سعيد بن حميد الهطالي

أعرف أحمد كما تعرف نافذة تطل على صباح نقي كلما فتحتها دخل النور بلا استئذان، لا يلفت الانتباه بما يلبس أو يقتني لكن بما يتركه فيك من أثر، حديثه بسيط لكنه يحمل نكهة المعرفة العميقة وحين يصغي تشعر أنه يضع العالم جنبًا ليكون معك وحدك.

فكره مرتب كرفوف مكتبة قديمة لا ازدحام ولا فوضى، كل فكرة لها مكانها يختار كلماته كما يختار الرسام ألوان لوحته ويترك فراغات صغيرة تسمح لروحك أن تتنفس.

أما قلبه فهو المكان الذي تذهب إليه الأشياء لتشفى.. لا يعرف القسوة ولا الإيذاء، يمدك بالطمأنينة وكأنها حق من حقوقك، إذا تعثرت تجده يمد يده قبل أن تطلب، وإذا نجحت يفرح لك كما لو كان النجاح له! في روحه تكمن مساحة واسعة للبهجة، يعرف كيف يخفف عنك بحكاية طريفة، أو بلمحة ذكاء تذيب جليد الحزن، لا يبالغ في المرح ولا يثقله بالجدية فقط يعطي كل لحظة حقها.

قلما تجد روحًا مثل أحمد، ربما لهذا يحبه الجميع، فيه ترى الإنسان كما حلمت به دومًا، فكر يليق بالاحترام، قلب يليق بالمحبة، وروح تليق بالحياة!

عزيزي أحمد: أكتب إليك كما يكتب المسافر إلى صديقه البعيد، وكأنني أخشى أن يبتلع الزحام ملامحك، أو أن تنسى الأيام رائحة حضورك!

تعرف يا أحمد أنك من القلائل الذين يعلموننا أن الجمال ليس في الصورة التي تراها العين لكن في الصدى الذي يتركه القلب بعد اللقاء.

هل أحد حدثك قبلي عن أناقة الفكر، وجمال القلب، وحلاوة الروح؟! هذه الخصال يا أحمد لا تتوزع عادة بين الناس؛ بل نراها منفصلة هنا وهناك العجيب فيك أنك كنت المحظوظ الذي جمعت فيه الحياة كل هباتها ثم قالت: هذا هو الإنسان كما يجب أن يكون!

إن أجمل صفات الإنسان -يا صديقي- هي ما يتجاوز المظهر واللحظة.. ليس في الكلمة المنمقة ولا في المجاملة العابرة، إنما في الصدق الذي يسكن المشاعر، وفي النقاء الذي لا يتلوث بالمصالح، وفي الوفاء الذي لا يتبدد بتقادم السنين، وما يبقى في جوهر الإنسان بعد أن ينفض الجمع، ويخفت الضجيج.

تعلم يا أحمد أن الإنسان الحقيقي لا يسعى لإثبات وجوده، فهو كالشجرة الوارفة لا تبحث عن ظلها، لا يحتاج أن يثبت نفسه لأنه يعيش منسجمًا مع ذاته قبل أن ينسجم مع الآخرين، هو من يدرك أن الجمال لا يقاس بالعين إنما بالطمأنينة التي يزرعها حضوره في أرواح الآخرين.

الحياة يا أحمد تختبرنا كصياد ماكر بالخذلان تارة، بالفقد تارة أخرى، وبكثرة الوجوه الزائفة من حولنا أحيانًا، وبقسوة الطريق دائمًا، تعطي هذا بيد وتأخذ بالأخرى، لكنك تعلم أن العبرة ليس في تجنب المنعطفات إنما في أن تحمل قلبًا لا ينكسر عند أول اصطدام، لا ينبغي للنقاء أن يخرج من الامتحان مكسورًا، إنما يظل واقفًا، لا لأن الطريق سهل، إنما لأنه يعلم أن الاستقامة لا تعني الخلو من الانحناءات، وأن السقوط ليس هزيمة، لكنه فرصة لإعادة ترتيب القامة من جديد!

إن النقي لا يخدع لأنه غافل؛ بل لأنه يظل يرفض أن يساوي نفسه بالشخص الذي يحمل ذاك الدهاء المسموم!

فقد يظن البعض أن الصفاء في زمننا هذا ضرب من السذاجة، لكن الحقيقة ليست كذلك، إنما هو وعي عميق بالشرور من دون أن تنغمس فيه، هو أن ترى الزيف حولك ثم تختار ألا تكون جزءًا منه، أن تعرف قسوة الحياة ثم تمنح قلبك إذنًا بأن يظل رحيمًا!

إن الإنسان النقي يشبه المرآة الصافية التي قد تلطخ بالغبار لكن لا شيء يستطيع أن يغير من جوهر صفائها، ألا يبالغ في ادعاء الطهر لكنه لا يرضى أن يتسخ كي يثبت قوته، قوته في أن يظل كما هو واضحًا بسيطًا شفافًا لا يضع قناعًا على وجهه ليعجب الناس، أما قلبه فصفحة بيضاء ترفض أن تلوثها الأيام مهما كثرت عليها الخدوش.

 في حضورك -يا أحمد- تضيق المسافة بين الجرح والضماد كأنك تعرف سر تضميد الألم دون أن تنطق بكلمة واحدة، من يصل إلى روحك يجد ذلك الخيط الرفيع الذي يجمع الوقار وخفة الظل تستطيع أن تضحك بصدق، وتلهم بصدق، وتواسي بصدق، وكأنك لا تعرف كيف تكون إلا حقيقيًا، متحليًا بفكرة أن الحياة يمكن أن تكون أرقى، وأدفأ، وأبسط مما نظن!

هكذا أكتب إليك كمن يزرع بذرة في تربة يعرف أنها ستنبت شجرًا يستظل به الغرباء يومًا ما.

رابط مختصر

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

«الواقعية».. حين تمسك الفلسفة بمرآة الحياة (2 – 2)


وفي الأدب الروماني تَبدو ملامح الواقعية واضحة، ولا سيّما عند الكاتب الكوميدي "بلوتس" – وهو كاتب مسرحي روماني – الذي لم يُخلِّف لنا سوى عدد قليل من المسرحيات، لعلّ أهمّها مسرحية "جرة الذهب"، حيث انتقد فيها صفةً مذمومةً عند بعض الناس، وهي صفة البخل، وذلك بأسلوبٍ واقعيٍّ جذّاب. ولعلّ هذا ما جعل "موليير" – وهو مؤلف مسرحي كوميدي فرنسي – يتأثر بهذه المسرحية حين كتب مسرحيته الشهيرة "البخيل".
ويمكننا أن نمدّ نظرنا إلى أدب العصور الوسطى، فنلاحظ أنه يزخر ببذورٍ واقعيةٍ كثيرة، من حيث الأهمّية الكبرى لاختلاف الأساليب والأنواع الأدبية، وظهور الأسلوب الوسيط الذي يختلف عن الأسلوب التراجيديّ اليونانيّ الفخم.
والحقيقة أن هذه البذور الواقعية لم تظهر في فن المسرح، بل كانت في فن القصص إلى حدّ ما. فالمسرح في العصور الوسطى لم يكن يستمد موضوعاته من واقع الحياة، بل كان يستمدّها من القصص الديني الوارد في الأناجيل، وحتى الكوميديا في تلك الفترة كانت تهدف إلى الإضحاك فحسب، لا إلى نقد الأوضاع الاجتماعية.
أما فنّ القصص في ذلك العصر، فإنه يشتمل – إلى حدٍّ ما – على عناصر واقعية، على الرغم مما يبدو لنا لأول وهلة من بعده الشديد عن الواقع وتصويره. فعندما نفك رموز "الكوميديا الإلهية" للشاعر الإيطالي دانتي، نرى لوحةً رائعة تُجسّد تصوّر العصور الوسطى للحياة، والثواب والعقاب، وسائر المعتقدات.
أضف إلى ذلك، عزيزي القارئ، أن هناك ما يُسمّى بالنقد اللاذع لبعض مظاهر المجتمع، مثل مهاجمة "كنيسة روما"، وفضح نفاق الرهبان وجشعهم، بل ووضع أحد الباباوات في الجحيم، في مقابل اختيار الفردوس مقرًّا لأحد تلامذة ابن رشد – ذلك الفيلسوف الإسلامي – الذي دفع حياته ثمناً لتعسّف الكنيسة.
وإذا كانت التراجيديا الكلاسيكية في القرن السابع عشر قد ابتعدت عن تصوير الحياة تصويرًا واقعيًّا، فلأنها التزمت محاكاة النماذج الإغريقية والرومانية القديمة، وعزفت عن تمثيل الواقع المعاصر، وتمادَت في التقيد الصارم بالقوانين التي صاغها أرسطو، ولا سيّما قاعدة الوحدات الثلاث: وحدة الموضوع، والزمان، والمكان؛ الأمر الذي قطع صلتها بالواقع الحيّ، على خلاف ما بدأ يظهر في فنون سردية أخرى أكثر مرونة.
وما أودّ أن أصل إليه، صديقي القارئ، أنّه إذا كانت التراجيديا الكلاسيكية قد انعزلت عن واقع الناس، فإن الكوميديا جاءت على النقيض من ذلك، أكثر التصاقًا بالحياة اليومية وأخلاق المجتمع آنذاك. ويكفي أن نستشهد بموليير، ذلك المسرحي العبقري، الذي ترك لنا عددًا من المسرحيات انتقد فيها أمراض المجتمع الفرنسي، كما في «البخيل» حين هاجم الطبقة البرجوازية الناشئة وولعها بجمع المال على حساب الأبناء والعلاقات الإنسانية، أو في «طرطوف» حيث عرّى نفاق بعض رجال الدين الذين يرتكبون أقبح المعاصي ويتظاهرون بالتقوى. وليس ذلك فحسب، بل إن موليير تمرد أيضًا على تقاليد المسرح الكلاسيكي الذي كان يعتمد الشعر الفخم والأسلوب المزخرف، فكتب بعض مسرحياته بالنثر، في خروجٍ واعٍ على النموذج المسرحي القديم.
ثم جاء "فولتير" – وهو فيلسوف فرنسي – فدفع عجلة الواقعية إلى الأمام دفعة قوية أخرى، ولا سيّما في قصته "كانديد" أو "التفاؤل"، التي يسخر فيها سخرية لاذعة من مبدأ التفاؤل المطلق الذي كان سائدًا آنذاك في بعض الأوساط الثقافية، وخاصة في ألمانيا.
وحتى شكسبير، الذي عاش في عصر النهضة في القرن السادس عشر ويُعدّ عادةً مهدًا للرومانتيكيين ومنبعًا ثريًا لهم، نجد في مسرحياته أيضًا كثيرًا من العناصر الواقعية. ففي "هاملت" مثلًا، يقترب شكسبير من الواقع تمامًا، حين يُقحم شخصية المهرّج وسط واحد من أعمق المشاهد التراجيدية، وهو المشهد الذي يظهر فيه الأمير هاملت في المقبرة، حائرًا متأملًا أسرار الحياة المؤلمة الغامضة. وذلك لأن الحياة الواقعية ليست ملهاة خالصة ولا مأساة محضة، بل تقوم على المؤلم والمضحك معًا.
وأخيرًا، نجد أن الواقعية لم تنشأ عفوًا أو بوحيٍ من خيالٍ مجرّد، بل كانت وليدةَ إدراك الإنسان لمعاناته، ومحاولته تفسير ما يدور حوله من قضايا يجهلها. وهذا يعني أن مصطلح الواقعية – الذي بلغ لاحقًا صورته النهائية مرتبطًا بالأدب والواقع – كان ثمرةً للصلة الوثيقة بين الإنسان والحياة والفن. وإذا ما عدنا إلى تاريخ الفكر البشري، وجدنا أن الفلسفة سبقت الأدب في استخدام مصطلح الواقعية وتداوله بزمن طويل.
[email protected]

مقالات مشابهة

  • رئيس الوزراء يطلع على سير الأداء في وزارة العدل وحقوق الإنسان
  • تعرف على عقوبة يورتشيتش مدرب بيراميدز بعد طرده أمام الإسماعيلي
  • «الواقعية».. حين تمسك الفلسفة بمرآة الحياة (2 – 2)
  • 60% من الحياة.. هل تكفي؟
  • يسري جبر يفسر قول الله إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت
  • الحياة في شارع الملك عبدالعزيز عام 1977 ..صورة
  • تعرف على موعد طرح الفيلم الكوميدي ماما وبابا في السينمات
  • اليوم.. انطلاق مهرجان القلعة| تعرف على فعالياته
  • تعرف على قائمة الأهلي لمباراة فاركو بالدوري