الخطاط السوري منير الشعراني: الحرف العربي كائن حيّ يختزن روح الجمال وحرية الإنسان
تاريخ النشر: 21st, October 2025 GMT
•الفن يُخلق باليد والعقل والروح والكمبيوتر مجرد أداة تنفيذ لا أكثر
•الخط العربي لم يعد زخرفة بل فضاء بصري للتفكير والتأمل
•الحرف يصبح رمزا للتحرر حين يخرج من قوالبه المألوفة
•رأيت في التجربة العمانية شغفا جميلا يحتاج إلى وعي أعمق
منذ طفولته الأولى كان الحرف العربي بالنسبة إليه أكثر من شكل جمالي، كان كائنا نابضا يفيض بالدهشة ويمنح العين والعقل متعة الاكتشاف، ففي العاشرة من عمره قادته مصادفة سعيدة إلى مرسم الخطاط بدوي الديراني (شيخ الخطاطين في بلاد الشام)، وهناك بدأت اللحظة التي غيّرت مسار حياته، حين وقف خلف الزجاج مأخوذا بتلك الخطوط التي تتراقص على الورق كما لو كانت كائنات حية تتحرك بأنفاسها الخاصة، فانتبه أستاذه لوجوده ودعاه للبدء في رحلة ستظل عنوانا لتجربته كلها، رحلة البحث عن الجمال في الحرف وعن الحرف في الجمال، رحلة جمعت بين الدقة والحرية، بين المعرفة والرؤية.
بعد محطات متنوعة بين دمشق والقاهرة ثم عودتك، ما أبرز التحولات التي تركتها هذه البيئات المختلفة في الوعي الجمالي ورؤيتك للخط؟
الوعي الجمالي بالنسبة إلي هو مسألة تراكمية لا تأتي دفعة واحدة ولا تولد فجأة، بل تتكوّن يوما بعد يوم من خلال التجربة والممارسة والفهم، فكل يوم يزيد فهمك للفن ويزداد إدراكك لما تريد أن تفعله ولدورك بوصفك فنانا، وقد بدأ هذا التراكم عندي في سوريا من خلال شغفي بممارسة الخط كمهنة، ثم من خلال انشغالي بالأفكار التجديدية التي تتعلق بإعادة إحياء الخط العربي في الساحة التشكيلية، لا بوصفه مهنة أو حرفة فحسب، بل باعتباره فنا فكريا وجماليا قادرا على التعبير عن روح العصر.
ومن أجل ذلك سعيت إلى توسيع معارفي حول الخط، درست تاريخه النظري والبصري، وتأملت ما هو مسكوت عنه فيه، فقادني ذلك إلى محاولات التجديد والإضافة، ثم جاءت الممارسة العملية لتعمّق التجربة أكثر حين عملت في تصميم الكتب والمطبوعات في بيروت ثم في قبرص وبعدها في القاهرة، التي جعلت منها مساحة للتجريب وتطوير الخطوط التي كنت أعمل عليها، فكان كل مشروع وكل تجربة تضيف طبقة جديدة إلى رؤيتي وتفتح أمامي أفقا جديدا للتعامل مع الحرف العربي وممكناته.
لقد أتاح لي هذا الاحتكاك العملي بعالم الطباعة والنشر أن أرى الخط في بعده التطبيقي والفني معا، وأن أفكر في كيف يمكن للحرف أن يكون جزءا من تصميم شامل له فكر ووظيفة وجمال في آن واحد، وهذا ما جعلني أبحث عن الإضافة لا عن التكرار. وفي القاهرة اتسعت رؤيتي أكثر، إذ تعرفت إلى الخطوط في أماكنها الأصلية داخل مساجد القاهرة الفاطمية وفي المتحف الفني الإسلامي، وهناك اكتشفت الخطوط الكوفية التي كانت شبه غائبة طوال العصور العثمانية، فكانت تلك التجربة امتدادا لما بدأته من قبل لكنها منحتني أفقا أرحب ونظرة أعمق إلى العلاقة بين التاريخ والجمال والابتكار في الخط العربي.
.. لكن ما الذي يعنيه أن يتحول الخط العربي من أداة زخرفة إلى فضاء بصري للتفكير والتجريب؟
التجريب في جوهره هو ما يمنح الفن حياته واستمراريته، واليوم لم يعد الخط العربي مجرد وسيلة للزخرفة كما كان في العصور الماضية، بل أصبح مجالا للتأمل البصري والتفكير الجمالي، يتفاعل مع التحولات التي طالت كل الفنون الأخرى، فكما تطورت العمارة والرسم والنحت، كان لا بد للخط أن يواكب هذا التغيير. في الماضي كان الخط جزءا عضويا من العمارة، شريكا لها في التعبير عن الجمال والروح، كنا نراه منقوشا على جدران المباني التاريخية والمساجد والقصور، وكان حضوره طبيعيا لأنه منسجم مع البيئة البصرية المحيطة، حتى في الأدوات اليومية والسلاح والحلي كان الحرف عنصرا حاضرا، جزءا من هوية المكان والشيء.
أما اليوم فقد اختلفت الصورة تماما، صارت العمارة الحديثة أكثر بساطة وأقل زخرفة، وصار اللون الواحد والجدار الصامت هو الغالب، ومن هنا تغير دور اللوحة الخطية، فلم تعد جزءا من الجدار بل صارت كيانا مستقلا يُعلّق عليه، وتوجّهت وظيفتها نحو المتلقي لا نحو البناء نفسه، أي نحو الإحساس الجمالي داخل المكان الحديث. وهذا استدعى أن نطور اللوحة الخطية لتكون منسجمة مع هذه المساحات الجديدة، بحيث لا تبدو نافرة أو غريبة، بل متوافقة مع روح العصر ومع هندسة المكان، ولهذا بات على الفنان أن يوازن بين البساطة التي يفرضها المحيط الحديث، وبين العمق الجمالي الذي يحمله الحرف العربي.
في تجربتك ... هل تسعى إلى إحداث صدمة بصرية أم إيقاظ وعي جمالي؟
تجربتي الجمالية ساعدني فيها عملي الطويل على إعادة إحياء الخط العربي في موقعه الطبيعي بين الفنون، لأنني كنت أرى أن هذا الفن قد أُقصي من دائرة الفنون التشكيلية، وصار يُنظر إليه على أنه فن تطبيقي أو شعبي يُستخدم للزينة أو للتبرك أو لصناعة اللافتات، بينما هو في جوهره أحد أرقى الفنون التي أنجبتها الحضارة العربية والإسلامية. كنت أرى أن على الخط العربي أن يستعيد مكانه اللائق بين الفنون، كما كان في العصور التي بلغ فيها ذروته الجمالية والفكرية، كالعصر العباسي والأندلسي وفي مصر الفاطمية وما تلاها، حيث كان الخط العربي القاسم المشترك بين الفنون جميعها، لأنه لم يكن مجرد وسيلة للتزيين بل حاملا للرؤية الفلسفية العربية في جوهرها الجمالي، لا في بعدها الديني فحسب.
لقد كان هناك تنظير فلسفي للخط منذ القرون الأولى، في رسائل إخوان الصفا، وفي نصوص الفلاسفة كحيان التوحيدي الذي كتب في جوهر الخط ومعناه، وابن مقلة الذي وضع قواعده انطلاقا من فهم فلسفي للعلاقة بين الشكل والمعنى، وكل ذلك يدل على أن الخط العربي كان فنا مؤسسا على فكر جمالي عميق، وعلى وعي نظري يرى في الحرف كائنا جماليا يربط بين الفكر والحس.
لكن مع تباعد الزمن والركود الذي أصاب الفنون العربية، تراجع الخط العربي عن مكانته، وبدا في ظاهره أنه تطور خلال العصر العثماني، غير أن هذا التطور كان في الأداء لا في الجوهر، فقد ظهرت خطوط وظيفية بحتة كالخط الديواني والديواني الجلي والرقعة، وضُيّق الخناق على الخطوط التي تحمل طاقة تعبيرية وفلسفية أوسع كالخط الكوفي والمغربي، حتى اختفت هذه الخطوط من الساحة الفنية أو كادت، فكان علينا نحن ومن قبلنا أساتذتنا أن نبحث عنها من جديد، وأن نعيد إحياءها واستكشاف طاقتها الجمالية.
من هنا انطلقت محاولتي في أن أرتقي بالخط العربي وأعيد إليه أفقه الإبداعي، لا عبر استنساخ القديم، بل عبر استحضاره بوعي جديد، لأن الخط في نظري ليس فنا من الماضي بل فنا قادرا على أن يعيش الحاضر ويواكب المستقبل، طالما بقي متصلا بجذوره الجمالية وبحريته الفكرية.
.. وكيف قرأت الجمهور في التفاعل مع هذه التجربة؟
في الحقيقة منذ أول معرض لي في القاهرة لاحظت أن هناك تفاعلا طيبا مع الجمهور، حتى أن عددا من المهتمين بالثقافة والفنون كتبوا في سجل الزيارات آنذاك أنهم كانوا مبتعدين عن الخط العربي لأنهم ملّوا تكرار ما يرونه من العبارات والخطوط ذاتها، لكنهم وجدوا في التجربة التي قدمتها أفقا مختلفا وإحساسا جديدا جعلهم يشعرون بأن هناك شيئا يستحق المشاهدة. برأيي أن هذا التفاعل الذي بدأ في تلك المرحلة تراكم مع الزمن، وخلق جمهورا جديدا للخط العربي، وأسهم في إعادة جذب المتلقين إليه بعد أن كان محصورا في نطاق ضيق.
لقد ساهمت التجربة أيضا في تحريك اهتمام عدد من الخطاطين الشباب الذين تأثروا بالخطوط التي طورتها وصممتها، بعضهم حاول تقليدها، وأنا لا أحب فكرة التقليد بقدر ما أفضل أن يتعاملوا مع المنهج نفسه وأن يضيفوا عليه بطريقتهم الخاصة، فالفن لا يعيش إلا بالإضافة لا بالتكرار. ومع ذلك أستطيع أن أقول إنني كوّنت صداقات فنية كثيرة، واستطاع بعض الشباب أن يأخذوا من تجربتي ما يساعدهم على بناء طريقهم الخاص، وإن كانت القلة فقط هي التي سارت في هذا الاتجاه بشكل منهجي واع، فالجمهور في النهاية يتفاعل بقدر ما يجد الصدق في التجربة، والفنان الحقيقي هو الذي يستطيع أن يفتح أمامه أفقا للتفكير والجمال معا.
حينما أقتربت من الحرف العربي هل وجدته مادة تشكيلية صرفة، أم مدخلا لفلسفة ومعنى يتجاوز الشكل إلى الوجود؟
الخط العربي في جوهره فن قائم على التجريد، وهذه هي ميزته الكبرى، فالكتابة في أصلها تجريد، بدأت من الصورة ثم تحولت إلى الرمز، ثم إلى الحرف، والحرف العربي وُجد أول الأمر لأداء وظيفة محددة هي التدوين ونقل الكلام والتواصل بين الناس وتسجيل الاتفاقيات والمعارف، لكنه مع تطور الحضارة انتقل إلى وظيفة أرقى هي الوظيفة الفنية، فلم يعد مجرد وسيلة للتوصيل بل أصبح مصدرا للمتعة البصرية والتأمل.
هذا الارتقاء في الخط العربي بدأ منذ العصر الأموي مع حركة تعريب الدواوين، ومن هناك بدأ الحرف يتحول من أداة عملية إلى عنصر جمالي، فصار الفن القائم على التجريد يتجلى فيه بأبهى صوره، يجمع بين الفكرة والشكل، وبين العبارة والمبنى، فالشكل في الخط العربي هو التجربة البصرية التي يقوم عليها العمل، أما المحتوى فهو العبارة المكتوبة التي تمنحه معناه الداخلي.
أحيانا تكون العبارة دينية أو شعرية أو فلسفية بحسب طبيعة الفنان ورؤيته للحياة، فالفنان الواعي لا يختار نصه عشوائيا بل ينطلق من فكرة يريد إيصالها أو إحساس يريد تجسيده بالحرف، بينما هناك من يكتفي بإعادة إنتاج العبارات التقليدية المعروفة، فتغدو أعماله أقرب إلى استعراض مهارة مهنية منها إلى لوحة فنية حقيقية، أما أنا فأرى أن جوهر التجربة يكمن في الجمع بين الفكر والجمال، بين حضور المعنى وقوة الشكل، فالحرف العربي لا يعيش إلا حين يكون مزيجا من الاثنين معا.
كثير من أعمالك تستند إلى نصوص دينية وصوفية وفلسفية وشعرية ما المعايير التي تجعلك تختار نصا بعينه ليصبح لوحة خطية؟
عندي منظومة فكرية واضحة أتحرك من خلالها في كل ما أفعله في حياتي، فهي بالنسبة إلي بوصلة فكرية وجمالية تنظم رؤيتي للفن وللعالم، وتقوم على مجموعة مفاهيم أساسية أعدها جوهر الوجود الإنساني مثل الحرية والحق والخير والجمال والحب، وهذه المفاهيم هي التي تشكل نواة اهتمامي، فالإنسان هو محور كل شيء عندي، وكل ما يمكن أن يخدمه أو يحرّك وعيه أو يدفعه إلى التفكير هو بالنسبة إلي مادة صالحة للفن.
من هذا المنطلق أختار عباراتي، فهي ليست عشوائية ولا مكررة، بل هي نتيجة بحث وتأمل دائم عن النص الذي يحمل معنى إنسانيا عميقا، نص يحرض العقل على التفكير ويفتح أمامه أسئلة تتعلق بالحياة والحرية والمعنى، وغالبا ما أميل إلى العبارات المكثفة الموجزة، تلك التي تختزن الفكرة الكبيرة في أقل عدد من الكلمات، لأنها تترك مساحة للتأمل، وتدفع المتلقي إلى التفاعل الذهني مع العمل الفني، لا أن يكتفي بقراءته بعينه فقط.
قد تكون العبارة مأخوذة من نص ديني أو شعري أو فلسفي أو من قول مأثور، فالمصدر ليس هو المهم، بل ما تحمله العبارة من طاقة فكرية وإنسانية، وما تتيحه من إمكان للتفاعل بين المعنى والشكل، وأنا أرى أن الخط العربي حين يُبنى على فكرة حقيقية يصبح فنا قادرا على أن يخاطب الإنسان أينما كان، لأنه في النهاية تعبير عن وعي الإنسان بذاته وبقيمه الكبرى.
إلى أي مدى كان شغلك على تفكيك القوالب الكلاسيكية للخط بحثا عن حرية جمالية وفكرية؟
الحرية بالنسبة إلي هي أساس كل إبداع، فلا يمكن لأي فن أن يولد في ظل القيود، لأن الفن في جوهره فعل تحرر وتجاوز، ومن دون حرية لا يمكن أن يكون هناك خلق حقيقي. لقد أثّر غياب الحرية عبر العصور في مسار الفنون كلها، والخط العربي لم يكن استثناء، فعندما ساد التضييق في العصر العثماني على الفكر والفن، انعكس ذلك مباشرة على الخط، فتوقفت عملية الابتكار، وصار الاهتمام ينصب على تحسين ما هو قائم وتجويده فقط، لا على الخلق والإضافة. لذلك لم تظهر في تلك الحقبة إبداعات جديدة قادرة على دفع الخط خطوات إلى الأمام، لأن المناخ العام لم يكن يسمح بالمغامرة أو بالتفكير خارج المألوف.
من هنا كانت الحرية بالنسبة إلي قضية أساسية في العمل الفني، وهي لا تنفصل عن مفاهيم أخرى أعدّها جوهر الحياة، مثل الحق والخير والجمال والحب، فهذه القيم مترابطة وتشكّل معاً الأرضية التي أتحرك عليها في تجربتي، وأحاول دائما أن أطرح موضوع الحرية بشكل أو بآخر في أعمالي، سواء عبر الفكرة التي تحملها العبارة أو من خلال الشكل الذي تجسده الحروف، فالحرف نفسه يصبح رمزا للتحرر حين يتجاوز قيوده ويخلق إيقاعه الخاص.
أنا لا أرى الحرية مفهوما مجردا، بل طاقة تدفع الفنان إلى اكتشاف ذاته والبحث في الإنسان وفي العالم من حوله، والحب هنا أيضا ليس حباً عاطفياً ضيقاً، بل حب الإنسان للإنسان، وحب الحياة والسلام، فكلها قيم تنتمي إلى الفضاء نفسه الذي ينتمي إليه الفن.
أرى أن الخط العربي قادر على أن يحقق معادلة الشكل والمضمون التي طالما حيّرت الفنانين، فهو فن تجريدي بصري يجذب العين، لكنه في الوقت نفسه يحمل نصاً وفكرة ومضمونا، لذلك يمكن للوحة الخطية أن تخاطب حتى من لا يعرف القراءة، لأنها تنقل إليه إحساسا ومعنى بصريا في الوقت ذاته، وتجعله يتأمل في القيم التي تنتمي إلى جوهر الإنسان كالحب والحرية والكرامة، وهي القيم التي أحاول دائما أن أجعلها حاضرة في أعمالي.
في زمن يطغى فيه الرقمي وسرعة الصورة، ما الدور الذي يمكن أن يلعبه الخط العربي في بناء ذائقة بصرية جديدة لدى الأجيال؟
المسائل الرقمية منحت الخطاط أداة تنفيذ مريحة وسريعة، لكنها لم تمنحه بالضرورة وسيلة للإبداع، فالأجهزة والبرامج لا تصمم العمل الفني ولا تضيف إليه شيئا من روح الفنان، واستخدام الحروف الجاهزة في الحاسوب أو النقل المباشر عبر أدوات الشف وغيرها لا يجعل من الناتج عملا أصيلا، لأن العمل الأصيل في فن الخط هو ذلك الذي يُبنى من الألف إلى الياء في ذهن الفنان قبل أن ينتقل إلى الورق.
كثير من طلابي في بداياتهم كانوا يلجأون إلى الأجهزة الرقمية حتى في التمارين الأولى، فيضعون تصاميمهم على الحاسوب مباشرة، في حين أن الخط في جوهره يعتمد على الإحساس بالقلم وملامسته للورق، فالتعامل الحر مع القلم يمنح الفنان مساحة أوسع من الإمكانات والحلول البصرية، ويجعل العلاقة بين اليد والعين والعقل أكثر حيوية وصدقاً، بينما الأداة الرقمية تضع حاجزا بين الفنان والورق، وتفقد العمل شيئا من دفئه وحضوره الإنساني.
حتى اليوم أنا أبدأ كل تصميم على الورق، أرسم وأخط وأصحح بيدي، ثم أنقل ما أنجزته إلى الكمبيوتر ليأخذ القالب النهائي الذي يساعدني في الطباعة أو الإخراج، فالدور الرقمي هنا هو دور خادم للفكرة وليس مولدا لها. في رأيي لم تتمكن الأدوات الرقمية حتى الآن من أن تضيف إلى الخط العربي شيئا جوهريا، بل في كثير من الأحيان أساءت إليه نتيجة الاستخدام الخاطئ.
بعض الشباب يأخذون الخطوط الجاهزة من الكمبيوتر ويعبثون بها في التصميم دون معرفة بتشريح الحرف أو بنيته، والحرف مثل الجسد الإنساني له هيكله وتوازنه، يمكن أن يكون ممتلئا أو نحيفا، لكن حين تُشوّه نسبه يختل توازنه وتضيع جماليته. لذلك أرى أن على الأجيال الجديدة أن تتعامل مع التكنولوجيا بعقل نقدي، أن تستفيد من أدواتها دون أن تستسلم لها، لأن الذائقة البصرية لا تُبنى بالسرعة، بل بالتأمل وبالعمل اليدوي الذي يربط بين العقل والروح والحس، وهو ما يجعل الخط العربي قادرا على أن يبقى فنا حيا في زمن السرعة والسطحيات.
لكن .. أليس هذا تحديا كبيرا في ظل استعانة الجيل الجديد بالوسائل الرقمية وغياب الوعي الكافي لديهم بخطورة هذا الاعتماد؟
بطبيعة الحال هذا تحدٍ حقيقي، لكنني أرى أن الوعي لا يولد دفعة واحدة، بل يتشكل تدريجيا في كل جيل. فمع مرور الوقت تظهر دائما فئة من الشباب تمتلك طموحا مختلفا، تبحث عن المعرفة وتسعى إلى أن تصنع شيئا خاصا بها لا أن تتكئ على منجز الآخرين. هذه الفئة هي التي تدفع بالفن إلى الأمام، ولو لم تكن موجودة لما وصلنا إلى ما نحن عليه اليوم، لأن كل عطاء جديد يقوم أساسا على تجاوز ما سبقه.
المشكلة التي نعيشها الآن ليست في الوسائل الرقمية ذاتها بل في ما أسميه التكاسل العقلي، إذ يريد الكثيرون كل شيء جاهزا وسريعا، وهذه مرحلة لا يمكن أن تدوم، لأن الحياة نفسها تعيد التوازن، فمع الزمن يظهر من يدرك قيمة الجهد والمعرفة والتجريب الحقيقي. ما زال هناك من يقرأ الكتاب الورقي ويكتب بيده ويستمتع بالملامسة الحسية للأشياء، لأن الأدوات الرقمية رغم فائدتها تبقى جافة، لا تمنح الفنان المتعة الحقيقية التي يشعر بها عندما يمسك القلم أو الريشة أو يلمس الورق واللون والخامة.
الوسائل الرقمية تجعل التجربة متشابهة، الأداة واحدة في الرسم والكتابة والتصميم، بينما الفن يحتاج إلى اختلاف الأدوات والإحساس بالخامة. لذلك سيبقى دائما أشخاص يفضلون العمل اليدوي ويبحثون عن لذّة التجريب الحسي، لأنهم يعرفون أن الإبداع لا يولد من الأداة بل من اليد والعقل والروح معا. وأنا أرى أن الكمبيوتر يمكن أن يكون أداة تنفيذ مفيدة، لكنه ليس أداة إبداع، ولا يمكن أن يحل محل التجربة الإنسانية المباشرة، فدوره يبقى مساعدا وتقنيا، بينما الإبداع الحقيقي يظل فعلا إنسانيا خالصا.
هل يمكن للخط العربي أن يتحول إلى لغة بصرية عالمية تتجاوز حدود اللغة وتخاطب إنسانية مشتركة؟
في تجربتي أستطيع القول إنني حققت نوعا من التوازن في هذا الجانب، فقد عرضت أعمالي في بلدان عديدة داخل العالم العربي وخارجه، وكان التفاعل من الجمهور الأجنبي مذهلا في كثير من الأحيان، فالكثير من الذين حضروا معارضي في أوروبا أو في بلدان أخرى لا يعرفون العربية على الإطلاق، ومع ذلك كانوا يتجاوبون مع العمل الفني بصدق وإعجاب، لأن الخط العربي بالنسبة إليهم بدا كلغة بصرية قائمة بذاتها، فيها موسيقاها وإيقاعها وانسجامها الداخلي الذي لا يحتاج إلى ترجمة.
في معارضي داخل العالم العربي كان الحضور الغالب عربيا بطبيعة الحال، لكن المفاجأة أن نصف الأعمال التي بيعت عبر مسيرتي اقتناها أجانب لا يعرفون العربية، والنصف الآخر اقتناه عرب، والسبب في رأيي أن الغربيين يمتلكون ثقافة اقتناء الأعمال الفنية أكثر من غيرهم، ولديهم حس عال في التذوق الجمالي، فهم لا يبحثون أولا عن المعنى اللغوي بل يتعاملون مع اللوحة كعمل بصري، يشدهم التكوين والشكل واللون قبل أن يسألوا عن المعنى، ثم تأتي الأسئلة لاحقا عن النص وما يحمله من دلالة.
أتذكر أن هذا التفاعل كان واضحا حتى في بداياتي، ففي معارضي الأولى في مصر كان يحضر عدد من الدبلوماسيين أو الطلاب الأجانب الذين يدرسون اللغة العربية أو يزورون القاهرة، وكان بعضهم يقتني العمل بدافع الإعجاب الصادق، رغم أن إمكاناته المادية محدودة، فقط لأن اللوحة مسته قلوبهم وأثارت فضولهم الجمالي.
وفي المعارض التي أقمتها في فرنسا وألمانيا وبريطانيا وغيرها، كان هناك دائما تفاعل جميل وعمق في التلقي، لأن الخط العربي يمتلك طاقة جمالية مجردة تجعله قادرا على أن يخاطب الإنسان أينما كان، فهو لا ينقل معنى لغويا فحسب، بل ينقل إحساسا بالشكل والنسبة والإيقاع، وهي عناصر تشترك فيها كل الثقافات، ومن هنا أرى أن الخط العربي يمكن بالفعل أن يكون لغة بصرية عالمية تتجاوز حدود اللغة وتنتمي إلى إنسانية مشتركة تبحث عن الجمال بوصفه لغة كونية واحدة.
في سياق عدم المعرفة باللغة، كيف يمكن لمن لا يجيد العربية أن يتعامل مع الخط العربي؟ فقد لاحظنا أن عددا من الخطاطين في إيران وتركيا مثلا لا يتحدثون العربية مطلقا، فكيف يفهمون الحرف ويبدعون به؟
يتعامل هؤلاء مع الحرف العربي من خلال الشكل قبل اللغة، لكن يجدر أن نذكر أن كثيرا من هذه الشعوب لها تاريخ طويل في استخدام الحرف العربي، فإيران مثلا ما زالت تكتب به حتى اليوم بعدما انتقلت من الكتابة بالبهلوية القديمة إلى العربية، أما تركيا فكانت أول لغة مكتوبة لديها بالعربية أيضا، لأن لغتهم كانت منطوقة فقط ولم تكن مدونة، فأول ما كتبوه كان بالحروف العربية قبل أن يتحولوا إلى الحروف اللاتينية في بدايات القرن العشرين.
من هنا يمكن القول إن الحرف العربي جزء من تراثهم الثقافي، وهم يكتبون به عبارات بلغتهم أو بالعربية في النصوص القرآنية أو الدينية، أما في المجالات الأخرى فيستخدمون لغاتهم الأصلية كالإيرانية أو الأردية أو غيرها، ومع ذلك ظل الحرف العربي حاضرا في الوجدان الجمالي لديهم بوصفه حامل هوية ورمزا بصريا عميقا.
اليوم هناك عدد كبير من الخطاطين غير العرب من إيران وتركيا وباكستان والهند وغيرهم يكتبون بالحرف العربي بلغاتهم الخاصة، وبعضهم من الغرب أو من الشرق الأقصى كاليابانيين الذين تعلموا الخط العربي وأصبحوا خطاطين محترفين، وهذا يدل على أن الحرف العربي تجاوز حدود اللغة وأصبح فنا عالميا قائما بذاته.
أما عن إمكانية أن يكون الإنسان خطاطا من دون أن يعرف العربية، فذلك ممكن إلى حد ما، لأن التعامل الأول يكون مع الشكل لا مع المعنى، ولكن في أغلب الحالات يجذبهم الحرف إلى تعلم اللغة ذاتها، فحبهم للحرف يقودهم إلى محاولة فهم معناه، وكثير منهم مع الوقت تعلموا العربية من خلال الخط، فصار الحرف بالنسبة إليهم طريقا إلى اللغة، وطريقا أيضا إلى فهم أعمق للجمال والمعنى معا.
بين اللوحة والمعرض والكتاب، أين تشعر أن الخط يكتمل كفن، وما الرهان الذي تضعه على الكتاب المطبوع اليوم؟
الخط في جوهره يتجلى كفن خالص في اللوحة الفنية أكثر مما يتجلى في الكتاب أو الغلاف، لأن اللوحة تمنح الفنان كامل حريته في الاختيار والتعبير، فهو فيها يقرر الخامة التي يعمل عليها، والألوان التي يستخدمها، والعبارة التي يخطها، والتكوين الذي يشكله دون قيود خارجية تحد من حركته أو توجهه، بينما في الكتاب أو الغلاف تدخل عناصر كثيرة ليست من صميم عمل الفنان، كمتطلبات الطباعة وعدد الألوان والشعارات والعناوين وأسماء دور النشر، وهذه كلها شروط مفروضة تجعل غلاف الكتاب فناً صناعياً أكثر منه فناً حراً.
حين يُستخدم الخط العربي في غلاف كتاب فهو يؤدي وظيفة جمالية مهمة بلا شك، لكن حضوره يكون جزءاً من تصميم متكامل يخضع لتوازنات تقنية وتسويقية وإنتاجية، لذلك لا يكون الحرف فيه سيداً مطلقاً كما في اللوحة، بل أحد العناصر التي تُوظَّف لخدمة الغلاف وتحقيق جاذبيته البصرية، والمصمم الناجح هو من يعرف كيف يضع الخط إلى جانب بقية العناصر من صورة أو لون أو عنوان بطريقة تجعل الغلاف متناسقاً ويشد القارئ إلى اقتناء الكتاب وتصفحه.
أما اللوحة الفنية فهي المجال الأرحب الذي يكتمل فيه الخط بوصفه فناً قائماً بذاته، لأنها تمنح الفنان حرية التفكير والتكوين والإبداع من دون أن يُفرض عليه شيء، فهي مساحة مطلقة للانفعال الجمالي، فيها يختار الفنان نصه كما يريد ويصوغه كما يشعر، ويترك للحرف أن يتنفس في فضائه الخاص. لذلك أرى أن التجلي الأكبر للخط يكون في اللوحة، أما الكتاب والغلاف فهما مجالات توظيف لهذا الفن، يضيفان إليه قيمة وظيفية وجمالية، لكنهما لا يمثلان اكتماله الفني الخالص.
هل اطلعت على التجربة العمانية في الخط العربي، وكيف تقيم ما شاهدتموه من أعمال؟
اطلعت فعلا قبل يومين على معرض للخط العربي هنا في سلطنة عمان، وكان معظم المشاركين من الشباب، وقد لفت نظري أن في تجربتهم شيئا من الاستسهال الذي يعود في الغالب إلى الاعتماد الكبير على الوسائل الرقمية، فالكثير منهم يأخذ شكلا جاهزا أو نوعا من الخطوط ثم يتلاعب به رقميا ليكوّن منه لوحة، فيضع الألوان والخطوط دون دراية كافية بأسس التكوين أو بقواعد الخط، فإذا كان خطاطا يفتقر إلى الحس التشكيلي، وإذا كان رساما لا يمتلك معرفة دقيقة ببنية الحرف، فتظهر النتيجة عملا يفتقد إلى الانسجام بين الفنين.
لاحظت أيضا أن الاتجاه الحروفي لدى بعضهم لا يقوم على تطوير الخط العربي نفسه، بل يتجه إلى معالجة شكلية سطحية تجعل العمل معلقا بين الرسم والخط دون أن يمتلك شخصية فنية واضحة، فلا هو يرتقي بالحرف ليطوره، ولا هو ينجح في بناء لوحة تشكيلية متماسكة، والسبب في رأيي أن هناك حلقة مفقودة بين المعرفة النظرية بالخط العربي وبين الوعي التشكيلي الذي يتطلبه بناء اللوحة.
مع ذلك رأيت بين المشاركين عددا من التجارب المعقولة التي يمكن أن تتطور مع الوقت إذا وجد أصحابها التوجيه المناسب وواصلوا التدريب الجاد، فهناك بذور يمكن أن تنمو في الاتجاه الصحيح. غير أن ما يغيب عن أغلب التجارب هو الفهم العميق لوظيفة اللون في اللوحة الخطية، فاللون ليس عنصرا إضافيا للزخرفة بل هو عنصر تعبيري ينبغي أن ينسجم مع العبارة المكتوبة ومع روح الحرف ذاته.
من وجهة نظري اللوحة الخطية لا تكتمل إلا بعبارة تختار بعناية، لأن الحرف العربي مرتبط بالمعنى الذي يحمله النص، والتمارين الكثيرة التي يقوم بها بعض الخطاطين لا يمكن اعتبارها لوحات بالمعنى الفني، لأنها تفتقر إلى البناء المتكامل، وفي كثير من الأعمال الحروفية التي نراها اليوم نجد تكرارا للحروف من دون بناء بصري منظم، بينما جوهر الفن الحقيقي في الخط هو أن يجمع بين الإحساس بالتكوين والفكر الجمالي الذي يجعل من الحرف كائنا حيا داخل العمل الفني.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: فی الخط العربی الخط العربی فی ی الخط العربی الحرف العربی بالنسبة إلی العمل الفنی الخطوط التی فی اللوحة فی جوهره فی جوهر لا یمکن یمکن أن کثیر من الخط فی من خلال أن یکون مع ذلک أن هذا من هنا دون أن الذی ی من دون أرى أن
إقرأ أيضاً:
محافظ أسوان يتفقد معرض المشغولات اليدوية على هامش منتدى السلام..صور
حرص اللواء دكتور إسماعيل كمال محافظ أسوان على تفقد معرض المشغولات اليدوية والمنتجات البيئية المقام داخل إحدى القاعات على هامش فعاليات منتدى أسوان للسلام والتنمية المستدامين .
والذى أطلق جلسته الإفتتاحية الدكتور بدر عبد العاطى وزير الخارجية والهجرة وشئون المصريين بالخارج ، بمشاركة قادة ومسئولين رفيعى المستوى من مختلف الدول والمنظمات الإقليمية والدولية .
وخلال جولته بالمعرض برفقة نائبه المهندس عمرو لاشين ، أشاد الدكتور إسماعيل كمال بما يقدمه العارضون من منتجات متميزة تعكس مهارة أبناء أسوان وإبداعهم فى تحويل التراث إلى أعمال فنية ذات قيمة اقتصادية وجمالية عالية .
معرض المشغولاتوأكد المحافظ على أن دعم المشغولات اليدوية والمنتجات البيئية يعتبر رسالة تنموية وثقافية تعكس هوية أسوان الأصيلة ، وتفتح آفاقاً إقتصادية حقيقية أمام المرأة والشباب وأصحاب الحرف التراثية ، ونسعى إلى تحويل الحرف اليدوية إلى صناعة مستدامة تسهم فى تحقيق رؤية مصر 2030 للتنمية الشاملة من خلال تقديم الدعم الفنى والتسويقى وتوسيع فرص المشاركة فى المعارض المحلية والدولية .
وأشار محافظ أسوان إلى أن المعرض يعكس إهتمام الدولة المصرية فى الجمهورية الجديدة بقيادة الرئيس عبد الفتاح السيسى بدعم الصناعات الصغيرة والمتوسطة ومتناهية الصغر ، وأن محافظة أسوان تضع ضمن أولوياتها تسويق المنتجات البيئية والتراثية لتعزيز دخل الأسر المنتجة وتمكين المرأة والشباب .
وأوضح بأن تنظيم المعرض بالتزامن مع فعاليات المنتدى يجسد التكامل بين التنمية الإقتصادية والحفاظ على الهوية الثقافية حيث أن الحرف اليدوية تمثل رمزاً للتنوع والإبداع فى المجتمع الأسوانى ، وأداة مهمة لدعم السلام والتنمية المستدامة .
فيما شارك اللواء دكتور إسماعيل كمال محافظ أسوان فى الجلسة الإفتتاحة ، وسط حضور لنخبة متميزة من قادة ومسئولين رفيعى المستوى من مختلف الدول والمنظمات الإقليمية والدولية ، فى مقدمتهم رئيس وزراء جمهورية الصومال الفيدرالية حمزة عبدى برى ، ووزراء خارجية أنجولا والصومال ومالى وتشاد والسودان واليمن وبوركينا فاسو ، بالإضافة إلى وزير داخلية روندا .