أحمد الزرقة يكتب لـ "الموقع بوست" عن: الحوثيون والسلام الأكثر خطورة من الحرب والتفاعلات الداخلية للجماعة
تاريخ النشر: 12th, November 2025 GMT
من الداخل، تبدو جماعة الحوثي كقوةٍ تُعيد التهام حواضنها البشرية، فلم تعد الاعتقالات أداةً لضبط الخصوم، بل تحوّلت إلى نظام حكمٍ داخلي يقوم على الاشتباه المسبق، وفي مناطق سيطرتها، تُنزع فجأة “صفة القُرب” عن قياداتٍ وناشطين وصحفيين وحتى مسؤولين في أجهزة المليشيا المدنية والامنية، ويُلصق بهم وصف “الخيانة” أو “التجسس”، لتتحول الجماعة إلى آلة تطهيرٍ ذاتيٍّ تُقصي شركاء الأمس وتعيد هندسة الولاء وفق معايير أمنية صارمة.
هذا النمط لم يعد سرا، فمدير مكتب صالح الصمّاد، أحمد الرازحي، اختُطف في أكتوبر 2023، وبقي مصيره غامضا حتى منتصف 2024، وسط اتهامات بتسريب معلومات فساد وصراع أجنحة داخل المجلس السياسي. وقد خرج القيادي الحوثي السابق صالح هَبَرة أكثر من مرة، في يونيو 2024 ويوليو 2025، مطالبا بالإفراج عنه، في سابقة نادرة تعبّر عن اتساع الشرخ داخل النواة القيادية للجماعة.
وفي السياق ذاته، اعتُقل الصحافي محمد الكهالي، السكرتير الإعلامي السابق للصمّاد، وسط مناشدات علنية من ناشطين كـ محمد المقالح، الذي كتب أنّ “الولاء لم يعد يحمي أحدًا، والاختلاف صار تهمة أمنية”. كما شهدت حملات سبتمبر–أكتوبر 2024 اعتقال عشرات المواطنين في صنعاء وذمار وإب والحديدة، فقط لأنهم احتفلوا بذكرى ثورة 26 سبتمبر أو نشروا صورا لعلم الجمهورية. وقد وصفت هيومن رايتس ووتش تلك الحملة بأنها “اعتقالات تعسفية تعكس رعب الجماعة من الرموز الجمهورية”.
ومع تصاعد التوترات، توسعت دائرة القمع لتطال حتى أعضاء وقيادات من حزب المؤتمر الشعبي العام، الحليف التقليدي للحوثيين في صنعاء. فقد وثّقت مصادر محلية احتجاز عدد من النواب والقيادات الإدارية الموالية للمؤتمر، وإخضاعهم للتحقيق أو الإقامة الجبرية بذريعة “تواطؤ سياسي” أو “اتصالات مشبوهة”، في وقتٍ باتت فيه العشرات من الشخصيات السياسية والبرلمانية ممنوعة من السفر بقرارات أمنية غير معلنة.
الأخطر أن حملة الاعتقالات لم تعد تقتصر على الموالين المحليين. ففي عام 2025، امتدت لتشمل موظفين محليين في الأمم المتحدة ومنظمات دولية، حيث أعلنت الأمم المتحدة في 31 أكتوبر 2025 أن سلطات الحوثيين باشرت محاكمة 43 موظفا بتهم “التجسس لصالح الخارج”، وهي تهم رفضتها المنظمات الدولية ووصفتها بأنها “تعسفية وتكشف انهيار الثقة بين الحوثيين وشركائهم المدنيين”.
وفي أحدث حلقات هذا المشهد، اعتُقل رئيس تحرير صحيفة الديار، عابد المهذري، المعروف بقربه من محمد علي الحوثي، في مؤشرٍ على أن الصراع تجاوز الخطوط التقليدية بين الأجنحة السياسية والعسكرية، ليصبح صراعا وجوديا على مراكز النفوذ داخل الجماعة نفسها.
إقرأ أيضا: من "الميليشيا" إلى "السلطة": تحولات الحوثيين منذ مقتل صالح الصماد
هذا السلوك يعيد إلى الأذهان تجربة النظام الإيراني بعد الثورة، حين تحولت “الثورة الإسلامية” إلى سلطة بوليسية تبتلع رفاقها القدامى. فكما فعلت طهران بتصفية اليساريين ورجال الدين المختلفين تحت شعار “حماية الثورة من الانحراف”، تفعل جماعة الحوثي الشيء نفسه تحت شعار “حماية الجبهة الداخلية من الاختراق”. التشابه لا يقتصر على الأسلوب الأمني بل يمتد إلى البنية العقائدية التي تخلط بين “التهديد الخارجي” و”التمرد الداخلي”، وتحوّل الخلاف السياسي إلى قضية تمس “الولاية” نفسها.
تعمّق هذا الهاجس الأمني أكثر بعد الهجوم الإسرائيلي الذي استهدف حكومة الحوثيين في صنعاء مؤخرا، إذ مثّل الحدث صدمة تنظيمية وأمنية للمليشيا، دفعتها إلى رفع مستوى الطوارئ وتشديد الرقابة على كوادرها. فبدلا من أن يوحّد الهجوم الصف الداخلي للمليشيا، فتح الباب أمام موجة جديدة من الشكوك والتصفيات، وتحوّل إلى ذريعة لتوسيع الاعتقالات بحجة “منع الاختراق الإسرائيلي”.
في المحصلة، يتكرّر المشهد ذاته الذي عرفته الانقلابات العقائدية في مراحل التحوّل إلى سلطة تأكل أبناءها.
ومع كل موجة قمع جديدة، تتآكل الثقة داخل القاعدة الاجتماعية للحوثيين، وتتراجع “الشرعية الثورية” المزعومة أمام منطق الخوف والمراقبة، وهكذا، يغدو الحوثي نسخة يمنية من النظام الإيراني، لكنها أكثر هشاشة، لأنها تخوض صراعًا مفتوحًا في الداخل والخارج، بينما تنهشها الشكوك من قلبها قبل أن تطالها النار من خصومها.
التآكل الداخلي وتآكل القدرة على الحكم
هذا المسار من القمع والتصفيات لم يعد مجرد انعكاسٍ لأزمة أمنية، بل أصبح عنوانًا لمرحلة تراجع بنيوي في قدرة الجماعة على إدارة الدولة. فحالة الخوف التي تُخيم على المؤسسات الحوثية منعت المبادرات الإدارية والسياسية، وأضعفت الجهاز المدني الذي كان يعتمد عليه في تسيير الشؤون اليومية للمناطق الخاضعة لسيطرتها. ومع تصاعد الشكوك، صار الولاء مقدَّمًا على الكفاءة، وأضحى الانتماء للسلالة أو الجناح الأمني شرطًا للاستمرار في أي موقع.
في المقابل، تتنامى داخل صنعاء ما يمكن وصفه بـ "المعارضة الصامتة"، شبكات من مسؤولين وناشطين وموظفين مدنيين باتوا يعبّرون عن سخطهم بطرق غير مباشرة: بالانسحاب من المشهد، أو بتسريب المعلومات، أو حتى برفض تنفيذ الأوامر المتشددة.
هذه المقاومة الهادئة لا تملك قوة المواجهة بعد، لكنها تعبّر عن تآكل الشرعية الداخلية للجماعة وتراجع قدرتها على إنتاج قناعة أو ولاء طوعي بين أتباعها.
ومع اتساع الهوّة بين القيادة وقطاعاتها السياسية والمدنية، تتجه سلطة الحوثيين إلى أن تصبح نظامًا مغلقًا يعيش داخل فقاعة أمنية، يعتمد على القمع بدل الشرعية، وعلى التخوين بدل الثقة. ومع مرور الوقت، تُصبح هذه البنية أقل قدرة على الصمود أمام الضغوط الخارجية، سواء من المجتمع الدولي أو من حلفائها الإقليميين. وفي نهاية المطاف، قد يجد الحوثيون أنفسهم يواجهون التهديد الأخطر: الانهيار من الداخل قبل المواجهة من الخارج.
الانعكاسات المحتملة
إذا استمرت جماعة الحوثي في هذا النهج القمعي الداخلي، فإنها تتجه نحو مرحلة تفكك صامت قد لا تظهر ملامحها فورًا، لكنها تتعمّق مع كل حملة اعتقال جديدة. فالأجنحة الأمنية والعقائدية التي تهيمن على القرار تفرض واقعًا من الارتياب المتبادل، وتُقصي القيادات المدنية والسياسية التي كانت تشكّل واجهتها التفاوضية والإدارية. هذه الدينامية ستؤدي تدريجيًا إلى تآكل وحدة القيادة، وربما إلى إعادة توزيعٍ خفي للنفوذ بين أجنحة ترتبط بولاءات مختلفة داخل المنظومة — أبرزها جناح محمد علي الحوثي المدني مقابل الجناح العسكري-الأمني المقرّب من عبد الملك الحوثي نفسه.
على المستوى الإقليمي، من المرجّح أن تتزايد وتيرة التدخل الإيراني المباشر في إدارة القرار الحوثي، خصوصًا بعد الضربة الإسرائيلية الأخيرة التي كشفت هشاشة المنظومة الأمنية في صنعاء، وأحرجت طهران أمام حلفائها، ستسعى إيران — كما فعلت في تجارب سابقة في لبنان والعراق — إلى إعادة ضبط القيادة الميدانية، وربما إحلال وجوه أكثر ولاءً للحرس الثوري داخل البنية الحوثية.
إقرأ أيضا: شبكة الضفتين: آلة نفوذ إماراتية بخمسة مفاتيح على سواحل اليمن والقرن الإفريقي
أما داخليًا، فإن استمرار الضغط الأمني ضد كوادر حزب المؤتمر والمستقلين سيؤدي إلى تصدّع التحالف الذي منح الحوثيين غطاءً سياسيًا في صنعاء منذ 2017، وقد يدفع بعض تلك الكوادر إلى البحث عن تسويات جديدة خارج مظلة الجماعة، خصوصًا مع تصاعد الغضب الشعبي في المدن الكبرى وتدهور الوضع الاقتصادي.
في هذا السياق، يبدو أن الجماعة تدخل مرحلة أشبه بما يمكن تسميته "الانكماش السلطوي": سلطة تزداد قبضتها الأمنية كلما ضعفت شرعيتها الاجتماعية، وتضطر إلى الاحتماء بالخارج كلما تصاعد الانقسام في الداخل. وهو مسار مألوف في تجارب الأنظمة العقائدية التي تبدأ بالثورة وتنتهي بالحراسة — حراسة الخوف والشك، لا الإيمان أو القناعة.
الانكفاء الداخلي وصراع الموارد والولاءات
مع تراجع حدة المواجهات العسكرية على الجبهات الخارجية، ودخول الحرب اليمنية في مرحلة جمود نسبي، وجدت جماعة الحوثي نفسها أمام اختبارٍ لم تعهده منذ صعودها: غياب العدو الخارجي الذي كانت تُوحّد الصفوف باسمه. فحين خمدت أصوات المدافع، ارتفعت داخل الجماعة أصوات الحسابات والمصالح. ومع انحسار التهديد الخارجي، بدأ الصراع الداخلي يأخذ شكلاً أوضح — صراع على الموارد، والنفوذ، ومفاصل القرار، بدل الصراع على “الثورة” و”الهوية الإيمانية” التي كانت تُستخدم غطاءً أيديولوجيًا لتبرير السيطرة.
في هذه المرحلة، تحوّلت سلطة الجماعة إلى ما يشبه اقتصاد الحرب المستمرّ بلا حرب، فظهرت شبكات نفوذ تتقاسم عوائد الجمارك والضرائب والوقود والمساعدات، وسط حالة من الشك والتنافس بين الأجنحة. ومع تراجع الدعم المالي الإيراني نتيجة الضغوط الإقليمية، تزايدت أهمية السيطرة على الموارد المحلية كمصدرٍ رئيسي للسلطة، ما عمّق الانقسامات داخل المكوّن الواحد.
هذا التحول رافقه انكفاء داخلي واضح، تُمنح فيه الأولوية للانتماء الطائفي والسلالي كمعيار للثقة والتعيين في المناصب. فأُقصي المئات من الكوادر الإدارية والفنية المنحدرين من خارج “البيت الهاشمي”، وحلّ محلهم مقربون من الدائرة العقائدية أو من الأسر المرتبطة ببيت الحوثي مباشرة. هذه السياسة — التي تُقدّم “النسب” على الكفاءة و”الانتماء المذهبي” على الخبرة — تُعيد إنتاج نموذج السلطة المغلقة التي تحكمها روابط العائلة والمذهب لا معايير بناء الدول.
النتيجة أن الجماعة باتت تدخل مرحلة الانكفاء السلطوي والعرقي، حيث تتقلص دائرة القرار إلى مجموعة ضيقة، وتتحول مؤسسات الدولة إلى واجهات شكلية لمراكز نفوذ طائفية. ومع غياب المنافسة الخارجية، تفقد الجماعة مبرر التعبئة، لتواجه خصمًا أكثر خطورة من العدو الخارجي: تفككها الداخلي وفقدان الثقة بين مكوناتها.
بهذا المعنى، يبدو أن توقف الحرب لم يجلب للحوثيين الاستقرار، بل سلبهم لحظة التماسك الوحيدة التي منحها لهم الخطر الخارجي. واليوم، بينما تتقاسم الأجنحة الموارد والمناصب على أساس الولاء لا الكفاءة، تدخل الجماعة مرحلة ما بعد “الثورة” — مرحلة الدولة الظلّية التي تحكمها العصبة لا الفكرة، وتُدار فيها السلطة بعُقدة الخوف من الداخل أكثر من مواجهة الخارج.
المصدر: الموقع بوست
كلمات دلالية: جماعة الحوثي الحوثيين في اليمن عبدالملك الحوثي إيران إسرائيل جماعة الحوثی فی صنعاء التی ت
إقرأ أيضاً:
بنك مصر يطلق موقعه التاريخي ويتيح تجربة استثنائية لزائريه بجولة افتراضية داخل متحف بنك مصر
في خطوة تعبّر عن اعتزازه العميق بجذوره الوطنية وريادته الراسخة في مسيرة الاقتصاد المصري، قام بنك مصر بإطلاق موقعه التاريخي الجديد بعنوان bmhistorical.banquemisr.com، الذي يُجسّد رؤيته في الربط بين الماضي المجيد والمستقبل الواعد، ويُقدّم تجربة رقمية متكاملة تروي تاريخ أكثر من مئة عام من الإنجاز والعطاء.
يُعدّ الموقع نافذة تفاعلية توثق إرث البنك الاقتصادي والثقافي منذ تأسيسه عام 1920 على يد رائد الاقتصاد الوطني محمد طلعت حرب باشا، الذي غرس بفكره الاستقلالي مبدأ "التمصير" كقيمة وواقعٍ اقتصاديٍّ رسّخ هوية وطنية أصيلة. ويأتي هذا الإطلاق امتدادًا لتاريخٍ زاخر أسّس لنهضة صناعية ومالية جعلت من بنك مصر أيقونةً للريادة الوطنية ومصدر إلهام للأجيال المتعاقبة.
ويُبرز الموقع عبر تصميمه العصري ومحتواه الغني محطات مضيئة من مسيرة البنك، بدءًا من تأسيس أولى الشركات الوطنية في مجالات الصناعة والنقل والتأمين، مرورًا بدوره الريادي في دعم الاقتصاد المصري، ووصولًا إلى مكانته الحالية كأحد أعمدة القطاع المصرفي العربي والإقليمي.
ويعد هذا المشروع الرقمي تأكيدا على التزام بنك مصر بالاستفادة من التراث المصري كمصدرٍ للفخر والابتكار والإلهام، ويُبرز متحف بنك مصر الذي يتواجد في مركزه الرئيسي بوسط البلد بالقاهرة كأحد أبرز معالم ذاكرته المؤسسية، إذ يحتضن مجموعة نادرة من المقتنيات التاريخية التي تروي قصة كفاحٍ ونجاحٍ امتدت على مدى قرنٍ من الزمان.
كما تتاح لزوار الموقع فرصة القيام بجولة افتراضية بزاوية 360 درجة داخل المتحف، مما يمنحهم تجربة غامرة تمكّنهم من استكشاف التاريخ المصرفي المصري من أي مكان في العالم، ويؤكد هذا الإطلاق رؤية بنك مصر في الحفاظ على إرثه العريق ونقله إلى الأجيال الجديدة بأسلوب عصري يعكس روح الابتكار التي طالما ميّزته، كما يعبّر عن فلسفته المؤسسية التي ترى في الماضي مصدر قوة للمستقبل، وفي التاريخ دافعًا لمواصلة مسيرة التنمية والتطوير.
وبهذه الخطوة الرائدة، يواصل بنك مصر ترسيخ مكانته كأول بنك وطني مصري وأحد ركائز الاقتصاد الوطني، وشاهد على رحلة وطنٍ كتب فصولها بعزيمة وإرادة، ليبقى اسمه علامة مضيئة في تاريخ مصر الحديث.