وأنت تشاهد النفط يخرج من باطن الأرض، قد لا يخطر على بالك أن خلف هذا المشهد أحداثا درامية، تعود إلى ملايين السنوات في الماضي.

ويصبح تتبع تفاصيل تلك الأحداث مفيدا، ليس فقط لمعرفة كيف تشكلت تلك الثروة التي يطلق عليها "الذهب الأسود"، ولكن أيضا لتوجيه جهود البحث عن المكامن النفطية الجديدة، وهو ما نجحت فيه دراسة جديدة أجريت داخل حوض صدع سرت، شمال وسط ليبيا، ونشرت بدورية "جورنال أوف أفريكان إيرث ساينس".

تعود تلك القصة، كما يرويها للجزيرة نت، الدكتور منير عبد الله، الأستاذ بقسم الجيولوجيا بكلية العلوم جامعة عمر المختار الليبية، والباحث الرئيسي بالدراسة، إلى عصر الإيوسين المبكر، أي تقريبا قبل نحو 50 مليون عام.

في هذا الزمن، لم تكن ليبيا كما نعرفها اليوم، وكان البطل الرئيسي في المشهد بحر ضحل يعج بالحياة البحرية، غير أن هذا البحر لم يستمر طيلة هذه الفترة على نمط واحد، فتارة تفيض مياهه وترتفع، وتارة أخرى، يتراجع وتنكشف أرضه تحت شمس لاهبة.

وفي كل دورة من الصعود والهبوط، كان البحر يترك بصمة، فعندما يرتفع، تتشكل طبقات من صخور "الدولوميت" تحت مياهه العميقة نسبيا، وعندما ينحسر، تتبخر المياه المتبقية تحت حرارة الشمس، وتتحول الأملاح إلى "أنهيدريت" يغلف الطبقات مثل وشاح صلب يمنع أي شيء من الهروب.

صخور الدولوميت (مواقع التواصل الاجتماعي)إيقاع متكرر من الصعود والهبوط

وعلى مدى ملايين السنين، كرر البحر هذا الإيقاع 4 مرات كاملة، ارتفاع ثم انحسار، ترسيب ثم تبخر، إلى أن تراكمت 4 طبقات ضخمة بسمك يتجاوز 420 مترا، تمتد فوق مساحة شاسعة تبلغ 112 كيلومترا مربعا.

وهذه الطبقات الصخرية وإن كانت صامتة، فإنها تحتفظ بقصة التغيرات التي شهدتها الأرض، وأنتجت خزائن طبيعية للنفط، فالدولوميت أصبح جسد الخزان، والأنهيدريت أصبح مفتاح الإغلاق الذي يمنع تسرب الذهب الأسود.

إعلان

وكان من الممكن أن تظل هذه القصة طي الكتمان في باطن الأرض لا يعرف أحد تفاصيلها، لولا أن عبد الله وزملاءه أعادوا روايتها بأدوات العلم الحديث، فقد استخدموا المسوحات الزلزالية ثلاثية الأبعاد لرسم صورة دقيقة لباطن الأرض، حيث تطلق موجات اهتزازية ترتد عند ملامسة الصخور، فيتم تحويلها إلى خريطة ثلاثية الأبعاد للطبقات الجيولوجية.

وإلى جانبها، استعان الفريق بـ"سجلات الأسلاك"، وهي قياسات تؤخذ من داخل آبار النفط عبر أدوات تنزل بكابلات طويلة، لتكشف عن مسامية الصخور وكثافتها ومقاومتها الكهربائية ومحتوى السوائل فيها، تماما كما يفحص جهاز الأشعة أعضاء جسم الإنسان دون جراحة.

ويقول عبد الله "ما قمنا به لا يقتصر على قراءة الماضي فقط، بل هو نظرة نحو المستقبل، ففهم قصة هذه الصخور يعني فهم أين تختبئ الطاقة، وكيف تشكلت، وكيف يمكن الوصول إليها بحكمة تضمن عدم إضاعة أي فرصة أو مورد".

ويضيف أن "تتابعات صخور الدولوميت والأنهيدريت تمثل حجر الأساس في تكوين المكامن النفطية، فالدولوميت، الناتج عن تحول الحجر الجيري بفعل المغنسيوم، يعزز مسامية ونفاذية الصخور مقارنة بالصخور الأصلية، مما يجعلها حزانا أكثر كفاءة للنفط والغاز، والأنهيدريت يؤدي دور الحارس الطبيعي، إذ يشكل طبقات عازلة محكمة تمنع تسرب الهيدروكربونات إلى السطح، وتساعد في تكوين مصائد يسهل استكشافها مستقبلا".

ويتابع عبد الله: "فهم التوزيع الدقيق لهذه التتابعات، أفقيا وعموديا، ودمجها مع البيانات الزلزالية والعينات الصخرية، يزيد من فرص تحديد مصائد جديدة لم تُكتشف بعد، ويفتح الباب أمام اكتشاف حقول إضافية تعزز أمن الطاقة في ليبيا".

هذه الطبقات الصخرية وإن كانت صامتة، فإنها تحتفظ بقصة التغيرات التي شهدتها الأرض (غيتي)الحركات التكتونية.. بطل آخر للقصة

ولم يكن البحر وحده صانع هذه القصة الجيولوجية، فهناك لاعب آخر لا يقل درامية، وهي الحركات التكتونية القديمة، التي شدت قشرة الأرض ودفعتها لتتشقق وتُنشئ حوض سرت الرسوبي كما نعرفه اليوم.

ويقول عبد الله: "الحركات التكتونية كانت اليد التي أعادت ترتيب المسرح الجيولوجي، فرفعت مناطق وخفضت أخرى، وخلقت الفراغ الذي استقبل الرواسب البحرية".

ويوضح أن "تلك القوى العميقة كونت ما يُعرف بـ"الجسور المرتفعة" و"الخنادق المنخفضة"، وكانت منطقة الدراسة تقع فوق أحد أهم هذه الجسور، وهو جسر المبروك الغربي، الذي لعب دورا حاسما في بناء الثروة النفطية لاحقا، فبسبب ارتفاعه وقربه من سطح البحر، تهيأت البيئة لتكون رواسب الدولوميت التي تحتاج مياها ضحلة وإضاءة شمس جيدة وحرارة مناسبة".

ويضيف: "ومع انحسار البحر، تكونت فوقه طبقات الأنهيدريت عبر تبخر المياه وترسيب الأملاح، في دورة طبيعية يبدو كأنها صممت خصيصا لتخدم صناعة النفط الحديثة".

ويتابع الباحث قائلا إن الخنادق المجاورة كانت بمثابة مطابخ جيولوجية، تراكمت فيها الصخور الطينية الغنية بالمادة العضوية التي تحولت لاحقا إلى نفط وغاز تحت تأثير الضغط والحرارة.

ثم بدأت المرحلة الأخيرة من الرحلة، وهي هجرة الهيدروكربونات صعودا عبر الصدوع الرأسية، حتى تصل إلى الجسور المرتفعة، لتستقر داخل صخور الدولوميت والحجر الجيري المسامية، وهناك، كان ينتظرها حارس صلب، هو الأنهيدريت، ليغلق عليها الطريق ويمنع تسربها إلى السطح.

إعلان

ويختتم الباحث قائلا: "من دون هذه الديناميكية بين الجسور والخنادق، وبين الترسيب والهجرة والاحتجاز، لم تكن ليبيا لتملك هذه الثروة، فالحركات التكتونية لم تُشكل فقط طبقات الصخور، بل صاغت مصير الطاقة في المنطقة".

تراث جيولوجي عميق

ولأن القصص العظيمة لا تكتب في يوم وليلة، فإن قصة نفط ليبيا لم تبدأ مع بحر الإيوسين وحده، بل تمتد جذورها إلى تراث جيولوجي عميق، ضم ملايين السنين من التغيرات البيئية والتحولات الحرارية والزلازل البطيئة التي نحتت باطن البلاد في صمت، لتجعله اليوم أحد أغنى خزائن الطاقة في أفريقيا.

ويشرح عبد الله هذا البعد التاريخي قائلا: "الطبقات التي درسناها ليست صفحة معزولة، بل فصل من كتاب جيولوجي ضخم، بدأ قبل عشرات الملايين من السنين، فصخور الباليوسين والإيوسين، التي يتراوح عمرها بين 33 و66 مليون عام، ليست سوى مستقبل الثروة، أما ماضيها الأعمق فيكمن في الصخور الطينية التي تشكلت خلال العصر الطباشيري (145-66 مليون سنة)، والتي كانت بمثابة المطبخ الجيولوجي الذي نضجت فيه المواد العضوية وتحولت إلى نفط وغاز".

ويقول الباحث: "ما حدث لاحقا هو رحلة هجرة طويلة للهيدروكربونات من أعماق أكبر إلى طبقات الدولوميت المسامية، حيث احتجزها الأنهيدريت بإحكام، ثم جاءت ظروف الإيوسين المبكر، مناخ دافئ، مياه عالية الملوحة، تبخر قوي، لتعيد ترتيب الصخور على شكل تتابعات دقيقة هي التي تحدد اليوم أماكن المكامن وصخور الغطاء".

ويضيف عبد الله: "الدراسة لا تُفسر فقط ما نراه تحت أقدامنا اليوم، بل تعيدنا إلى الوراء لنفهم لماذا تركزت الثروة في مناطق معينة من حوض سرت دون غيرها".

قصة عابرة للحدود

ويبدو أن القصة الليبية ترفض أن تبقى حبيسة حدودها، إذ يشير عبد الله إلى أن الفصل الذي كُشف في باطن سرت يمكن أن يُلهم اكتشافات جديدة، لا داخل البلاد فقط، بل في أحواض أخرى حول العالم.

ويقول: "النموذج الذي طورناه ليس خريطة لموقع واحد فقط، بل مفتاح لفهم أحواض رسوبية تشكلت في ظروف مشابهة، فحيثما اجتمعت منصات كربونات منفصلة، ومناخ دافئ كعهد الإيوسين، وترسبات متعاقبة من الدولوميت والأنهيدريت، يمكن لهذا النموذج أن يعمل كدليل، كما في حوض سرت، أو في مناطق موازية مثل حوض خليج السويس في مصر، وحتى حوض بحر جنوب الصين".

ومع ذلك، يوضح الباحث "الجيولوجيا، مثل القصص البشرية، لا تكرر نفسها حرفيا، فلكل حوض شخصيته الخاصة، فروق في الترسيب، قوة الحركات التكتونية، نوعية المواد العضوية، ودرجة دفنها، لذلك يقدم النموذج إطارا قويا، لكنه لا يغني عن التحليل التفصيلي لكل منطقة".

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: دراسات شفافية غوث حريات عبد الله

إقرأ أيضاً:

العلم يكشف السر وراء طهي المعكرونة المثالية.. كمية الملح هي المفتاح

يظن كثيرون أن طهي المعكرونة من أبسط المهام في المطبخ، فكل ما تحتاجه هو ماء مغلي ورشة ملح وتحريك خفيف. 

وأثبتت دراسة علمية جديدة أن التفاصيل الصغيرة تصنع الفارق الكبير في القوام والطعم. فقد كشف فريق من العلماء أن الكمية الدقيقة من الملح أثناء الطهي تحدد بشكل مباشر بنية المعكرونة وقدرتها على الحفاظ على تماسكها أثناء الغلي.

الكمية الدقيقة من الملح تمنع تفكك السباجيتي
يؤكد الباحثون أن استخدام 7 جرامات من الملح لكل لتر من الماء، أي ما يعادل أكثر من ملعقة صغيرة بقليل، هو السر في الحفاظ على الشكل المثالي للسباغيتي أثناء الطهي.

 وتشير الدراسة، التي نشرتها جامعة لوند السويدية في مجلة Food Hydrocolloids، إلى أن هذه النسبة ليست مجرد مسألة نكهة، بل عامل حاسم في البنية المجهرية للمعكرونة.

العلماء يستخدمون مسرعات الجسيمات لفهم سر القوام المثالي


اعتمد الفريق البحثي على تقنيات متطورة مثل مسرعات الجسيمات ومرافق النيوترون لدراسة كيفية تغير البنية الدقيقة للمعكرونة عند تعرضها للحرارة. 

وخلصوا إلى أن مدة الطهي المثالية هي عشر دقائق للحصول على القوام المعروف باسم “أل دينتي”. كما تبين أن الجلوتين في المعكرونة العادية يعمل كشبكة أمان تحافظ على النشا من الانهيار أثناء الغلي.

المعكرونة الخالية من الجلوتين... تحدٍ في الطهي


أوضحت الدكتورة أندريا سكوتي، الباحثة المشاركة في الدراسة، أن المعكرونة الخالية من الجلوتين أكثر هشاشة وتحتاج إلى دقة أكبر في وقت الطهي وكمية الملح. 

وأشارت إلى أن زيادة زمن الطهي إلى 13 دقيقة أو إضافة الكثير من الملح يؤدي إلى انهيار بنية المعكرونة بالكامل، مما يجعلها لينة وغير صالحة للتقديم.

نحو تحسين بدائل خالية من الجلوتين تتحمل الطهي


يأمل الباحثون أن تساهم نتائجهم في تطوير معكرونة خالية من الجلوتين أكثر متانة يمكنها تحمل درجات حرارة الطهي دون أن تفقد قوامها. 

وتقول سكوتي إن المعكرونة العادية تملك مقاومة هيكلية أفضل، لكنها تأمل في أن تساعد النتائج على ابتكار بدائل مماثلة من حيث الجودة والطعم للأشخاص الذين يعانون من حساسية الغلوتين.

خلاصة علمية للطهاة في كل مطبخ
تكشف هذه الدراسة أن الطبخ علم بقدر ما هو فن، وأن التفاصيل الدقيقة مثل كمية الملح ومدة الطهي تصنع الفرق بين طبق ناجح وآخر فاشل لذا، في المرة القادمة التي تضع فيها وعاء السباغيتي على النار، تذكر القاعدة الذهبية: سبعة جرامات من الملح لكل لتر من الماء وعشر دقائق فقط للطهي. 

 

مقالات مشابهة

  • تقرير سنغافوري: 15 مليون خط هاتف نشط في ليبيا و6.7 ملايين مستخدم لـ”فيسبوك”
  • شاب يورط والدته مع الداخلية.. القصة الكاملة
  • تحقيق لـ”الغارديان” يكشف عن أهوال سجن إسرائيلي تحت الأرض للفلسطينيين
  • السلطات التونسية تحبط تهريب قرابة مليون يورو إلى ليبيا عبر منفذ الذهيبة
  • العلم يكشف السر وراء طهي المعكرونة المثالية.. كمية الملح هي المفتاح
  • تقرير: ليبيا ما زالت تعتمد على العائدات النفطية ضمن اقتصادات ريعية بالمنطقة
  • الرقم المخادع.. هذه القصة الكاملة للتضخم الهادئ في لبنان
  • من النهر إلى البحر.. هكذا تضامن مشجعو سامسون سبور مع غزة (شاهد)
  • رجع من السفر لقى البيت باسمه.. القصة الكاملة لشاب يقتل شقيقه الأصغر في قرية صناديد بالغربية