات
  • عبد السلام فاروق يكتب: الإعلام المصري.. وشجاعة التغيير
  • إسحق أحمد فضل الله يكتب: (أشجار الجنة التي نعيش فيها)
  • إيران تحذف 4 أصفار من عملتها الوطنية
  • رئيس الوزراء الأسترالي: الوضع في غزة تجاوز أسوأ مخاوف العالم
  • إجراءات حكومية لضبط أسعار الأسماك والخضروات في الأسواق المحلية