طبيعة الإنسان يحنّ إلى الماضي، وبسبب روايات متناثرة وضعت في سياقات مختلفة يتصور بعضهم الماضي تصورًا ملائكيّا، فهو لتقادم الزّمن لا يستطيع ملء الفراغ فيما بين هذه الرّوايات، على مستوى الشّخوص، وعلى مستوى المجتمعات والدّول. والعكس صحيح؛ فهناك من يسقط روايات سلبيّة على شخصيّات تأريخيّة، أو على حقب سياسيّة؛ بمجموع هذه الرّوايات التّأريخيّة والحديثيّة المتناثرة يعمّم السّلب على هذه المرحلة.
الماضي لا يختلف عن الحاضر؛ لأنّ الّذي يصنع الماضي والحاضر هو الإنسان، والإنسان في صيرورته وتدافعه في الحياة يحمل الصّواب والخطأ، والخير والشّر. هو إنسان بشريّ بطبعه يحمل مصاديق البناء والإصلاح كما يحمل مصاديق الفساد والهدم، فلا الماضي يمثّل صورة ملائكيّة جماليّة مطلقة، ولا الحاضر يمثّل صورة شيطانيّة قبيحة مطلقة. ومن الأفراد والمجتمعات والدّول في الماضي من حاول تمثُّل الارتقاء الإنسانيّ، وكذلك في الحاضر أيضا؛ فليس هناك سلف ملائكيّ مطلق، ولا خلف شيطانيّ مطلق. هناك إنسان يتدافع في الحياة، ويتأمّل فيها، ويعايش قسوة طبيعتها، ويتدافع مع من يماثله جنسا، أو يباينه نوعا؛ عاش في الماضي، أم يعيش في الحاضر والمستقبل.
المشكلة أنه في الخطاب الجمعيّ من يرهن الحاضر بالماضي؛ فيجعل الحاضر شرّا محضا، والماضي خيرا مطلقا، أو يتصارع على شخصيّات ماضويّة. فلسبب روايات تأريخيّة متناثرة يجعل تلك الشّخوص معصومة عن القراءة البشريّة، والاقتراب من نقدها أو نقد ذلك التّأريخ معرفيّا وعلميّا كنقد النّصوص المقدّسة، أو الاشتغال بها ورهن الحاضر بأحداث ورموز مضت، أكثر من الاشتغال بقيم التّرقي البشريّ وفق سنن الواقع ومصاديقه، لا سنن الماضي وتأريخيّته، وما نراه حاليًا مثلا من الحدث الّذي حدث في مصر تحديدا في طنطا بالغربيّة حول شخصيّة «أحمد البدويّ (ت: 675هـ)» هناك من يرفع هذه الشّخصيّة إلى حالات ملائكيّة مقرونة بالعصمة المحرّم نقدها، وهناك من يجعله شخصيّة أقرب إلى الدّراويش، ويعمّم ما نسب إليه من سلبيّات بشريّة وكأنّه لم تصدر منه حسنة بينما العقل اليوم يحتاج إلى من يجعله يعيش واقعه وفق ظرفيّة الواقع وسننيّته في بناء الحياة معرفيّا وعلميّا وصناعيّا، وفي إصلاح الحياة وبنائها، وجعل العقول تدور وفق سنن الحياة مع تحقيق كرامتها، وليس جعلها تدور وتتصارع وفق شخوص وأحداث في الماضي أو الحاضر؛ لأنّهم كبشر عاشوا واقعهم بطبيعته وثقافته، لكنّهم لم يعيشوا سنن عالم غير عالمنا، فكذلك ينبغي أن يشغل العقل الجمعيّ اليوم وفق واقعه وواقع البناء والتّنمية فيه، فعالمنا وسننه واحدة، لكن الواقع وظرفيّته متحرّكة.
ثمّ علينا أن نمايز بين الشّخوص والحدث، وبين المعرفة والمعتقد أو اللّاهوت؛ فالأديان والمذاهب لها سلف (الآباء الأوائل)، ولقربهم من التّأسيس عادة ما يتصارعون حول الرّموز ذاتها، أو تقديس بعض أحداثها، والتّشبث ببعض أخبارها. والعديد من الأخبار متأخرة دونها محبّ غال، أو كاره مبغض؛ فتجد التّناقض حول الشّخوص والأحداث، وتركز عادة على المغازي والصّراع والمثالب، كعادة كتابة الحوليات القديمة. ومع مروز الزّمن نتيجة التّعصّب للشّخوص والحدث تروى الكرامات والمحاسن والمناقب، وكلا الأمرين -المثالب والمناقب- لا يحكيان حكاية الماضي كاملة، بل تأخذ طرفا من ذلك، فيختصر تأريخ الشّخوص والأحداث في أطراف الرّوايات. ومثل هذا ما كان من صراع بعد وفاة النّبيّ - صلّى الله عليه وسلّم - من 11هـ وما بعدها؛ لا يكاد يذكر حولها إلّا الصّراع على السّلطة، والتّقاتل لأجلها، وما تبعها من اغتيالات؛ من سعد بن عبادة حتّى عليّ بن أبي طالب. هذا التّأريخ دارت حول شخوصه المثالب والمناقب، كما وضع شيئا من ذلك الجاحظ (ت: 255هـ) في كتابه «العثمانيّة»؛ فأحداث نصف قرن بفتوحاتها وتدافعها مع الأمم الأخرى اختزلت في حوليات الصّراع والقتال، ثمّ دخلت في المعتقد واللّاهوت، ليصبح النّسبيّ مطلقا، والحدث البشريّ لاهوتيّا مغلقا، فلم تعد أمّة قد خلت، بل أصبحت من المعتقد يدور حولها الولاء والبراء، وترهن به عقول كان الأولى توجيهها نحو الحضارة والبناء والتّنمية.
وعودا إلى ملائكيّة الماضي حاولت أن أتأمل وألخص كتاب «رسائل الإمام جابر بن زيد الأزديّ» (ت: 93هـ)، وفيه ثماني عشرة رسالة، منها رسالته إلى راشد بن خيثم، وجوابه على مسائل عثمان بن يسار، وأجوبته على ظريف بن خليد وغيرها. المتأمل في هذا الكتاب ورسائله -ممكن تصنيفها في النّصف الثّانيّ من القرن الأول في البصرة وشيء من الجزيرة العربيّة، أي بعد نصف قرن من وفاة النّبيّ - صلّى الله عليه وسلّم -، وهو لا يحكي القضايا السّياسيّة، وإنّما يتمثّل في القضايا الاجتماعيّة والماليّة وشيء من الجوانب الطّقوسيّة- يدرك فيه الحالة المبكرة من الطّبيعة البشريّة في صدر الإسلام المبكّر، والمتمثلة في المشكلات الاجتماعيّة المتعلّقة بقضايا المرأة والأسرة والعلاقات الاجتماعيّة والماليّة، فيكثر الحديث عن الطّلاق والعلاقات الجنسيّة، وقضايا الإماء والعبيد، ونكاح الجواري والصّبيان، والعلاقات الماليّة في البيوع والزّكاة والأوقاف والهبات. والكتاب يحوي العديد من العلاقات المجتمعيّة السّلبيّة بين الجنسين، والتّساهل مع الإماء، وغيرها ممّا يصوّر لنا الطّبيعة البشريّة في تلك المرحلة. وهي ذاتها في المراحل الأخرى؛ فالإنسان هو الإنسان، وإن تغيّرت ظرفيّة واقعه، وحراكه مع اقتضاءات تطوّر المجتمعات، لكنّها جملة لا تخرج عن الطّبيعة البشريّة، فليس هناك ماض مطلق القدّاسة والطّهارة، ولا ينبغي أن يجعل هذا الماضي البشريّ مقياسا يرهن به الحاضر، وإنّما يستفاد منه وفق الأجواء والمصاديق البشريّة، ولا يدخل في صندوق التّأليه والعصمة والقداسة المطلقة.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: البشری ة
إقرأ أيضاً:
جيش الاحتلال الإسرائيلي: نفذنا عملية برية داخل لبنان الأحد الماضي
أفاد جيش الاحتلال الإسرائيلي، بأنه نفذ عملية برية "ليلية" داخل الأراضي اللبنانية، الأحد.
وأضاف جيش الاحتلال أنه نفذ العملية "لتدمير مواقع عدة تابعة لحزب الله" على الجانب اللبناني من جبل دوف.
وذكر أن جنود الاحتياط ومهندسي القتال من اللواء الإقليمي 810 نفذوا العملية، الأحد، بهدف "منع حزب الله من استخدام المنطقة للتمركز مستقبلا".