حين تُطفأ نيران غزة وتغادر طائرات الحرب سماء الشرق، تبدأ القاهرة، في صمتها الأزلي، فصلاً جديدًا من لعبة توازنات القوى. فكما كانت بوابة الحرب والسلام، تعود اليوم لتفتح غرفها السرّية أمام الأطراف السودانية المتناحرة، في محاولة لإعادة تركيب الجغرافيا السياسية الممزقة بين النيلين. المنطقة من صنعاء إلى دمشق، ومن طرابلس إلى بيروت، تمر بمرحلة إعادة ترسيم النفوذ والحدود والمصالح، ومصر، التي خبرت تاريخ الانكسارات والانتصارات، تعرف أن لحظة التهدئة في غزة هي فرصة لإعادة هندسة المشهد العربي وتثبيت استقرار طال انتظاره، يبدأ من الخرطوم هذه المرة، لا من العواصم الكبرى.

منذ أسابيع، وبعد توقيع اتفاق غزة في شرم الشيخ، تحولت القاهرة إلى غرفة عمليات دبلوماسية هادئة، تتقاطر إليها الوفود بصمت، ما بين أميركيين وسعوديين وقطريين وإماراتيين وأفارقة، وكل طرف يحمل في حقيبته تصورًا لما يمكن أن يكون عليه السودان الجديد بعد الحرب الطويلة بين الجيش وقوات الدعم السريع. لكن خلف المشهد العلني هناك مطبخ سياسي مصري دقيق، تديره مؤسسات تعرف أن الخرطوم ليست مجرد نزاع داخلي، بل بوابة الأمن القومي جنوبًا، وساحة توازن بين النيلين الأبيض والأزرق، وبين القاهرة وأديس أبابا والخرطوم.

الملف السوداني لا يُدار كقضية عربية فحسب، بل كملف استراتيجي يمس المياه والحدود ويعيد رسم خطوط السيطرة في حوض النيل. ولهذا السبب تحاول مصر أن تجمع بين مقاربتين: الأولى عربية برعاية سعودية - إماراتية - قطرية تركز على إعادة دمج القوى المدنية والعسكرية، والثانية أفريقية عبر وساطة مصرية مع "الإيغاد" والاتحاد الإفريقي لإعطاء الاتفاق طابعًا قاريًا يمنع أي اختراق أجنبي مباشر. في مبنى قديم يطل على النيل في حي الزمالك، تُدار جلسات مغلقة بعيدًا عن الأضواء، يلتقي فيها ممثلون عن الفصائل السودانية بحضور مبعوثين دوليين وتحت مظلة مصرية دقيقة المراقبة. تبدأ الجلسات بمناقشة وقف إطلاق النار لكنها سرعان ما تتجه إلى ما هو أعمق: مستقبل الحكم، توزيع الثروات، الأمن الحدودي، ومصير الجيش السوداني الموحد.

وتقول مصادر دبلوماسية عربية مطّلعة إن القاهرة تنسق هذه الأيام مع الرياض وأبوظبي والدوحة لوضع مسودة "إعلان مبادئ سوداني" على غرار اتفاقات الطائف والدوحة من قبل، لكنه هذه المرة سيكون برعاية مصرية - إفريقية - عربية مشتركة، تحمل شعار "لا عودة للسلاح.. ولا إقصاء لأحد"، تعرف القاهرة أن السودان ليس فقط عمقها الجغرافي، بل صمام أمانها المائي، فحوض النيل لا يُختصر في سد النهضة فحسب، بل في مجمل شبكة المصالح التي تمتد من بحيرة فيكتوريا حتى دلتا مصر. ومن هنا فإن أي استقرار سياسي في السودان يعني بالضرورة تأمين المجرى الحيوي للمياه، وقطع الطريق على أي مشاريع أجنبية لتدويل النهر أو فصله عن المجال العربي.

كما أن مصر، بعد أن نجحت في وقف الحرب في غزة، تريد أن ترسل رسالة صريحة للمجتمع الدولي: من لا يستطيع أن يصنع سلامًا في الخرطوم لن ينجح في حماية مصالحه في البحر الأحمر، البحر الأحمر اليوم لم يعد مجرد ممر تجاري، بل ميدان تنافس بين الأساطيل والميليشيات والمصالح من باب المندب إلى بورتسودان. وهنا تتقاطع الرؤية المصرية مع الرؤية السعودية في الحفاظ على أمن الممرات البحرية، ومنع تمدد النفوذ الإيراني أو الإسرائيلي أو حتى الروسي على الساحل الغربي للبحر الأحمر.

منذ عامين اختارت القاهرة سياسة الصوت الخافت، لا تعلن مواقفها قبل أن تُطبخ الملفات. فخلف كل مؤتمر هناك عشرات اللقاءات التي لا تُنشر صورها، وخلف كل اتفاق هناك خطوط حمراء مصرية واضحة: لا تفكك للدولة السودانية، لا ممر آمن للمرتزقة والميليشيات الأجنبية عبر دارفور، ولا تقسيم جغرافي أو إثني يهدد وحدة الأراضي. ومع ذلك تحافظ مصر على قنواتها مع جميع الأطراف، حتى مع الدعم السريع، عبر وسطاء أفارقة. فالقاهرة تفكر بعقل الدولة لا بعقل التحالفات المؤقتة، وتدرك أن السودان الممزق سيجعل كل حدودها الجنوبية عرضة للاختراق.

وفي الغرف السرّية تتحدث الوفود عن صفقة شاملة تتضمن حكومة انتقالية جديدة، وإعادة هيكلة المؤسسة العسكرية، وضمانات اقتصادية تمولها الدول الخليجية، مقابل التزام الأطراف بعدم العودة إلى السلاح ودمج قوات الدعم السريع ضمن جيش وطني موحد.نجاح مصر في فرض هدنة دائمة في غزة جعل منها الطرف الأكثر موثوقية عربيًا ودوليًا. واشنطن نفسها باتت تدرك أن القاهرة وحدها تستطيع التعامل مع ملفات معقدة دون ضجيج، ولهذا، فبعد غزة، تبدو الخرطوم هي التحدي الأكبر: اختبار جديد

اقرأ أيضاًالصحة العالمية: مقتل 460 مريضا ومرافقا بمستشفى الولادة فى الفاشر بالسودان

المنظمة الدولية للهجرة: 33 ألف نازح في الفاشر السودانية خلال 72 ساعة

وزير الخارجية وكبير مستشاري ترامب يؤكدان أهمية الوقف الفوري والدائم للحرب في السودان

المصدر: الأسبوع

كلمات دلالية: القاهرة السودان اتفاق غزة ما بعد اتفاق غزة

إقرأ أيضاً:

الحكومة السودانية تتهم الدعم السريع بارتكاب فظائع في الفاشر

اتهمت الحكومة السودانية قوات الدعم السريع بارتكاب فظائع بحق المدنيين خلال استيلائها على مدينة الفاشر عاصمة ولاية شمال دارفور، إذ تحدث مسؤولون في مؤتمر صحفي، اليوم الأربعاء، عن قتل أكثر من ألفي شخص وإعدام جرحى وتصفية عاملين بجمعيات خيرية، وانتهاكات أخرى من بينها الخطف والتعذيب.

وقالت مفوضة العون الإنساني بالإنابة منى نور الدائم حسن -خلال المؤتمر الصحفي الذي عُقد في بورتسودان- إن "الأرواح تنتزع بوحشية، ولا نزوح آمنا ولا مساحة للنجاة"، متهمة قوات الدعم السريع باستهداف الفارين بالقتل والنهب والسلب على مرأى من العالم.

وأضافت أن هناك أمورا "لا يستوعبها عقل" تحدث في السودان، وانتهاكات تصل إلى جرائم ضد الإنسانية، مستنكرة صمت المجتمع الدولي على هذه الفظائع.

ونقل مراسل الجزيرة نت نزار عبد الله البشير عن مفوضة العون الإنساني بالإنابة أنه جرى قتل فرق طبية بمستشفيات مدينة الفاشر وقتل متطوعين يخدمون الأهالي في التكايا والفرق الميدانية للهلال الأحمر السوداني، كما تمت تصفية جرحى في المستشفيات وقتل مواطنين على أساس عرقي.

ما أبرز ما جاء في المؤتمر الصحفي للحكومة السودانية حول التطورات الميدانية في الفاشر؟.. التفاصيل مع مراسل الجزيرة الطاهر المرضي#الأخبار pic.twitter.com/0sc9hz3Ltu

— قناة الجزيرة (@AJArabic) October 29, 2025

أكثر من ألفي قتيل

وذكرت المسؤولة السودانية أن حوالي 800 ألف مدني كانوا يعيشون في منطقة الفاشر، وقُتل منهم خلال هذا الاجتياح أكثر من ألفي شخص، معظمهم من الأطفال والنساء وكبار السن، كما جرى إعدام فرق التكايا والمساعدات وقتل رموز المجتمع خلال اليومين الماضيين.

وأشارت إلى استهداف الكوادر الطبية بالقتل والاختطاف، وقالت إن المدنيين الفارين من القتال في محيط الفاشر يتعرضون للقتل والتعذيب بصورة بشعة.

وانتقدت المفوضة صمت المجتمع الدولي تجاه مشاركة بعض دول الجوار في الحرب الدائرة في السودان.

إعلان

وقد أعلنت قوات الدعم السريع أول أمس الاثنين سيطرتها الكاملة على مدينة الفاشر بعد حصارها لأكثر من 500 يوم. وتوالت الشهادات والتقارير الميدانية عن عمليات قتل واسعة بحق المدنيين وفظائع أخرى في المدينة.

رسائل للمجتمع الدولي

من جانبه، قال وكيل وزارة الخارجية السودانية حسين الأمين للجزيرة نت إن ما حدث في الفاشر هو نتيجة لتراخي المجتمع الدولي الذي ظل يتابع الانتهاكات في الفاشر منذ حصارها في مايو/أيار 2024 دون أن يتدخل.

وطالب الأمين المجتمع الدولي باتخاذ تدابير عاجلة لردع قوات الدعم السريع وتصنيفها منظمة إرهابية ومعاقبة الدول الداعمة لها.

بدوره، دعا وزير الثقافة والإعلام السوداني خالد الإعيسر جميع دول العالم إلى إدانة الجرائم المرتكبة في السودان وممارسة الضغط لوقف هذه الانتهاكات.

وقال الإعيسر إن هناك "غرفا إلكترونية تدار من خارج السودان" لمساندة قوات الدعم السريع وهزيمة الشعب السوداني معنويا، على حد تعبيره.

تحذيرات منظمة الصحة

في غضون ذلك، قال المتحدث باسم منظمة الصحة العالمية للجزيرة إن الوضع مروع في الفاشر، مؤكدا أن المستشفى الوحيد المتبقي في المدينة تعرض لهجوم وقُتل أفراد من الطاقم الطبي.

وأشار المتحدث إلى أن نصف سكان السودان حاليا يعانون سوء التغذية.

وكذلك، أوضحت منظمة الصحة العالمية أن هناك مدنيين عالقين وسط القتال ومعزولين عن المساعدات الإنسانية، ودعت إلى إطلاق سراح جميع العاملين في القطاع الصحي وتوفير وصول آمن للمساعدات ووقف إطلاق النار بالسودان.

ويشهد السودان منذ منتصف أبريل/نيسان 2023 حربا دامية بين الجيش وقوات الدعم السريع، أودت بحياة أكثر من 20 ألف شخص، وأجبرت نحو 15 مليونا على النزوح واللجوء، وفق بيانات الأمم المتحدة.

مقالات مشابهة

  • القاهرة تدخل على خط الأزمة السودانية.. دعوة لهدنة تمنع تفكك البلاد
  • WSJ: الإمارات زادت وتيرة تسليح الدعم السريع بعد هزيمتها في الخرطوم
  • الحكومة السودانية تتهم الدعم السريع بارتكاب فظائع في الفاشر
  • إيران تدين الهجوم على المدنيين في مدينة الفاشر السودانية
  • إدانات عربية لـانتهاكات قوات الدعم السريع في الفاشر
  • أطباء السودان: الدعم السريع اختطفت 6 من الكوادر الصحية في الفاشر
  • القاهرة تشهد لقاء جديدا يجمع بين الفن الرقمي والتكنولوجيا.. تفاصيل
  • الأمم المتحدة تحذر من فظائع بدوافع عرقية في مدينة الفاشر السودانية
  • رئيس الوزراء السوداني للجزيرة نت: لا تستطيع أي جهة فرض تنازلات لا يرتضيها الشعب