الإمام الشافعي بين أهل الرأي وأهل الحديث (1)
تاريخ النشر: 1st, September 2023 GMT
من الشائع بين دارسي تاريخ التشريع الإسلامي أن الإمام محمد بن إدريس الشافعي (ت. 204هـ) "جمع" بين مدرستي أهل الحديث وأهل الرأي، وهي مقولة تحتاج -في رأيي- إلى تأمل نقدي؛ على الرغم من وجود بعض الشواهد التي قد تدعمها أو تحمل عليها؛ إذا ما غضضنا الطرف عن معطيات أخرى أوسع وأشمل، وهذا يثير مسألة منهجية هنا تتصل بكيفية التأريخ لفكرة ما، وتكوين تصور أدق عن الواقع التاريخي.
ولكن كيف نبرهن على ذلك؟ يتلخص المنهج هنا وفي المقال القادم -بمشيئة الله تعالى- في 3 مسائل رئيسة:
المسألة الأولى: دراسة السياق. والسياق هنا يحمل معنيين: الأول: سياق تأليف كتاب الرسالة للشافعي الذي هو نص مركزي هنا، ومن ثم سماه الشافعي "الكتاب". فتأليف الكتاب -بوصفه حدثًا- لا بد من وضعه في سياق حتى يكون له معنى؛ لأننا نفترض أن مثل هذا الحدث المتميز -في بنيته وتأثيره التاريخي والتشريعي- لا بد له من سياق أوسع من مجرد تأليف كتاب. والمعنى الثاني هو السياق التاريخي الأوسع الذي جاء فيه الكتاب أو وقع فيه الحدث.
المسألة الثانية: تلقي كتاب "الرسالة" (أو "الكتاب") بعد تأليفه وفي زمن الشافعي أو قريبًا منه، كما تزودنا به كتب التراجم التي هي مصدر مهم من مصادر التاريخ قد يهمله بعض الباحثين في التاريخ؛ خصوصًا أنها سميت "تاريخ" -على الاصطلاح- في لغة الأئمة السابقين، كما أن فتاوى النوازل مصدر آخر مهم في التأريخ قد يغفل عنه بعض المؤرخين.
المسألة الثالثة: تحليل مضمون كتاب الرسالة؛ لأن المضمون هو المعبر الأصرح عن مراد أو غايات مؤلفه، ويظهر ذلك من خلال المسائل التي ناقشها الشافعي، ومن الاعتراضات التي يفترضها ويرد عليها في الكتاب. في هذا المقال سأكتفي بمناقشة المسألتين الأوليين فقط، على أن أفرد للمسألة الثالثة مقالاً مستقلا بمشيئة الله تعالى.
سياق تأليف كتاب الرسالةثمة خبر مركزي يوضح لنا حيثيات تأليف كتاب "الرسالة"، فقد وردت أخبارٌ عديدة -بألفاظ مختلفة- توضح أن الكتاب جاء ثمرة تواصل بين الإمام المحدث المعروف عبد الرحمن بن مهدي (ت. 198هـ) وبين الإمام الشافعي. وكتب ابن مهدي إلى الشافعي يسأله أن يضع له كتابًا يوضح فيه معاني القرآن (أي طرق البيان)، ويجمع فيه قبول الأخبار (أي معايير قبولها والاحتجاج بها)، وحجة الإجماع (أي حجيته)، وبيان الناسخ والمنسوخ من القرآن والسنة، فوضع له الشافعي كتاب "الرسالة".
ويلخص هذا الخبر -في الواقع- محاور كتاب "الرسالة" أو أصول التشريع التي ترجع إلى القرآن والحديث والإجماع، ولكن الأهم هو أن الطلب جاء من أحد كبار أئمة الحديث في زمنه وهو ابن مهدي. وإذا ما ضممنا هذا إلى أخبار أخرى -سأذكرها لاحقًا- أمكن لنا أن نخلص إلى أن الحاجة إلى مثل ذلك الكتاب لم تكن -فقط- حاجة فردية وُجدت عند ابن مهدي. فهذا الإمام المحدث يحيى بن سعيد القطان (ت. 198هـ) كان من المستفيدين من كتاب "الرسالة" والمتباهين به أيضًا، ونقف -في بعض الأخبار- على أنه جرت بين الإمام المحدث المعروف إسحاق بن راهويه (ت. 238هـ) والإمام أحمد بن حنبل (ت. 241هـ) مراسلاتٌ بخصوص كتب الشافعي، وخاصة كتاب "الرسالة" الذي انتفعا به انتفاعًا كبيرًا. فهذه الأخبار تجعل -في الواقع- من رسالة الشافعي نصرًا لأهل الحديث على أهل الرأي، من منظور أهل الحديث على الأقل.
طرائق التفكير الفقهي زمن الشافعيلخص فخر الدين الرازي الشافعي (ت. 606هـ) طرائق التفكير الفقهي زمن الشافعي بالقول: "إن الناس -كانوا قبل الشافعي- فريقان: أصحاب الحديث، وأصحاب الرأي (..) وأصحاب الرأي أظهروا مذاهبهم وكانت الدنيا مملوءة من المحدثين ورواة الأخبار، ولم يَقدر أحد منهم على الطعن في أقاويل أصحاب الرأي". في القرن الثاني الهجري كان أصحاب الحديث قد برزوا وصاروا طائفة أو جماعة، وصار ذلك الاسم عَلَمًا على صنعة الاشتغال بالحديث، وخاصة بعد الجمع الرسمي لأقوال النبي صلى الله عليه وسلم الذي بدأه محمد بن شهاب الزهري (ت. 124هـ) بأمر من الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز (ت. 101هـ). وقد تحولت الأحاديث مع القرآن -أو كادت- إلى مصدر حصري للتشريع في مقابل أصحاب الرأي الذين توسعوا في استعمال الرأي في مسائل التشريع حتى شمل الرأي -عندهم- 3 أصناف من الحجج:
الأول القياس على وقائع عرف حكمها بالنص بجامع التشابه بينهما أو وجود علة مشتركة بين الأمرين. الثاني الاجتهاد بمعناه الواسع الذي يحيل إلى إعمال العقل وتحكيم الخبرات. الثالث الاستحسان الذي شكل خروجًا عن الانضباط الذي فرضه القياس على واقعة أو حكم سابق، لدواعي المصلحة، الأمر الذي قد يخلف ثغرات أو عدم اتساق في التسويغ النظري.ويوحي نص الرازي السابق ببروز أهل الرأي على أهل الحديث؛ رغم كثرتهم، ويرجع ذلك في تقديري إلى اختلاف طبيعة منهج الفريقين؛ سلطة النقل وسلطة الحِجاج بأدواته المختلفة، أي أنه لم يكن ثم أرضية مشتركة بين الطرفين من ناحية المنهج.
ولكن النقطة التي تستوقفنا هنا في القرن الثاني الهجري، أنه بالرغم من كون الأرض مملوءة بالمحدثين والصنعة الحديثية، فإن الحديث لم يتحول -فيما يبدو من مصادر عديدة- إلى اتجاه عامّ أو حصريّ في التفكير الفقهي؛ مع ظهور أهل الرأي وتوسعهم في استعماله، بل إن الأمر لم يكن قاصرًا على الفقهاء، بل شمل القضاة كذلك؛ فالقاضي لا بد له من الحكم في المسألة، فماذا يفعل إن أعوزه النص مع كثرة الوقائع وقبل تبلور المذاهب الفقهية!
ثم عندما كثرت رواية الحديث برز إشكال الثقة بالمروي؛ فقد أسفر الجمع الواسع وكثرة المرويات عن نتائج وآثار جانبية تتصل بالوضع من جهة، وبالنسخ من جهة ثانية، وبالوقوف على أحاديث متعارضة من جهة ثالثة، خصوصًا أن هذه الأحاديث قد تتعارض مع ما رسخ في العمل (التقليد الحي) الذي عرفه المسلمون الأوائل وجروا عليه، ومن هنا ذهب أهل المدينة النبوية إلى أن ما عرفوه من ممارسة حية (عمل أهل المدينة) هو جزء من السنة النبوية، ولا يقبلون من الأحاديث القولية ما يخالفه، وبذلك أصبح عمل أهل المدينة أحد المعايير في تحديد قبول الأخبار وتحديد ما هو سنة تُحتذى.
ونحو ذلك فعل أهل العراق حين أَوْلَوا "السنة المشتهرة" أو "العمل المتوارَث" أهمية كبيرة، وأضفوا بعدًا عقلانيًّا على فهم الحديث، وخاصة من خلال اعتمادهم على الصحابة الذين غادر كثير منهم الحجاز ليستقر في العراق، ولذلك اعتمد فقهاء العراق على أقوال الصحابة واحتجوا بها؛ ما لم تتعارض فيما بينها؛ لأن اتفاقهم يورث الثقة بما لديهم من السنة. وكذلك اهتم الإمام الأوزاعي في الشام بالسنة النبوية التي تشبه عنده مفهوم أهل المدينة، بمعنى العمل المتوارث. أي أن الرأي بمعناه الواسع، والعمل المتوارَث الذي شكّل معيارًا يُرتكن إليه لتحديد ما هو سنة؛ خصوصًا إذا وقع التعارض بينه وبين الأحاديث القولية، هما سمتان أساسيتان من سمات تاريخ التشريع الإسلامي خلال القرن الثاني الهجري، كما نقف عليه من خلال المصادر المبكرة.
وظهر الشافعي في هذا السياق، وقد رحل وتتلمذ على أعلام من كلتا المدرستين؛ أهل الحديث (وخاصة الإمام مالك بن أنس) وأهل الرأي (وخاصة محمد بن الحسن الشيباني تلميذ أبي حنيفة). ومن النصوص بالغة الدلالة التي توضح لنا طرفًا من تفكير الشافعي ورؤيته لخارطة التفكير الفقهي في زمنه، نصٌّ يُفيد أن الشافعي سأل تلميذه الربيعَ بن سليمان عن أهل مصر، فقال له الربيع: "هم فرقتان: فرقة مالت إلى قول مالك وناضلت عليه، وفرقة مالت إلى قول أبي حنيفة وناضلت عليه. فقال الشافعي: أرجو أن أَقدُم مصر -إن شاء الله- فآتيهم بشيء أشغلهم به عن القولين جميعًا. قال الربيع: ففعل ذلك والله حين دخل مصر!". أي أنه ابتكر طريقًا ثالثًا يُقيّد استعمال الرأي في أضيق الحدود من جهة، ويتجاوز مشكلة عدم الاتساق في اتباع الحديث التي ظهرت عند مخالفيه من جهة أخرى؛ ومن ثم انتقد ترك الحديث بحجة معارضته للعمل المتوارث في المدينة النبوية، وبهذا وسع حجية الحديث النبوي الذي هو -عنده- أصل بنفسه.
تلقي كتاب "الرسالة" أيام الشافعيفي التأريخ لفكرة محددة (أو كتاب) لا غنى عن الوقوف على الشكل الذي تُلُقِّي به ذلك الكتاب في زمن مؤلفه أو قريبًا منه على الأقل؛ لأن التلقي -مضمومًا إلى العنصرين السابقين- يقربنا من الواقعة التاريخية ويعطينا رؤية أدق للحدث. لنتأمل -مثلاً- هذا النص الذي يقول فيه أحمد بن حنبل: "كانت أَقْفِيَتُنَا -يعني أصحابَ الحديث- في أيدي أصحاب أبي حنيفة ما تُنْزَعُ، حتى رَأَيْنَا الشافعي رضي الله عنه، وكان أَفْقَهَ الناس في كتاب الله عز وجل، وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ما كان يكفيه قليل الطلب في الحديث". ونحو ذلك جاء عن الإمام المحدث أبي بكر الحُمَيْديّ (ت. 219هـ): الذي قال: "كنا نريد أن نَرُدَّ على أصحاب الرأي، فلم نُحْسِنْ كيف نرد عليهم؛ حتى جاءنا الشافعي، فَفَتَحَ لنا". هذه الأخبار شديدة الأهمية؛ لأنها واردة عن الطبقة الأولى المحيطة بالشافعي من أهل الحديث؛ فأحمد تتلمذ على الشافعي، والحميدي صحب الشافعي، وكلاهما من أصحاب المسانيد، وقد جاءت هذه الأقوال عنهما بسند عال. وهي أخبارٌ غنية الدلالة في وصف صنيع الشافعي؛ الذي نصر أهل الحديث ونفعهم بأمرين:
أولهما: أنه زودهم بحجج نظرية يجادلون بها أهل الرأي بعد أن عجزوا عن ذلك قبل كتابه؛ لعدم استعمالهم للرأي وقلة خبرتهم به، وبهذا فتح الشافعي الطريق لأهل الحديث في الحجاج النظري. ومن هنا وصف حسين الكَرابيسيّ الشافعي بقوله: "ورد رجل من أصحاب الحديث يتفقه"، وهذا الوصف من رجل كان يختلف إلى أهل الرأي شديد الأهمية؛ لأنه يصنف الشافعي ضمن أهل الحديث؛ منهجًا، ومن ثم قال الفقيه موسى بن أبي الجارود عن الشافعي: "اجتمع له علمُ أهل الرأي وعلم أهل الحديث، فتصرف في ذلك حتى أصَّل الأصول وقعَّد القواعد، وأذعن له الموافق والمخالف، واشتهر أمره"، أي أنه تسلح بأدوات أهل الرأي لنصرة الحديث كما هو واضح جدًّا في عمله وفي تلقي أهل الحديث لكتابه، لا بمعنى أنه وفق بين الفريقين؛ لأنه إنما قعد وتصرف بناء على طريقة أصحاب الحديث، ونُصرة لمنهجهم.
ثانيهما: أن الشافعي كان يستكثر من الحديث ويضيّق حدود الرأي؛ لأنه يعد الحديث أصلا بنفسه وحجة بنفسه، وهو القائل: "إذا صح الحديث فهو مذهبي". وهذا معنى قول أحمد: إن الشافعي "ما كان يكفيه قليل الطلب في الحديث"، وقد عبر الإمام إسحاق بن راهويه عن هذا المعنى حين قال: "ما تكلم أحدٌ بالرأي -وذكر الثوري والأوزاعي ومالكًا وأبا حنيفة- إِلا الشَّافِعِيَّ أكثرَ اتِّبَاعًا وأَقَلّ خطأ منه"؛ لأن الشافعي ضيّق مساحة الرأي لصالح حجية الحديث واعتباره أصلاً بنفسه، الأمر الذي حمل آخرين على انتهاج نهجه والانضباط في استعمال الرأي، وهو ما عبر عنه الإمام الفقيه أبو ثَوْر (ت. 240هـ) الذي قال: "كنت أنا وإسحاقُ بن راهويه وحسين الْكَرَابِيسِيُّ -وذكر جماعة من العراقيين- ما تركنا بدعتَنا حتى رأينا الشافعي". وأبو ثور ممن صحب الشافعي ونقل عنه. ولقد أوجز فخر الدين الرازي، وجمع فأوفى؛ حين قال: "إن الشافعي جاء وأظهر ما كان معه من الدلائل والبينات، فرجع عن قبول قول أصحاب الرأي أكثرُ أنصارهم وأتباعهم".
aj-logoaj-logoaj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معناأعلن معناوظائف شاغرةترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinerssالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: أهل الحدیث تألیف کتاب ا الشافعی کتاب ا من جهة فی زمن
إقرأ أيضاً:
كتاب جديد يبرز واجب العلماء والدعاة لنصرة فلسطين والمسجد الأقصى
في زمن كثرت فيه النكبات وتزاحمت الأزمات، تظل فلسطين قضية الأمة المركزية، وقبلة الجهاد وراية الكرامة، ومعيارا صادقا لاختبار المواقف والضمائر. وفي ظل تسارع الأحداث، وتزايد التخاذل الرسمي، يبرز الدور المحوري للعلماء والدعاة بوصفهم حملة لواء الهداية، وصوت الأمة الناطق بالحق، والرافع لرايات النصرة، وللرد على السؤال الملح عن واجب الأمة اليوم لنصرة القضية الفلسطينية أفرادا وحكومات وعلماء، وما أشكال هذه النصرة؟
ويأتي كتاب "واجب العلماء والدعاة نحو تحرير فلسطين والمسجد الأقصى" للدكتور محمد يسري إبراهيم، الصادر حديثا عن دار اليسر في القاهرة، محاولة من محاولات الإجابة عن هذه القضايا الهامة، في سياق الجهود الدعوية والعلمية، ولتأصيل فريضة النصرة لقضية فلسطين والمسجد الأقصى، باعتبارها جزءا لا يتجزأ من واجبات العلماء والدعاة تجاه الأمة الإسلامية قاطبة.
والدكتور محمد يسري إبراهيم، هو أمين عام الهيئة الشرعية للحقوق والإصلاح ووكيل جامعة المدينة العالمية في ماليزيا، وهو حاصل على شهادتي الدكتوراه في الهندسة الكيميائية والشريعة الإسلامية. وينطلق المؤلف من رؤية عقدية وشمولية، تدمج بين المنطلقات الشرعية والآفاق الاجتماعية والسياسية، ويفصل القول في أبعاد النصرة، بما يراعي تكامل النظرية والتطبيق.
إعلانويمتاز هذا الكتاب بعدة خصائص علمية ومنهجية أبرزها:
شموليته وتكامله: إذ جمع بين التأصيل العقدي والفقهي والتربوي والاجتماعي والسياسي، فجاء شاملا لجوانب النصرة المختلفة. ربطه بين القضية الفلسطينية وسائر قضايا الأمة: فعد الجراح في بورما وكشمير والهند وتركستان الشرقية جراحا واحدة، لها الواجب نفسه. اعتماده على فقه الواقع والمعاصرة: حيث قدم نماذج حديثة للنصرة، مثل دروس "طوفان الأقصى"، وفتاوى العلماء، وبشائر النصر. ثراؤه بالنقولات التراثية: فقد استند إلى أقوال محققة من علماء كبار كابن القيم وابن حزم وابن تيمية، مما عزز البناء العلمي للكتاب. محتوى الكتابيتألف الكتاب من خمسة عشر فصلا، رتبها المؤلف ترتيبا منهجيا يبدأ من التأصيل الشرعي والعقدي، ويمتد إلى الواقع الاجتماعي والسياسي. وتفصيل ذلك كالتالي:
الفصل الأول: الواجب نحو فلسطين وكل قضايا الأمةيفتتح المؤلف الكتاب بالتأكيد على وحدة قضايا الأمة الإسلامية، وأن ما يجري في فلسطين هو جرح نازف في جسد الأمة، يتعين على كل مسلم، لا سيما العلماء والدعاة، أن يكون لهم فيه موقف عملي، وأن النصرة في فلسطين هي النصرة ذاتها المطلوبة تجاه المسلمين في بورما وكشمير وتركستان الشرقية والهند. ويقرر في هذا الفصل، أن النصرة واجب شرعي شامل، تتضافر فيه العقيدة والسياسة والأخلاق، مبينا أن هذا الواجب تتنوع صوره وتتعدد بحسب الزمان والمكان.
الفصل الثاني: النصرة فرض عقدي فردي وجماعييبين المؤلف أن النصرة ليست اختيارا تفضيليا بل هي فريضة عقدية وإيمانية، يقوم بها الفرد والمجتمع، ويقرها أصل الإسلام، وتثبتها آيات الولاء والبراء، وهي لازمة في حال الاعتداء والبغي، ويؤكد أن روابط النسب والوطن والإنسانية معتبرة شرعا ما لم تحل حراما، وتحرم حلالا، وتتقدم على رابطة الإسلام.
الفصل الثالث: النصرة حكم فقهي وواجب عملييتناول المؤلف النصرة من زاوية الفقه الإسلامي، فيقرر أنها واجب عملي تشمل المال، والجاه، والخدمة، والنصيحة، والدعاء، والاستغفار.
إعلانوقد ساق أقوالا مهمة في ذلك؛ منها قول ابن القيم رحمه الله تعالى عن النصرة: "إنها مواساة بالمال، ومواساة بالجاه، ومواساة بالبدن والخدمة، ومواساة بالنصيحة والإرشاد، ومواساة بالدعاء والاستغفار لهم، ومواساة بالتوجع لهم".
وقد أكد اتفاق الفقهاء جميعا على وجوب إنقاذ الأنفس من الهلكة لمن قدر على ذلك، وتأثيمهم من ترك إنقاذها، ثم بين اختلافهم في وجوب الضمان على من تركها حتى هلكت على ثلاثة أقوال.
وقال ابن حزم رحمه الله في مَن تركوا سقي العطشان حتى مات: "الذين لم يسقوه إن كانوا يعلمون أنه لا ماء البتة له إلا عندهم، ولا يمكنه إدراكه أصلا حتى يموت فهم قد قتلوه عمدا، وعليهم القود بأن يمنعوا الماء حتى يموتوا قلوا أو كثروا، فإن كانوا لا يعلمون ويقدرون أنه سيدرك الماء فهم قتلة خطأ، وعليهم الكفارة وعلى عواقلهم الدية، ولا بد".
وغرضه من مثل هذه الاقتباسات تبيين عظمة حفظ النفس وحرمتها في الشريعة، والتأسيس لوجوب نصرة المظلومين في فلسطين وغيرهم.
الفصل الرابع: النصرة خلق إيماني ومسلك تربوييركز هذا الفصل على أن النصرة ليست فقط حكما فقهيا، بل هي أخلاق إيمانية وسلوك تربوي يغرس في الفرد منذ صغره. ويستعرض المؤلف نماذج من حياة السلف في التناصر، ويؤكد أن التربية على النصرة واجب جماعي يشمل الصغار والكبار.
الفصل الخامس: النصرة منهج اجتماعي ومسعى تكافلييرى المؤلف أن النصرة تعبر عن اللحمة الاجتماعية بين المسلمين، وأنها صمام أمان مجتمعي، ويستعرض صورا من التكافل في الأزمات في التاريخ الإسلامي.
الفصل السادس: النصرة جهاد عسكري وعمل ميدانييفصل المؤلف هنا في الجهاد بوصفه أعلى صور النصرة، مؤكدا أن جهاد الدفع فريضة متعينة على من نزل بهم العدو، وأنه ينتقل وجوبه إلى الأقرب فالأقرب حتى تتحقق الكفاية. ويشدد على وجوب الإعداد المادي والمعنوي، ويبرز أن نصرة المستضعفين فريضة، حتى لو لم يكونوا مسلمين، عند وجود العهد والحلف، فكيف إذا كانوا مسلمين معتدى عليهم؟
إعلان الفصل السابع: النصرة موقف سياسي وميثاق أممييتناول المؤلف البعد السياسي للنصرة، ويرى أن الموقف السياسي من قضية فلسطين يجب أن يعبر عن ميثاق أممي إسلامي، يمثل وحدة الأمة في وجه العدوان، وأن النصرة تتطلب موقفا دوليا موحدا لا يكتفي بالإدانة وإنما يطالب بالتحرك العملي والتكامل المؤسساتي.
الفصل الثامن: النصرة حكم قضائي ومبدأ قانونييؤكد المؤلف على أن النصرة يجب أن تكون كذلك مبدأ قانونيا، تقره المحاكم والمؤسسات القضائية الإسلامية، وترتكز فيه العدالة إلى مبدأ إنصاف المظلوم، والدفاع عن الحقوق، ونصرة الضعفاء، ويستعرض نماذج من تاريخ القضاء في الإسلام تؤيد ذلك.
الفصل التاسع: صفحات من نصرة العلماء والدعاة لقضايا المسلمينيستعرض هذا الفصل جهود العلماء والدعاة في التاريخ لنصرة قضايا الأمة، في المغرب والمشرق، وفي فلسطين وغيرها، ويوثق مواقفهم ويؤكد أن هذه النصرة ماضية منذ القرون الأولى.
الفصل العاشر: العقيدة في الأقصى والقدس وفلسطين (العقيدة المقدسية)يخصص المؤلف هذا الفصل لبيان مكانة المسجد الأقصى في عقيدة المسلمين، وأنه جزء من الثوابت العقدية، وأن ارتباط الأمة به ليس ارتباطا قوميا أو تراثيا، بل هو ارتباط ديني ومصيري، يعكس مركزية القدس في وجدان الأمة.
الفصل الحادي عشر: خطوات العلماء والدعاة في طريق النصرةيفصل المؤلف في هذا الفصل المسؤوليات العملية الملقاة على عاتق العلماء والدعاة، من تربية الأمة على الواجب، وتبصير الناس، وتوجيه الخطاب الشرعي، وتقديم الدعم، وربط الجماهير بالقضية من خلال الوسائل الإعلامية والدعوية والمؤسسية.
الفصل الثاني عشر: نصرة قضية فلسطين نصرة لمجتمعات المسلمينيرى المؤلف أن نصرة فلسطين ليست عبئا خارجيا، بل هي مكسب داخلي للأمة، إذ تعيد إحياء الهوية، وتوحد الصفوف، وتثبت القيم الإسلامية، ويستعرض كيف أن التفاعل الشعبي مع القضية الفلسطينية ينعكس بالخير على المجتمعات الإسلامية.
الفصل الثالث عشر: مبشرات النصر وصور من انتصار الطوفانيسوق المؤلف بشائر النصر كما وعد الله تعالى، ويستعرض صورا من الانتصارات الميدانية والمعنوية، لا سيما تلك التي وقعت أخيرا في سياق معركة "طوفان الأقصى"، ليربط الأمة بمفهوم الأمل والثقة بوعد الله.
الفصل الرابع عشر: خلاصات من دروس طوفان الأقصىيتوقف المؤلف عند الدروس المستفادة من "طوفان الأقصى"، ويستنبط منها عبرا شرعية، وتربوية، وعسكرية، وسياسية، ليؤكد أن هذه المعركة محطة من محطات تحرير فلسطين لا يمكن إغفالها.
إعلان الفصل الخامس عشر: فتاوى علماء الأمة في نصرة الأقصى وفلسطينيختتم المؤلف بذكر مجموعة من الفتاوى الصادرة عن كبار علماء الأمة، التي تؤكد وجوب النصرة بكافة صورها، وتشرع أشكال الدعم المادي والمعنوي والعسكري والسياسي، وترد على الشبهات في هذه الفريضة.
يمثل هذا الكتاب جهدا علميا رصينا يدمج بين الأصالة الشرعية والحس الواقعي، ويبرز أن نصرة فلسطين واجب شامل متكامل، يعبر عن صدق العقيدة وصحة الانتماء وصدق الإيمان. وقد أحسن المؤلف في عرض الفصول وتبويبها، وفي ربط القضية بمصير الأمة، والدعوة إلى خطاب وحدوي تعبوي، يوقظ الضمائر ويستنفر الطاقات.
والكتاب بيان جامع بين النصوص والواقع، وبين الفقه والتربية، وبين العلم والعمل، يرسم ملامح الطريق ويحمّل العلماء والدعاة مسؤوليتهم أمام الله ثم أمام الأمة.
ينهي المؤلف الكتاب وهو يسأل نفسه: هل قام العلماء والدعاة بواجبهم؟ وهل أدينا نحن النصرة المطلوبة؟ وهل نرجو النصر ونحن مقصرون في أسباب النصرة؟
إنه نداء إيماني قبل أن يكون واجبا سياسيا أو اجتماعيا، وهو دعوة إلى أن تعود مركزية المسجد الأقصى في وجداننا وأعمالنا.