أحمد.. ذلك الإنسان الذي يعلّم الزهر كيف يتفتح!
تاريخ النشر: 17th, August 2025 GMT
سعيد بن حميد الهطالي
أعرف أحمد كما تعرف نافذة تطل على صباح نقي كلما فتحتها دخل النور بلا استئذان، لا يلفت الانتباه بما يلبس أو يقتني لكن بما يتركه فيك من أثر، حديثه بسيط لكنه يحمل نكهة المعرفة العميقة وحين يصغي تشعر أنه يضع العالم جنبًا ليكون معك وحدك.
فكره مرتب كرفوف مكتبة قديمة لا ازدحام ولا فوضى، كل فكرة لها مكانها يختار كلماته كما يختار الرسام ألوان لوحته ويترك فراغات صغيرة تسمح لروحك أن تتنفس.
أما قلبه فهو المكان الذي تذهب إليه الأشياء لتشفى.. لا يعرف القسوة ولا الإيذاء، يمدك بالطمأنينة وكأنها حق من حقوقك، إذا تعثرت تجده يمد يده قبل أن تطلب، وإذا نجحت يفرح لك كما لو كان النجاح له! في روحه تكمن مساحة واسعة للبهجة، يعرف كيف يخفف عنك بحكاية طريفة، أو بلمحة ذكاء تذيب جليد الحزن، لا يبالغ في المرح ولا يثقله بالجدية فقط يعطي كل لحظة حقها.
قلما تجد روحًا مثل أحمد، ربما لهذا يحبه الجميع، فيه ترى الإنسان كما حلمت به دومًا، فكر يليق بالاحترام، قلب يليق بالمحبة، وروح تليق بالحياة!
عزيزي أحمد: أكتب إليك كما يكتب المسافر إلى صديقه البعيد، وكأنني أخشى أن يبتلع الزحام ملامحك، أو أن تنسى الأيام رائحة حضورك!
تعرف يا أحمد أنك من القلائل الذين يعلموننا أن الجمال ليس في الصورة التي تراها العين لكن في الصدى الذي يتركه القلب بعد اللقاء.
هل أحد حدثك قبلي عن أناقة الفكر، وجمال القلب، وحلاوة الروح؟! هذه الخصال يا أحمد لا تتوزع عادة بين الناس؛ بل نراها منفصلة هنا وهناك العجيب فيك أنك كنت المحظوظ الذي جمعت فيه الحياة كل هباتها ثم قالت: هذا هو الإنسان كما يجب أن يكون!
إن أجمل صفات الإنسان -يا صديقي- هي ما يتجاوز المظهر واللحظة.. ليس في الكلمة المنمقة ولا في المجاملة العابرة، إنما في الصدق الذي يسكن المشاعر، وفي النقاء الذي لا يتلوث بالمصالح، وفي الوفاء الذي لا يتبدد بتقادم السنين، وما يبقى في جوهر الإنسان بعد أن ينفض الجمع، ويخفت الضجيج.
تعلم يا أحمد أن الإنسان الحقيقي لا يسعى لإثبات وجوده، فهو كالشجرة الوارفة لا تبحث عن ظلها، لا يحتاج أن يثبت نفسه لأنه يعيش منسجمًا مع ذاته قبل أن ينسجم مع الآخرين، هو من يدرك أن الجمال لا يقاس بالعين إنما بالطمأنينة التي يزرعها حضوره في أرواح الآخرين.
الحياة يا أحمد تختبرنا كصياد ماكر بالخذلان تارة، بالفقد تارة أخرى، وبكثرة الوجوه الزائفة من حولنا أحيانًا، وبقسوة الطريق دائمًا، تعطي هذا بيد وتأخذ بالأخرى، لكنك تعلم أن العبرة ليس في تجنب المنعطفات إنما في أن تحمل قلبًا لا ينكسر عند أول اصطدام، لا ينبغي للنقاء أن يخرج من الامتحان مكسورًا، إنما يظل واقفًا، لا لأن الطريق سهل، إنما لأنه يعلم أن الاستقامة لا تعني الخلو من الانحناءات، وأن السقوط ليس هزيمة، لكنه فرصة لإعادة ترتيب القامة من جديد!
إن النقي لا يخدع لأنه غافل؛ بل لأنه يظل يرفض أن يساوي نفسه بالشخص الذي يحمل ذاك الدهاء المسموم!
فقد يظن البعض أن الصفاء في زمننا هذا ضرب من السذاجة، لكن الحقيقة ليست كذلك، إنما هو وعي عميق بالشرور من دون أن تنغمس فيه، هو أن ترى الزيف حولك ثم تختار ألا تكون جزءًا منه، أن تعرف قسوة الحياة ثم تمنح قلبك إذنًا بأن يظل رحيمًا!
إن الإنسان النقي يشبه المرآة الصافية التي قد تلطخ بالغبار لكن لا شيء يستطيع أن يغير من جوهر صفائها، ألا يبالغ في ادعاء الطهر لكنه لا يرضى أن يتسخ كي يثبت قوته، قوته في أن يظل كما هو واضحًا بسيطًا شفافًا لا يضع قناعًا على وجهه ليعجب الناس، أما قلبه فصفحة بيضاء ترفض أن تلوثها الأيام مهما كثرت عليها الخدوش.
في حضورك -يا أحمد- تضيق المسافة بين الجرح والضماد كأنك تعرف سر تضميد الألم دون أن تنطق بكلمة واحدة، من يصل إلى روحك يجد ذلك الخيط الرفيع الذي يجمع الوقار وخفة الظل تستطيع أن تضحك بصدق، وتلهم بصدق، وتواسي بصدق، وكأنك لا تعرف كيف تكون إلا حقيقيًا، متحليًا بفكرة أن الحياة يمكن أن تكون أرقى، وأدفأ، وأبسط مما نظن!
هكذا أكتب إليك كمن يزرع بذرة في تربة يعرف أنها ستنبت شجرًا يستظل به الغرباء يومًا ما.
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
المتقاعد.. مواطن لم يُغادر الحياة
سعيد المالكي
مُمَثِّلينَ جمعًا كبيرًا من نظرائهم، ممن صقلتهم النهضةُ المباركة علمًا وتجربةً، تقدّمت مجموعة من أبناء الوطن منذ سنوات بطلب إشهار الجمعية العُمانية للمتقاعدين؛ جمعية إنسانية بسيطة، مهمتها الاهتمام بفئة خدمت الوطن عقودًا طويلة. جمعية لا علاقة لها بالسياسة، ولا تتدخل في شؤون الدولة، ولا تطمح لإدارة مجلس الأمن وليست لديها خطط خمسية موازية. فقط جمعية للمتقاعدين. ومع ذلك، لم تُشهر حتى اليوم!
وعندما نقول إن سنوات عدة مضت، فليس الهدف الشكوى من طول المدة فحسب؛ فربما إشهار جمعيات أخرى استغرق وقتًا طويلًا كذلك وقد تصاحب إجراءات إشهار كل جمعية عوامل مختلفة. لكننا نقولها لأن المتقاعد ليس حدثًا جديدًا ولا طارئًا على المجتمع؛ فهو مواطن خدم بلاده، وقد تقاعد كثيرون قبله، وهي سنة الحياة. فلماذا إذن يأخذ الأمر وقتًا لا يتناسب مع أهمية الموضوع ولا مع قدم الحاجة إليه؟
الغريب أن الطلب ظلّ وما يزال ينتظر في طابورٍ طويل من الأوراق، طابور لا ندري أين يبدأ وأين ينتهي، بينما نشهد بين حين وآخر إشهار جمعيات أخرى، بعضها مهم بلا شك، لكن بعضها لا يبدو أكثر أهمية من جمعية تهتم بآباء وأمهات هذا البلد.
متقاعد، أم مُعلَّق بين الحياة والموت الإداري؟
لماذا يُعامل المتقاعد وكأنَّه خرج من الحياة لا من العمل؟ فبمجرد تقاعده تتوقف عنه علاوة المعيشة، وتتوقف الزيادات السنوية، كأن الأسعار تُخاطب البائع وتقول له: لا تطلّب من المتقاعد، هو الآن خارج اللعبة!
أسعار السلع ترتفع، لكنها لا تسأل عند الدفع إن كان المشتري متقاعدًا لتُخفّض له السعر. المرض لا يقول: أنت متقاعد، سأخفف عليك. والحياة لا تعطيه خصمًا لأنه خدم الوطن عشرات السنين.
المتقاعد لم يتقاعد عن الحياة، فقط توقف عن عملٍ روتيني كان يؤدّيه بعقد. أمّا العمل الحقيقي، عمل الخبرة، الحكمة، المعرفة، التربية، فهم الحياة، فهذا لا يتوقف إلا بانقطاع الأنفاس. هؤلاء كنوز، لا أعباء. أليسوا آباءنا وأمهاتنا؟ أليسوا شباب الأمس؟ فهل يهمل الإنسان العاقل والديه إذا كبرا؟
لماذا يبدو طريق جمعية المتقاعدين غير معبّد؟
السؤال الأكثر إيلامًا: لماذا يتأخر إشهار جمعية إنسانية بحتة؟ هل لأن هدفها العناية بالمتقاعدين وعائلاتهم؟ هل تحسين حياة هذه الفئة يشكل خطرًا سياسيًا أو اجتماعيًا؟ لا نعلم. وربما ينقصنا الخيال لفهم الأسباب.
نشهد، بكل احترام، إشهار جمعيات مهمة، ومنها الجمعية العُمانية للرفق بالحيوان. ونحن هنا لا نقلّل من شأن الحيوان، فهو مخلوق من مخلوقات الله وله حقه علينا، لكن من باب السخرية المهذّبة نتساءل: هل أصبح المتقاعد أقل أولوية من القطط والكلاب؟ هل تحتاج معاملة البشر إلى جمعية أصدقاء الإنسان مثلًا؟
عشرات الآلاف أحيلوا للتقاعد، أين الملاذ؟
في عام 2020، تمّت إحالة أعداد هائلة إلى التقاعد في إطار إعادة هيكلة الجهاز الإداري للدولة، لكن عشرات الآلاف خرجوا من وظائفهم فجأة. بعضهم لم يصل إلى السن القانونية، وبعضهم كانت لديه خطط مالية، أسرية، التزامات، أحلام مؤجّلة، ثم تلاشت تلك الخطط فجأة في لحظة واحدة.
وإذا لم يكن هذا سببًا كافيًا لإشهار جمعية للمتقاعدين، فماذا إذن؟ ألا تحتاج هذه الفئة إلى أمل؟ إلى جهة تدعمهم، تخفّف عنهم، تقدّم لهم ما يمكن تقديمه من خدمات، وتُمكّنهم من مواصلة حضورهم ودورهم في خدمة المجتمع كما اعتادوا؟
سؤالٌ مغلفٌ بالاحترام!
لماذا يُترَك المتقاعد معلّقًا بين ذاكرة العمل وواقع الحياة؟ ولماذا يتم تأجيل إشهار جمعية لا تطلب من الدولة مالًا ولا سلطة؛ بل فقط تصريحًا ليمسك المتقاعدون بزمام أمرهم ويدعم بعضهم بعضًا؟
نحن لا نسأل من باب النقد؛ بل من باب الوفاء. فمن خدم الوطن، يستحق أن يشعر أن الوطن لا يزال يراه. أليس هذا أقل حقوق الإنسان، قبل أي شيء آخر؟