رحيل صنع الله إبراهيم
تاريخ النشر: 17th, August 2025 GMT
مسعود أحمد بيت سعيد
يُمثِّل رحيل الروائي المصري الكبير صنع الله إبراهيم، خسارةً فادحة للأدب المُلتزِم بقضايا الحرية والعدالة الاجتماعية، وهي القيم التي شكَّلت جوهر أعماله الأدبية على مدى عقود من الإبداع والعطاء.
قدَّم صنع الله إبراهيم عددًا كبيرًا من الأعمال الأدبية المتميزة، لكن ما يعنينا هنا تحديدًا هي روايته الشهيرة "وردة"، تلك الرواية التي لم تحظَ بما تستحقه من اهتمام؛ بل قُرِأت قراءات مُتباينة، اتسم كثير منها بالسطحية.
وقبل استعراض بعض الأحداث التي غيَّرت مجرى حياتها، تجدر الإشارة إلى حيثيتين مهمتين؛ الحيثية الأولى: أن صنع الله إبراهيم لم يكن بعيدًا عن أجواء الحركة الوطنية التحرُّرية العربية؛ بل كان -من موقعه الأيديولوجي- جزءًا من تلك المرحلة النضالية. ومن الطبيعي أن تحضر قضايا التحرر الوطني في صُلب اهتماماته الأدبية. أما الحيثية الثانية، فهي أنه يقول في الرواية: "رغم أن معرفتي بها لم تكن وثيقة بل عابرة، ولم تتوطد أبدا بالصورة التي تراءت لي في الحلم. ولماذا اختارت، أو اخترت أنا في حقيقة الأمر، أن تتجلى فجأة وبقوة في هذا الوقت بالذات، الذي أخطو فيه حثيثا إلى العقد السادس من عمري؟".
ولعل هذا يستدعي طرح السؤال التالي: من صاحب المبادرة في كتابة هذه الرواية؟ بعض الإشارات في الرواية تُلمح إلى أن وزارة الإعلام العُمانية هي من كلفته بكتابة عمل عن الثورة، وربما كان الهدف تقديم الرواية في إطار سياسي مُوجَّه، يبتعد قدر الإمكان عن الموضوعية والإنصاف. فمن غير المتوقع أن تسعى جهة رسمية إلى توثيق وقائع مرحلة نضالية نقيضة بطريقة تظهر فيها المشروعية التاريخية للثورة.
ومع ذلك، فإن الرواية سلكت منحى مغايرًا تمامًا؛ وبالرغم من أن الأعمال الأدبية ليست وثائق تاريخية دقيقة؛ إذ تعتمد على الخيال ومحاولة إعادة تشكيل الواقع في قالب فني، فإن رواية "وردة" تكتسب أهمية استثنائية؛ كونها أول عمل أدبي رصين يتناول ثورة ظفار على ضوء ما كان يشهده العالم والمنطقة من تحوُّلات عاصفة، ما يُضفي على الرواية بُعدًا توثيقيًا مُهمًا. ولا ريب أن من أبرز القضايا التي تطرحها الرواية هو الربط الرمزي بين الشمال والجنوب العُماني في محطة لم تتبلور ملامحها بعد؛ حيث إن شهلا التي تنتمي إلى قرية الحمرا في شمال البلاد، تدفعها الأحداث إلى جنوب الوطن. وهي لفتة تستحق التأمل.
رواية "وردة" ليست مجرد سردٍ أدبيٍّ لوقائع الماضي ولا نصًا يحمل أبعادًا تاريخية وفلسفية؛ بل رواية تضع القارئ في صُلب التحولات الفكرية والسياسية التي شهدها العالم آنذاك. وفي إطار رصد التفاعلات الداخلية لشخصية شهلا، تتجلى حالة الجدل الفكري العميق الذي كان سائدًا في تلك المرحلة. وأتصور أن "وردة" ترمز إلى فكرة الثورة التي تختمر في الوجدان الشعبي وتتفاعل مع واقع مُعقَّد ومُضطرب؛ حيث تمُر شهلا بعدةِ محطات تاريخية تعكس بحثها المُضني عن أُطر جديدة تحمل أحلامَ جيلها، وتبرُز بيروت كمحطةٍ فارقةٍ في نضوجها الفكري؛ نظرًا لما شهدته حينها من حركة ثورية نشطة.
ومن أبرز مشاهد الرواية، حضورها ندوة سياسية مُهمة عن الوحدة العربية في النادي الثقافي العربي ببيروت، التي تقول عنها: "أُعطي الميكروفون لشاب دون أن يذكروا اسمه. بدأ يتحدث في هدوء، ثم تدفق كشلال مياه، ركَّز على أهمية نُكران الذات والعمل للوطن وللأمة العربية، ألهبنا. عندما ينفعل، يطوي يده على شكل قبضة". وتضيف: "استفسرتُ من المسؤولة عن اسم المتحدث، رفضت أن تذكره لي، قائلة إنه عُنصر سري"، قبل أن يُخبرها شهاب بأنه جورج حبش. "لم أصدق أني رأيته بعيني". وقد شكَّل هذا اللقاء مُنعطفًا ثوريًا حاسمًا في حياتها؛ إذ غيَّرت تخصصها من الطب إلى العلوم السياسية، وأصبحت أكثر انخراطًا في العمل التنظيمي السياسي والفكري.
الرواية تناولت عددًا من القضايا الجوهرية؛ منها: الظروف الصعبة التي واجهت المُناضلين في ظفار، وما نتج عنها من أزمات ومقاربات واجتهادات. كما تطرقت إلى كيفية توظيف بعض العناصر الثورية في مواقع تتنافى مع نضالهم السابق، ما يطرح -ضمنيًا- تساؤلات حول أدوارهم الحقيقية، وهي تساؤلات لا تزال مفتوحة حتى اليوم. وتُجسِّد ابنتها "وعد" رمزًا لاستمرار الحلم الثوري، لكنها في الوقت ذاته تحمل نظرة الجيل الجديد المُشوَّهة تجاه الحركة الوطنية الثورية والعلاقات الرفاقية. وقد عبَّرت الرواية عن ذلك من خلال إسقاطات غرائزية رمزية، أرادت بها توضيح كيف أن هذه النظرة السلبية جاءت نتيجة حملات إعلامية مُمنهَجة، هدفت إلى تشويه تلك المرحلة. بَرَعَ صنع الله إبراهيم في مُلامسة نتائج تلك السياسات بواقعية شديدة.
وفي موضع آخر، تتوقف الرواية عند مشاهد يتجلّى فيها شبق طاغ، وإيحاء واضح بعدم الإشباع الغرائزي؛ حيث تكشف تلك الإسقاطات والإيماءات عن عجزٍ عن ممارسة فعلٍ ثوريٍّ مكتمل، في واقعٍ أشبه بالجسد يفيض بالتوتر والانفعال.
رواية "وردة" ليست فقط شهادة على مرحلة تاريخية مفصلية بصعوباتها وأحلامها؛ بل هي محاولة جادة لإعادة التفكير في تعقيدات العلاقة بين الإنسان وقضيته. لقد ترك صنع الله إبراهيم، برحيله، فراغًا كبيرًا في الساحة الأدبية، لكن أعماله -ومنها "وردة"- ستظل حيَّة، تُذكِّر الأجيال دومًا بأن الثورة ليست بضعة بنادق، وأن الكلمة الأمينة الصادقة قد تكون أشد وقعًا من السلاح.
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
كل حرف كان درسًا.. عمر طاهر يروي كواليس لقائه مع صنع الله إبراهيم
وصف الكاتب عمر طاهر لقائه مع الروائي الكبير الراحل صنع الله إبراهيم بأنه أشبه بـ"درس خصوصي" في الكتابة، مؤكدًا أنه دخل اللقاء بنيّة التعلم والإنصات إلى واحد من أعمدة الأدب العربي.
وخلال مداخلة هاتفية مع الإعلامي محمد سعيد محفوظ في برنامج "العاشرة" عبر شاشة "إكسترا نيوز"، أوضح طاهر أن اللقاء الذي امتد لـ45 دقيقة، تضمن دروسًا مهمة حول الالتزام، الإخلاص، والتركيز في العمل الأدبي، إلى جانب تحذير صنع الله من الوقوع في فخ الغرور، مشددًا على أن الكاتب الحقيقي يدرك أنه جزء من ملايين المبدعين حول العالم.
وأشار عمر طاهر إلى أن كل جملة نطق بها صنع الله كانت تستحق أن تُحفظ وتُبروز، لافتًا إلى أنه شعر بتوتر كبير عندما أثنى الروائي الراحل على أسلوبه في جملة عابرة، واصفًا هذه الإشادة بأنها شهادة غالية ستظل محفورة في ذاكرته.
متابعة ودعم لجيل الشبابوأكد طاهر أن صنع الله إبراهيم كان متابعًا حقيقيًا لأعمال الكتّاب الشباب، حيث فوجئ خلال اللقاء بإلمامه بتفاصيل مقالاته وكتبه، واهتمامه بما يكتبه عن قرب.
مكالمة لا تُقدّر بثمنكما كشف عن تلقيه اتصالًا هاتفيًا من صنع الله إبراهيم عقب صدور روايته "كحل وحبهان"، استمر نحو 12 دقيقة، تحدث فيه الأخير عن الأجزاء التي أعجبته من الرواية، واصفًا هذه المكالمة بأنها دعم شخصي ثمين لا يقل أهمية عن الجلوس وجهًا لوجه مع كاتب بحجم وقيمة صنع الله إبراهيم.