في أيلول/ سبتمبر 2014 أطلق الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما التحالف الدولي ضدّ تنظيم "الدولة الإسلامية"، وفي نيسان/ إبريل 2015 كانت طائرات التحالف تقصف محطة لتوليد الكهرباء في شرقيّ الموصل، وتقتل 35 مدنيّا وتصيب 22 آخرين. بعد أكثر من ثلاث سنوات، وتحديدا في 28 حزيران/ يونيو 2018 يعترف التحالف بأنّه قتل "من غير قصد" 18 مدنيّا في تلك الضربة.

تحدث شهود العيان حينها عن قصف طائرات التحالف للموقع ثلاث مرّات، في المرّة الثانية والثالثة كانت تقصف فرق الإنقاذ. في تشرين الثاني/ نوفمبر 2020 تحدثت منظمة "Airwars" (مكتب الشفافية في الضربات الجوية الدولية) عن شهادات محلية تزعم مقتل أكثر من 29,600 مدني بسبب عمليات التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة في العراق وسوريا منذ عام 2014، بينما اعترف التحالف بمقتل 1417 مدنيا في سوريا والعراق في 344 حادثة موثقة، بين عامي 2014 و2019.

عام 2022 فازت الصحافية أزمت خان (Azmat Khan)، وفريق نيويورك تايمز، بجائزة "Pulitzer" عن سلسلة تقارير نشرت بعنوان "The Civilian Casualty Files" (ملفات الضحايا المدنيين)، واستندت إلى 1300 وثيقة داخلية سرّية لوزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون) حصلت عليها الصحيفة، وزيارات ميدانية لأكثر من 100 موقع قصف في العراق وسوريا وأفغانستان، ومقابلات مباشرة مع ناجين وشهود عيان، وتحليل صور الأقمار الصناعية.

أظهرت الوثائق أن الغارات الجوية الأمريكية والتحالفية تسببت في مقتل أكثر من 7 آلاف مدني على الأقل منذ العام 2014، أي أكثر بعدة أضعاف من الأرقام التي اعترفت بها الحكومة الأمريكية رسميا، من بين الضحايا أعداد كبيرة من النساء والأطفال، أحيانا بسبب استهداف مبانٍ مدنية بالكامل، في ضربات بُنيت على تحليل خاطئ من طائرات مسيّرة أو مكالمات هاتفية غير دقيقة. وقد وصفت الوثائق نمطا من "الاستعجال في القرار"، حيث يُعدّ أيّ تحرّك مريب إشارة لاستهداف فوري، مما أدى إلى ضربات ضد عائلات مدنية بالكامل. وقد تبين أنّ العديد من الحوادث التي وُصفت رسميا بأنها "ضربات دقيقة" تسببت فعليا بمجازر صغيرة، في حين صُنِّفت ضمن التقارير العسكرية بأنها "ناجحة" أو "لم يُرصد فيها أذى مدني"، وإذا كانت هذه تقديرات تحقيقات صحيفة نيويورك تايمز حتى العام 2021 فإنّ تقديرات "Airwars" تراوحت بين 8200 و13000 قتيل مدني حتى ذلك العام.

حتى اليوم ما تزال الطائرات الأمريكية تحلق في الأجواء السورية، ولا تستهدف عناصر تنظيم الدولة وحدهم، بل تستهدف آخرين تصفهم تقارير البنتاغون بأنّهم ينتمون لجماعات متطرفة ذات صلة بتنظيم القاعدة، مما يعني أنّ هذا التحالف، علاوة على قتله آلاف المدنيين في طلعات جويّة مدفوعة بمعلومات استخباراتية زائفة وتقديرات خاطئة؛ في نمط من الاستسهال يكشف عن الاستخفاف بحياة البشر في هذه المنطقة، فإنّ مهامه أوسع من استهداف تنظيم "الدولة الإسلامية".

تفرض هذه المعلومات نفسها بعد الأخبار التي أفادت بانضمام سوريا إلى هذا التحالف، وبعد تقرير نشرته "رويترز" عن استعداد واشنطن لتأسيس قاعدة جوية لها في دمشق، بيد أنّه وفيما يخصّ الانضمام للتحالف الدولي، أي التحالف ذاته الذي يفترض أنّه كان يلاحق الرئيس الحالي أحمد الشرع حينما كان في مرحلة "الفاتح أبو محمد الجولاني"؛ فإنّ شخصيات تنسب نفسها إلى العلم الشرعي، وبعضها ممن كان يتبوأ منصب "الشرعي" في الحقبة السابقة على سقوط النظام السابق، وهو منصب اخترعته جماعات "الجهاديين" في التجربة العراقية/ السورية لتنظيم عمليات القضاء والفتوى؛ وقد صار لبعضها منصب كبير اليوم في الدولة الجديدة؛ سارعت إلى إصدار الفتوى بجواز الانضمام إلى هذا التحالف؛ بدعوى أنّه تحالف سياسيّ لن تطالب فيه سوريا بالانضمام الفعلي إلى العمليات العسكرية، وأنّه قائم بالفعل داخل سوريا، والأَولى، والحالة هذه، أن يقوم بالاتفاق مع سوريا لا رغما عنها، وبما من شأنه أن ينظم الوجود العسكري الأجنبي داخل سوريا، ويقطع الطريق على المشاريع الانفصالية، وأنّ الشريعة في أمر كهذا لا تنظر إلى الصورة بقدر ما تنظر إلى النتائج والمآلات، فيكون الحاكم هو الموازنة بين المصالح والمفاسد، وبحيث يؤول القرار إلى "وليّ الأمر" بعد مشورة أهل العلم.

هذه اللغة التي تستند إلى النظر السياسي المجرد، مع ديباجة المصالح والمفاسد، جديدة على "الشرعيين الجهاديين"، الذين كانوا يحشدون الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة في كل أمر كانوا يتناولونه حتى لو لم تكن ذات صلة، ولكن للتأكيد على صدورهم الكامل عن الشرع الشريف، أو عن "الكتاب والسنة" بما أنّنا إزاء حالة سلفية تُغرم بمثل هذا التأكيد. بيد أنّ القضية ليست هنا، أي ليست في كيفية الاستدلال الشرعي، ولا في صواب مواقف "الجهاديين" السابقة من قضايا كانوا يدرجونها تحت عنوان "الولاء والبراء"، ولكنها في ثلاثة أمور:

أولا- الانقلاب الكامل على المباني السابقة تلك؛ بلا مقدمات واضحة من التدرج وتغيير "الاجتهاد" والنظر والفكر بخصوص قضية من هذا النوع، أي الانضمام إلى تحالف تقوده الولايات المتحدة، يلاحق "جماعات من المسلمين"، ويقتل المدنيين المسلمين في الأثناء، وبقدر ما يمكن لهؤلاء "الشرعيين" ومن يتبنى موقف الإدارة السورية الحالية، أن يزعم أنّ هذا تحالف سياسي، أو استعانة بـ"كافر" بنحو تجيزه بعض الآراء الفقهية، فإنّه في الحقيقة التحاق بالهيمنة الأمريكية وإعانة لـ"الكافر" وللغازي الأجنبي، إذ ما الفائدة التي ستجنيها الولايات المتحدة من هذا التحالف السياسي؟!

الثاني- النسيان الكامل للهجوم الذي سلّطه هؤلاء إبان الحالة "الجهادية" أو "الثورية" على حركة حماس، إمّا بسبب تصريحات قياداتها بخصوص العلاقة مع إيران، أو بسبب محاولة المصالحة مع نظام بشار الأسد، وقد تبين لاحقا أنّها سعت إلى ذلك لحشد الدعم لمشروعها الذي تجسد في عملية "طوفان الأقصى"، وكان ذلك في ذروة انفتاح البلاد العربية على نظام بشار الأسد، بما فيها دول تخطب الإدارة السورية الحالية ودها اليوم بوضوح بالغ.

أصدرت "هيئة تحرير الشام" حينها بيانات قالت في بعضها: "وإن كنا قد أحجمنا في وقت سابق عن إبداء موقفنا المستنكِر للتصريحات المتكررة عن قادة "حماس" لصالح إيران، وما في ذلك من استفزاز لمشاعر الشعب السوري وشعوب المنطقة كافة التي عانت من جرائم إيران وملشياتها طيلة السنين الماضية، إلا أن ما يدفعنا اليوم هو الخوف والخشية على إرث مقاومة عظيم يكاد أن يشوَّه بالالتصاق بإيران من جهة، وأن يضيع بالركون للظالمين كالنظام السوري المجرم من جهة أخرى، فإن هذا الخيار هو إنهاء لمسيرة المقاومة ومكانتها في الأمة وفي أعين الشعوب العربية والإسلامية، وتحولها إلى معسكر الإجرام الذي أثخن وقتل من الشعب السوري في عقد واحد أكثر مما قتلت إسرائيل من الشعب الفلسطيني طيلة عقود، وآخر ما تسرب من جرائمه "مجزرة التضامن" التي ما زالت شاهدة بالصوت والصورة". وفي هذا البيان الذي هو خفيف اللهجة، بالنسبة لمنشورات قاسية كتبها بعض من صار اليوم صاحب منصب رفيع، ما يغني عن حشد مثل تلك الكتابات.

الثالث- تكييف الدين بما يناسب المرحلة، وهو الأمر الذي يجسد الإسلام في جماعة، أو نظام، أو دولة، فيدور الإسلام مع مصلحة هذه الجماعة أو النظام أو الدولة، فيكون التقدير الآني للمصلحة الذاتية هو الحاكم للإسلام، إذ لا تطّرد قواعد الفتوى مع جماعات المسلمين الأخرى، وإنّما يُحرّم عليها ما يبُاح للنفس لاحقا، بل إنّ أحد كبار مشايخهم اليوم، وهو صاحب مناصب رسمية متعددة، فسّر تحوّله عن تكفير الأنظمة العربية بتغير موقفها من "قضية الشام"، الأمر الذي يعني أنّ مناط التكفير عنده هو القضية الذاتية!

ليست القضية التي نحن بصددها الآن هي ردّ الاعتبار لمظلومي غزّة الذين طالهم الإسقاط والاغتيال المعنوي سنوات طويلة بلا إعذار ولا إحسان ظن، ولا هي مراجعة لسياسات الإدارة الجديدة في قفزتها الكبيرة بالالتحاق بالتحالف الأمريكي والبحث في صواب ذلك، كما أنّها ليست موقفا ضدّ حقّ الشعب السوري العزيز في الاستقرار وإعادة بناء بلده، ولكنّها ملاحظة على تحولات بعض أوساط الإسلاميين بما يطرح السؤال عن معنى وجود هذه الحركات الإسلامية إذا كانت الغاية في النهاية تكرار خيارات الأنظمة العربية التي عارضتها أو قاتلتها وانتهاج رهاناتها نفسها!

الأمر لا يختص بالإدارة السورية الجديدة، بل العديد من أوساط الإسلاميين في المجال العربي والإسلامي الواسع، كانت متحفزة تجاه خطابات قيادات حركة حماس وخياراتها، زاعمة أن تلك الخيارات والخطابات من شأنها أن تفقد حماس "تعاطف الأمّة" (رأينا التعاطف العظيم بعد الإبادة على غزّة!)، بينما لا تبدي الكثير من تلك الأوساط أيّ موقف، وإن أبدت فالإعذار والدفاع والتبرير، تجاه خيارات الإدارة السورية الجديدة، بما في ذلك موضوع التحالف هذا، يبدو أنّ جرائم أمريكا بالذات قابلة للنسيان وكأنّها لم تكن، و"إسرائيل" عدوّ صغير لا يُلتفت إليه بالنسبة للعدوّ الطائفي القريب!

لا توجد ممارسة سياسية غير قابلة للتأويل والدفاع، ولكن الأمر عند بعض هؤلاء "خيار وفقوس"!

x.com/sariorabi

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات قضايا وآراء كاريكاتير بورتريه سوريا تنظيم الدولة سوريا امريكا تنظيم الدولة مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة صحافة اقتصاد سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الإدارة السوریة هذا التحالف أکثر من

إقرأ أيضاً:

تعليق قانون قيصر.. الخزانة الأمريكية تكشف تفاصيل تخفيف العقوبات عن سوريا

(CNN) – علّقت وزارة الخزانة الأمريكية العقوبات المفروضة على سوريا بموجب "قانون قيصر" وأشارت إلى أن العقوبات الشاملة على هذه الدولة لم تعد مفروضة، وفقا لبيان نشرته الإثنين. 

وجاء في بيان الخزانة الأمريكية: "لم تعد الولايات المتحدة تفرض عقوبات شاملة على سوريا"، وأردفت: "تم تعليق قانون قيصر، باستثناء المعاملات الخاضعة للعقوبات مع روسيا وإيران" وأشارت إلى أن تعليق هذه العقوبات يستمر لمدة 180 يوما . 

مقالات مشابهة

  • بعد تعليق العقوبات.. ما هو قانون قيصر الذي فرضته أمريكا على سوريا؟
  • تعليق قانون قيصر.. الخزانة الأمريكية تكشف تفاصيل تخفيف العقوبات عن سوريا
  • سوريا توقع إعلان تعاون سياسي مع التحالف الدولي ضد تنظيم الدولة
  • «الخزانة الأمريكية» تعلن إنهاء العقوبات على سوريا
  • سوريا تحبط مؤامرتين لاغتيال الرئيس «أحمد الشرع»
  • ماذا يعني انضمام سوريا إلى التحالف الدولي ضد تنظيم الدولة؟
  • انضمام سوريا إلى التحالف الدولي مكسب أم مخاطرة؟
  • الديهي: قوات الصاعقة المصرية هي التي حمت البلاد.. ومصر كان لها دور كبير في الثورة الجزائرية
  • سوريا.. «الشرع» يصل أمريكا وتنفيذ ضربات نوعية ضدّ خلايا «داعش»