في زمنٍ يُفترض أنه زمن النور والعقل والعلم، ما زال كثير من الناس يعيشون في كهوف الجهل، يتغذّون على الوهم كما تتغذّى الطفيليات على جدران المستنقع. المضحك في المشهد أن هؤلاء أنفسهم يتباهون بأنهم يعيشون في “عصر التكنولوجيا”؛ يحملون الهاتف الذكي كمن يحمل مصباح علاء الدين، ويظنّون أن بمجرد امتلاكهم له، صاروا حكماء العالم.

تفتح “مقاهي الفيسبوك” فتجدها تضجّ بأصوات المنظّرين، الفقهاء، الخبراء، والمصلحين الاجتماعيين. الجميع يكتب ويناشد ويفتي في كلّ شأن، من الحرب إلى الصحة، ومن السياسة إلى الأنوثة. أحدهم يطالب الرئيس بالتدخل في نزاع بين جارين على “حدّ ترعة”، وآخر يكتب بيانًا ثوريًا ضد الغلاء في منشور، ثم يغلق هاتفه مطمئنًا أنه أنقذ الأمة.

في هذه المقاهي الافتراضية، يتحوّل الجهل إلى طقس جماعي، وتُقام الطقوس حول "إله جديد" يولد كل يوم: أحدهم شيخ على "اللايف"، وآخر مفكر في دقيقتين، وثالث شاعر يكتب بالعامية المكسّرة، وكلهم يعتقدون أن الخلاص سيأتي من نقرات الإعجاب وتعليقات التصفيق.

إنها عبادة الجهل في ثوب حديث. فالعقول التي لم تُربَّ على السؤال لا يمكن أن تنتج معرفة، والمجتمعات التي تربّت على الطاعة العمياء لا يمكن أن تنجب مفكرين، بل مقلدين يتخذون من "البوست" منبرًا ومن "الشير" صلاة.

كل أزمة، سواء كانت سياسية أو اجتماعية، تُعيد كشف المستور: تتفجر موجات من الهراء، يتحدث الجميع في آنٍ واحد، وتختلط الأكاذيب بالنصائح، والحقائق بالشائعات. إنه الزمن الذي يجهل فيه الناس حتى أنهم يجهلون.
فالجهل لم يعد قلة معرفة، بل صار أسلوب حياة، وعقيدة متوارثة، ووسيلة دفاع نفسي ضد الإحساس بالعجز.

في القرى والنجوع ما زال الناس يعيشون بذهنية البداوة، يخافون من “العين” أكثر مما يخافون من المرض، يستشيرون “الشيخ” قبل الطبيب، ويصدّقون “صفحة مجهولة” قبل عالم أو باحث.
وفي المدن، يلبس الجهل ربطة عنق ويتحدث بلغة المثقفين، لكنه لا يختلف في الجوهر، لأن جوهره قائم على التسليم لا التفكير، وعلى العاطفة لا العقل.

إننا نعيش مفارقة مريرة: عصر الاتصالات بلا تواصل، وعصر المعلومات بلا معرفة.
تحوّلت الحرية الرقمية إلى فوضى ذهنية، وأصبح "الفيسبوك" منصة للعزاء والفتاوى والتحليل السياسي والطبي، كأن العالم عاد إلى سوق عكاظ ولكن بلا شعر ولا بلاغة، بل جعجعة فارغة وسيل من الغرور الممزوج بالسطحية.

وفي غياب العقل الجمعي الواعي، يصنع الناس "إلههم الافتراضي" كل يوم.
إله من الصور والكلمات والشعارات، يلتفون حوله، يسبّحون باسمه، ويؤمنون أنه المخلّص القادم من “المنشور التالي”.
وكأننا ما زلنا ننتظر رسولًا جديدًا ليعلّمنا أبجدية التفكير، أو ليوقظنا من سبات قرون لم تنتهِ بعد، رغم أننا عبرنا إلى الألفية الثالثة.

الجهل اليوم لا يعيش في الكتب القديمة، بل يسكن بيننا، يكتب معنا، ويعلّق على منشوراتنا، ويقنعنا أننا أحرار ونحن عبيد لما نجهل.

فما لم تتحرّر العقول من عبودية الوهم، سيبقى “الفيسبوك” هو المقهى الذي يجلس عليه الجميع يتحدثون عن التغيير... بينما لا يتغيّر شيء سوى شكل الوهم نفسه.!!
-
كاتب وباحث في الجيوسياسية والصراعات الدولية

 [email protected]

المصدر: بوابة الوفد

كلمات دلالية: عصر التكنولوجيا حكماء العالم الحرب إلى الصحة

إقرأ أيضاً:

سالم الدوسري يصنع تاريخاً جديداً للاعب السعودي 

– أول لاعب سعودي يدخل اختيارات الفيفا لجوائزه

مممد الجليحي (الرياض)
اختار الاتحاد الدولي لكرة القدم اللاعب السعودي وأفضل لاعب آسيوي سالم الدوسري؛ للتنافس على جوائز the best 2025 ضمن قائمته المختارة من خبراء اللعبة في الفيفا.
واعلن الفيفا عن جوائزه لأفضل لاعب ولاعبة وأفضل مدرب ومدربة وأفضل حارس وحارسة مرمى.

ويعتبر الدوسري قائد المنتخب السعودي وفريق الهلال أول لاعب سعودي في التاريخ يترشح لجائزة من الفيفا.

وحقق الدوسري أرقاماً كبيرة خلال مسيرته؛ حيث خاض مع الهلال 474 مباراة في جميع المسابقات، سجل خلالها 139 هدفًا.

وبعتبر اللاعب السعودي الوحيد الذي سجل خلال 15 نسخة لدوري المحترفين السعودي؛ بواقع 85 هدفاً مع الهلال.
وهو اللاعب السعودي الأول في المساهمة والصناعة في تاريخ الدوري السعودي.

وحقق جائزة افضل لاعب سعودي في دوري روشن 2024-2025.
حقق جائزة افضل لاعب آسيوي مرتين كأول لاعب سعودي يحققها 2022-2025.
اكثر لاعب سعودي سجل في بطولة دوري أبطال آسيا (34) هدفاً وهو رقم صعب كسره قريباً.
استطاع قيادة المنتخب السعودي للتأهل إلى بطولة كأس العالم (3) مرات.
وقاد فريقه الهلال إلى التأهل لكأس العالم للأندية (3) مرات.
استطاع تسجيل الهدف التاريخيّ في مرمى بطل كأس العالم 2022 المنتخب الأرجنتيني، الذي انتصر خلالها منتخبنا في افتتاح تلك البطولة.
ونال مع الهلال بطولة دوري أبطال آسيا مرتين من مجموع أربع بطولات، حققها الأزرق.
ويعتبر أول لاعب سعودي يسجل في البطولات العالمية؛ مثل كأس العالم للمنتخبات وكأس العالم للشباب وبطولة كأس العالم للأندية.
وحقق مع الهلال (6) بطولات للدوري السعودي بجميع مسمياته.
وحصد  كأس خادم الحرمين الشريفين (5) مرات.
وكأس ولي العهد (3) مراتٍ، وكأس السوبر السعودي (4) مرات.
الأسطورة سالم الدوسري حقق التفرد بالجوائز والأرقام، ووضع إسم اللاعب السعودي ضمن المميز.

مقالات مشابهة

  • الفيسبوك .. عين المواطن التي تراقب وتكشف وتُحاسب
  • ضبط سارقي الموتوسيكلات من أمام أحد المقاهي بالقليوبية
  • علي جمعة: الجهل والكذب أصل كل انحراف وتخلف
  • معرض النقل الذكي.. رئيس الوزراء يشاهد أول أتوبيس برمائي يصنع في مصر
  • نشر صور الجريمة عبر الفيسبوك... مأساة في زنارة بالمنوفية زوج يقتل زوجته وابنهما|صور
  • بياعين الوهم!!
  • حديث الجهل
  • سالم الدوسري يصنع تاريخاً جديداً للاعب السعودي