في هذا الجزء الأول من ورقة خاصة بـ "عربي21"، يقدم الأمين العام للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين علي محمَّد محمد الصلَّابي تصوّرًا معمّقًا للعقل الاستراتيجي في سوريا الجديدة، الذي يمثل إطارًا معرفيًا منهجيًا يوازن بين الثوابت العقدية والمتغيرات السياسية، ويتيح للقيادة اتخاذ قرارات رشيدة بعيدًا عن الخلط بين السياسة الشرعية ومسائل الاعتقاد.



ويستعرض الصلابي أهداف هذا العقل في المرحلة الراهنة، من توحيد البلاد وإرساء العدل، إلى إدارة التحالفات الدولية والإقليمية بما يحقق مصالح الشعب والدولة، مستندًا في ذلك إلى نماذج قرآنية ونبوية تاريخية، مثل تجربة يوسف الصديق وصلح الحديبية، لإبراز منهج فكّ الاشتباك بين السياسة الشرعية والعقيدة، بما يضمن قدرة الدولة على التقدم والاستقرار دون التفريط بالثوابت.

تحديات مركبة

تواجه الساحة السورية في الوقت الراهن تحدّيات مركّبة، تتداخل فيها الأبعاد السياسية والعسكرية والاجتماعية والدينية، وتنعكس آثارها على الوعي الجمعي، وعلى البنية الحركية والفكرية لمختلف القوى الفاعلة. وقد أفرز هذا التعقيد ظاهرةً لافتة تتمثل في الخلط بين السياسة الشرعية ومسائل الاعتقاد، بحيث باتت القرارات الإدارية والسياسية محلَّ تجاذبٍ عقدي، وغدت الأحكام الدينية تُسقَط على مواقف سياسية متغيّرة بطبيعتها، وهو ما قد يؤدي إلى تمزيق الصف، وإضعاف القدرة على إدارة الشأن العام، والعجز عن الوصول إلى خيارات وطنية جامعة.

أمام هذا الواقع، تبرز الحاجة إلى تبنّي إطارٍ معرفي يحقّق التوازن بين الثوابت والمتغيّرات، ويرسم حدودًا واضحة بين ما هو من صلب العقيدة وما هو من دائرة الاجتهاد السياسي، ويمنح الفاعلين القدرة على اتخاذ القرار في ضوء فهمٍ واعٍ للمصلحة والمفسدة والمآل. وهذا الإطار هو ما نُطلق عليه في هذه الورقة: العقل الاستراتيجي.

العقل الاستراتيجي ـ كما تتبنّاه هذه الورقة ـ هو القدرة المنهجية على قراءة الواقع قراءةً شاملةً واعية، واِستخلاص اتجاهاته وفرصه ومخاطره، ثم بناء خياراتٍ وسياساتٍ بعيدة المدى تُحقّق أعظم المصالح وتدرأ أكبر المفاسد، وفق أصول الشريعة وقواعد الاجتهاد، مع مراعاة سنن الاجتماع وقوانين السياسة. فهو عقلٌ يوازن بين المبادئ والمصالح دون تفريطٍ في الثوابت، ويميّز بين العقدي والسياسي دون خلطٍ أو تعسّف، وينظر إلى الأحداث من زاوية مآلاتها لا من زاوية لحظيّتها.

وتهدف هذه الورقة إلى فكّ الاشتباك بين مجالي السياسة الشرعية والعقيدة، وتحرير مواضع الخلاف بين الفاعلين، وبيان الأسس الشرعية والمنهجية التي تُبقي مسائل الاعتقاد في مقامها الرفيع، وتضع العمل السياسي في إطار الاجتهاد الذي يسع الخلاف ويستوعب التعدّد. وكما تسعى إلى تقديم نماذج تاريخية وشرعية تبرز طبيعة العلاقة بين الثوابت والمتغيّرات، وتُظهر كيف تعاملت التجارب الإسلامية مع الواقع بتدرّجٍ ومرونةٍ منضبطة.

العقل الاستراتيجي ـ كما تتبنّاه هذه الورقة ـ هو القدرة المنهجية على قراءة الواقع قراءةً شاملةً واعية، واِستخلاص اتجاهاته وفرصه ومخاطره، ثم بناء خياراتٍ وسياساتٍ بعيدة المدى تُحقّق أعظم المصالح وتدرأ أكبر المفاسد، وفق أصول الشريعة وقواعد الاجتهاد، مع مراعاة سنن الاجتماع وقوانين السياسة. فهو عقلٌ يوازن بين المبادئ والمصالح دون تفريطٍ في الثوابت، ويميّز بين العقدي والسياسي دون خلطٍ أو تعسّف، وينظر إلى الأحداث من زاوية مآلاتها لا من زاوية لحظيّتها.إنّ الوعي الاستراتيجي ـ كما تقدّمه هذه الورقة ـ ليس دعوةً إلى واقعيةٍ منفلتة، ولا إلى تشدّدٍ عقدي، بل هو محاولةٌ لبناء عقلٍ جامع يستوعب تعقيدات المشهد السوري، ويحافظ على أصول الدين، ويمنح الفاعلين القدرة على اتخاذ القرار المصلحي الرشيد، دون تجاوزٍ للثوابت ولا تعطيلٍ للسياسة.

وبذلك، تقدّم هذه الورقة إطاراً فكرياً وعملياً يمكن أن يسهم في إعادة ترتيب أولويات العمل السوري، وتخفيف حدّة التوتر بين أبناء الشعب الواحد، وتعزيز القدرة على بناء مشروع وطنيٍّ جامعٍ منضبطٍ بأحكام الشريعة وسنن الاجتماع.

أولاً ـ العقل الاستراتيجي في سوريا وأهدافه الكبرى في المرحلة الراهنة

لا شكّ أنّ كثيراً من المتابعين راهنوا على عجز القيادة السوريّة عن تحقيق نجاحات معتبرة لصالح شعبها ودولتها، التي ورثتها مثقلةً بإرثٍ كبير من الفساد والانهيار على مختلف المستويات. ويأتي هذا الحديث في سياق تقييم الأداء السياسي في ميزان السياسة الشرعية، المبنيّة على فكّ الاشتباك بين مسائل السِّلم والمصالح والتوازنات الإقليميّة والدوليّة، وبين الأصول والمعتقدات الشرعيّة.

وإنّ العقل الاستراتيجي في سياقه السوري الراهن ينهض بأهداف كبرى في مسيرته الحاليّة، ولعل من أبرزها:

1 ـ تحقيق وحدة البلاد.
2 ـ إضعاف القوى الانفصاليّة أو القضاء عليها.
3 ـ تحسين الوضع الاقتصادي للناس، وتشغيل عجلة الاقتصاد، وتوفير فُرَص العمل.
4 ـ إقامة العدل بين الناس.
5 ـ إنجاز مصالحة وطنيّة قائمة على العدل والرحمة مع الحزم.
6 ـ إعادة هيبة الدولة وسيادتها.
7 ـ الإسهام في الإصلاح النفسي والاجتماعي والثقافي.
8 ـ القضاء على الحركات التي عاثت في البلاد فسادًا في أموال الناس وأعراضهم وممتلكاتهم.
9 ـ فهم مصالح الولايات المتحدة وأوروبا وروسيا والصين وغيرها، واستيعاب تقاطعات هذه المصالح داخل سوريا وفي محيطها.
10 ـ إغلاق الباب أمام أيّ مشروع خارجي لا يخدم مصالح الشعب والدولة.
11 ـ بناء تواصلٍ إيجابي مع الأصدقاء والخصوم وسائر القوى المؤثّرة في الملف السوري.
12 ـ السعي الدؤوب للخروج من الحصار الاقتصادي القاتل، ومن حالة العزلة السياسيّة الخانقة.

وتُعرَّف السياسة الشرعية بأنّها قيادة المجتمعات نحو تحقيق المصالح ودرء المفاسد. وما ذُكر آنفًا هو بعضٌ ممّا تسعى القيادة السوريّة إلى تحقيقه، ممّا يعبّر عن جملةٍ من المقاصد الشرعيّة والأحكام المنوط بالحُكّام إنجازُها لشعوبهم.

وقد أسهم رفعُ جزءٍ من العقوبات عن سوريا في تخفيف المعاناة عن الشعب، وكان ذلك ثمرةَ تلاقي مصالح القيادة الجديدة مع قوى إقليميّة محبّة لسوريا وشعبها، وقد نجحت القيادة وفريقها في استثمار ما تهيّأ من فرص لصالح بلادهم.

إنّ فقه الدولة قائمٌ على مراعاة التوازنات، ودرء المفاسد وجلب المصالح، واختيار التحالفات الإقليميّة والدوليّة بما يحقّق الخير للشعب والدولة. وفي هذا السياق يُعدّ التحالف الدولي ضدّ تنظيم داعش مصلحةً كبرى للدولة الناشئة وشعبها؛ إذ مثّل انتقالًا من موقع الضعف والتهميش والاحتلال السابق إلى موقع التعامل مع هذا الحلف من منطلق السيادة، في مواجهة عدوّ خاضت الثورة السوريّة ضدّه حروبًا طاحنة قبل ميلاد هذا التحالف.

ويُعدّ التصدّي لتنظيم داعش ضرورةً من ضرورات الأمن القومي لسوريا والعالم العربي والإسلامي، قبل أن يكون مطلباً دوليّاً خارجيّاً؛ فهؤلاء المجرمون قتلوا وسفكوا الدماء، وهتكوا الأعراض، واعتدوا على أموال الناس، وذاق الأبرياء من أبناء شعوبنا الويلات في العراق وليبيا وسوريا وغيرها.

لقد توحّدت فصائل من قوى الثورة السوريّة في جبهة متماسكة (بفضل الله تعلى)، وخاضت معارك بطوليّة وتاريخيّة ضدّ هذا التنظيم الإجراميّ المشبوه منذ سنوات طويلة، وهو أمرٌ يعرفه القاصي والداني. ولا يزال هذا الخطر يشكّل تهديداً استراتيجيّاً للدولة والشعب، كما يمثّل منفذاً من منافذ الشرّ لأعداء سوريا وأجهزتهم الاستخباراتيّة. ومن ثمّ فإنّ التحالف مع دولٍ تملك إمكانيّات ووسائل حديثة يُعدّ مصلحةً واضحة، لا يُنكرها إلا متغافل أو جاهل أو من في قلبه عداوةٌ مستحكمة للقيادة السوريّة وشعبها ودولتها.

ويُعدّ هذا التحدّي من أكبر التحدّيات التي تَفرض على القيادة التصدّي له بجميع الوسائل الشرعيّة المتاحة، على المستويات المحليّة والإقليميّة والدوليّة.

إنّ حكومة الرئيس أحمد الشرع ورثت بلداً ممزقاً مدمَّراً، كان النظام الطائفي قد عمل على إفساده وفق رؤية تدميريّة استراتيجيّة، حتى أصبح فاقداً لقدرته على ممارسة سيادته، ومُحتلّاً فعليّاً بنفوذٍ إيرانيّ وروسيّ فيما سبق.

إنّ الوعي الاستراتيجي ـ كما تقدّمه هذه الورقة ـ ليس دعوةً إلى واقعيةٍ منفلتة، ولا إلى تشدّدٍ عقدي، بل هو محاولةٌ لبناء عقلٍ جامع يستوعب تعقيدات المشهد السوري، ويحافظ على أصول الدين، ويمنح الفاعلين القدرة على اتخاذ القرار المصلحي الرشيد، دون تجاوزٍ للثوابت ولا تعطيلٍ للسياسة.إنّ ما تقوم به سوريا وفق العقل الاستراتيجيّ الحالي يندرج في إطار الممارسة السياسيّة الشرعيّة الحذرة، القائمة على دفع المفاسد وجلب المصالح، مع مراعاة حسابات الدولة الوليدة المحاطة بألغامٍ محليّة وإقليميّة ودوليّة. وقد خضعت هذه الممارسة لظروف استثنائيّة، وإمكانات محدودة، وتوازنات دقيقة مع حلفاء إقليميين مساندين (تركيا والسعودية وقطر…) وغيرهم، غير أنّ هؤلاء يُعَدّون الأبرز، وقد يسّر الله على أيديهم تجاوز كثير من الصعاب.

إنّ السيرة النبويّة الشريفة زاخرةٌ بالفقه السياسي الخاضع لمبدأ التدرّج والمرونة والتفاوض واقتناص الفرص، في إطار عقليّة مسدَّدة بالوحي، كما في صلح الحديبية، والمفاوضات مع غطفان في غزوة الأحزاب، وغير ذلك من الوقائع الكثيرة.

كما أنّ القرآن الكريم أولى عنايةً خاصة بالمآلات والنتائج في قصص الأنبياء واجتهاداتهم، ومن أبرزها قصّة النبيّ الوزير الذي عمل مع ملكٍ كافر، وفي ظلّ نظامٍ بعيدٍ كلَّ البعد عن شريعة السماء، ومع ذلك سعى إلى دفع المفاسد عن شعب مصر والشعوب التي حولها، مع أنهم لم يكونوا على عقيدة التوحيد ولا على شريعة منزّلة.

وحين انتقل النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى مرحلة الدولة، أسّس فقهًا عميقًا في فكّ الاشتباك بين السياسة الشرعيّة ومسائل الاعتقاد، تجلّى في وثيقة المدينة، وفي سيرته في الجهاد والسِّلم والتحالفات.

إنّ القيادة السياسيّة الحكيمة هي التي تُولي اهتمامًا بالنتائج التي تعود على شعبها ودولتها بالأمن والاستقرار، وتعمل على حلّ الأزمات الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسيّة، وتحرص على تطوير "عقل الدولة الاستراتيجيّ" وإخراجه من مرحلة الثورة والمقاومة إلى مرحلة إدارة الدولة والمواطنين، بروحٍ من المقاربات والاجتهادات والموازنات التي تجمع بين الثوابت والمتغيّرات.

وهي قيادة تُدرك درجات دفع المفاسد ومراتب جلب المصالح في إطار فقه السياسة الشرعيّة البعيد عن منطق الأبيض والأسود؛ إذ إنّ الله خلق البشر مختلفين ألواناً وتنوّعاً، ولأنّ الدولة الناشئة تسعى إلى استعادة دورها التاريخي والحضاري، فإنّ من أولويّاتها السعي الجاد لإبعاد سوريا عن أتون الحرب المدمّرة، ولملمة جراحها الجسديّة والنفسيّة، ومعالجة أزماتها المتعدّدة بما يعود بالخير على الإنسان السوري ودولته. وهذا كلّه يعبّر عن عقلٍ استراتيجيّ في القيادة السوريّة، وهو عين الحكمة، وينسجم مع المقاصد الشرعيّة الواضحة التي تفرّق بين فقه الاستضعاف وفقه القوّة.

وإنّ هذا الموضوع في حقيقته يحتاج إلى دراسة موسّعة، وربما إلى كتابٍ مستقلّ، يعالج الإشكال المتعلّق بفكّ الاشتباك بين السياسة الشرعيّة ومسائل الاعتقاد على نحوٍ أعمق وأشمل.

ثانياً ـ أمثلة من القرآن والسنة على منهج فكّ الاشتباك بين السياسة الشرعية والمسائل العقائدية

توضح تجارب الأنبياء والرسل والرسل من بعدهم أن السياسة الشرعية لا تتعارض مع الثوابت العقدية، بل يمكن توظيفها لتحقيق مصالح الأمة ودرء المفاسد، مع الحفاظ على الدين والمبادئ. ومن أبرز هذه التجارب ما عاشه يوسف عليه السلام في وزارة مصر، حيث أدرك كيفية إدارة الدولة وتنظيم شؤون الناس بما يخدم مصالحهم دون الإخلال بعقيدته، وماذا في صلح الحديبية الذي أبرمه النبي ﷺ مع قريش، حيث تم التوازن بين الثوابت الدينية والمصلحة العامة للأمة، فتجاوز بعض التفاصيل الشكلية لتحقيق غاية استراتيجية كبرى.

وتعد هذه الأمثلة القرآنية والسنّية بمثابة نماذج حية لفهم منهج فك الاشتباك بين السياسة الشرعية ومسائل العقائد، بما يتيح استنباط الضوابط الاجتهادية للتعامل مع الواقع السياسي المعاصر.

1 ـ فك الاشتباك بين السياسة الشرعية والمسائل العقدية في دعوة يوسف الصديق (عليه السلام):

إنّ العلاقة بين المسلمين والمشركين في قصّة يوسف (عليه السلام) كانت واضحة في ثوابته، ودعوته إلى التوحيد في السجن السّياسيّ لدولة الهكسوس: ﴿يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ۝٣٩ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ  إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ  أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ  ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ۝٤٠﴾ [يوسف: 39-40].

ومع وضوح هذه الثوابت التوحيدية، قدّم يوسف عليه السلام للقيادة المشركة رؤيةً إستراتيجية أنقذت شعب مصر وما حولها من مجاعةٍ محقَّقة، ولم يشترط في ذلك مالاً ولا حتى الخروج من السجن، إذ كان الأمر يتعلّق بحياة شعبٍ كامل، ولا يجوز أن تطغى المصالح الشخصيّة على القضايا التي تمسّ المصالح العامة.

فقد قدّم للملك الكافر والقيادة المشركة تقريراً وافياً لمنع الكارثة الاقتصاديّة من الوقوع، وفسّر لهم الرؤيا، وبادر بوضع خطّة عملٍ لمواجهة سنوات القحط والجفاف، وخطّةٍ اقتصاديّةٍ متكاملة تتناول الحياة الزراعيّة والتنمويّة للأمة خلال خمس عشرة سنة مقبلة، وقدم نصحه وإرشاده وخبرته وعلمه في شؤون الزراعة والادخار والتموين.

قدّم يوسف عليه السلام مشورته وخبرته لمن احتاج إليها قبل أن يُطلب منه ذلك، وقدمها لمن أساؤوا إليه وظلموه وألقَوه في السجن بسبب عفّته وأمانته؛ قدّمها لهم وهو لا يزال في سجنهم، قبل أن يُخرجوه منه. وهذا مثالٌ واضح على السعي إلى دفع المفاسد وجلب المصالح وفق فقهِ فكّ الاشتباك بين السياسة الشرعية ومسائل الاعتقاد؛ فلم يقل: هذه دولة كافرة وحاكمها وشعبها كذلك، وبالتالي لا يجوز التعاون معها فيما يحقّق المصالح ويدفع المفاسد عن بني الإنسان.

ولمّا رأى الملك أنّ مصلحة بلاده وشعبه، وسبيل الخروج من الأزمات الاقتصاديّة القادمة، أن يُعيِّن يوسف وزيرًا في الدولة لما يتحلّى به من صفاتٍ قياديّةٍ وأخلاقيّة، ومعرفةٍ إداريّةٍ واقتصاديّة تؤهّله لإنقاذ البلاد والعباد، قال له: ﴿إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ﴾ [يوسف: 54].

فلم يتردّد يوسف عليه السلام في العمل مع هذا الملك، وفي إطار دولة تحكم بالقوانين الوضعيّة، بل حرص على دفع المفاسد وجلب المصالح، والتكيّف مع الوضع القائم بما يحقّق رسالة التوحيد وإفراد الله بالعبادة، من خلال التعاون المثمر، فقال: ﴿قَالَ اجْعَلْنِي عَلَىٰ خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ۝٥٥﴾ [يوسف: 55].

لقد أراد يوسف عليه السلام أن يقوم بعملٍ كبير ويتحمّل مسؤوليته، فَرَشَّح نفسه لأخطر المناصب وأعلاها شأنًا، وأشقّها عملاً وجهداً ودأباً وسهراً، وأكثرها نفعاً لعامة الناس وضعفائهم وفقرائهم؛ منصبٍ يتكفّل بإطعام شعوبٍ جائعة في أزماتٍ اقتصاديّةٍ خانقة، وهي تبعةٌ كبيرة ومسؤوليّة جسيمة يهرب منها كثير من الرجال؛ لأنّها قد تكلّفهم رؤوسهم.

ومع ذلك لم يتنازل يوسف عليه السلام عن عقيدته، ولا عن الدعوة إليها، ولا عن تاريخ آبائه وأجداده، ولا عن أخلاقه وعبادته لربّه، بل عاش بين القوم بدينه ونوره في وسط ظلام الشرك والكفر، وساهم في دفع المفاسد وجلب المصالح لتلك الدولة ولشعبها. فهذا نموذجٌ رفيع في فكّ الاشتباك بين السياسة الشرعيّة ومسائل الاعتقاد.

فكيف بمن يعمل اليوم على دفع المفاسد وجلب المصالح لشعبه في منظومة دوليّة وإقليميّة بالغة التعقيد، مع محافظته على سَمْته وهويّته وتاريخه وحضارته ودينه، سعياً لبيان حقيقة الإسلام وأهله الذين تعرّضوا للتشويه وإلصاق الأكاذيب والافتراءات عبر مسيرة طويلة من أجهزةٍ شريرة؟

وقد سمّى الله عز وجل ما حدث ليوسف عليه السلام من تولّيه الوزارة تمكيناً، فقال تعالى: ﴿وَكَذَٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ ۚ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ ۖ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ۝٥٦﴾ [يوسف: 56].

إنّ الاقتداء بيوسف عليه السلام في فقه فكّ الاشتباك بين السياسة الشرعيّة ومسائل الاعتقاد فقهٌ عزيز، وليتها روحٌ تسري في ثقافة رجال الدولة الذين يحرصون على دينهم وعقيدتهم، ويملكون في الوقت نفسه القدرة على قيادة الشعوب، وتوظيف أدوات الدولة لخدمة الصالح العام.

2 ـ  فك الاشتباك بين السياسة الشرعية والمسائل العقدية في صلح الحديبية

يُعَدّ صلح الحديبية من أغزر النماذج النبوية في فقه السياسة الشرعية، وقد أفاض الفقهاء في بيان دلالاته ومراميه. يقول الإمام النووي ـ رحمه الله ـ في شرحه لحديث صلح الحديبية: "وفيه: أنَّ للإمام أن يعقد الصلح على ما رآه مصلحة للمسلمين، وإن كان لا يظهر ذلك لبعض الناس في بادئ الرأي، وفيه احتمال المفسدة اليسيرة لدفع مفسدة أعظم منها، أو لتحصيل مصلحة أعظم منها إذا لم يمكن ذلك إلّا بذلك".

إنّ باب المعاهدات في الفقه الإسلامي بابٌ عظيم الشأن، وفقهه واسع ومتجذّر. وإنّ السعي لسدّ الذرائع التي تتذرّع بها الدول المعادية لإيجاد مبرّرٍ أمام العالم لممارساتها الوحشيّة ضدّ المسلمين أمرٌ في غاية الأهميّة؛ إذ إنّ هذه الدول تتحيّن أيّ فرصة مناسبة للهيمنة والسيطرة على الثروات، وتمزيق الأوطان، وتدمير مؤسسات الدولة الحيويّة. فإذا لم تملك الدولة من القوّة ما يردّ العدوان، فإنّ عليها أن تتجنّب كل ما من شأنه أن يقدّم مبرّرًا للاحتلال أو لقتالٍ غير متكافئ، وأن تسعى إلى عقد معاهداتٍ مشروعةٍ يكون نفعها أكبر من ضررها، لقطع الطريق على مخاطر أكبر ومفاسد أعظم، مع وجوب العمل الدائم على تقوية الدولة ومؤسساتها.

إنّ فقه الدولة قائمٌ على مراعاة التوازنات، ودرء المفاسد وجلب المصالح، واختيار التحالفات الإقليميّة والدوليّة بما يحقّق الخير للشعب والدولة. وفي هذا السياق يُعدّ التحالف الدولي ضدّ تنظيم داعش مصلحةً كبرى للدولة الناشئة وشعبها؛ إذ مثّل انتقالًا من موقع الضعف والتهميش والاحتلال السابق إلى موقع التعامل مع هذا الحلف من منطلق السيادة، في مواجهة عدوّ خاضت الثورة السوريّة ضدّه حروبًا طاحنة قبل ميلاد هذا التحالف.لقد صالح النبي ﷺ سهيلَ بن عمرو ممثّل قريش في الحديبية على وضع القتال عشر سنين، بعد أن كانت الحرب قاب قوسين أو أدنى؛ فقد تهيّأ المسلمون وبايعوا رسول الله ﷺ تحت الشجرة على القتال حتى الموت، حين صدّهم المشركون عن المسجد الحرام لأداء العمرة، وشاع بينهم أنّ مبعوث رسول الله ﷺ عثمان رضي الله عنه قُتل. غير أنّ المفاوضات سارت في مسار الحكمة وبُعد النظر، وإعمال العقل في مآلات الأمور؛ فتمّ الصلح، وعُقدت الهدنة لعشر سنوات يتوقّف فيها الطرفان عن سفك الدماء.

وقد تضمّنت هذه الاتفاقية شروطًا كان ظاهرها مجحفًا بحقّ المسلمين، حتى أنكَرها بعضُ كبار الصحابة ممّن عُرفوا بقوّة الغَيرة والصلابة في الحق، كعمر بن الخطّاب رضي الله عنه. غير أنّ رسول الله ﷺ ـ بحكمته، ونور بصيرته، وثاقب فكره، وبُعد نظره، وقبل ذلك وبعده بتأييد الله تعالى له ـ رأى في هذه المعاهدة تحقيقًا للمصالح ودفعًا للمفاسد لدولته ولدعوته وللمسلمين عموماً.

وقد نزل بسبب هذا الصلح صدر سورة الفتح، فظهر كيف غلّبت السياسة النبويّة الحكيمة ميزانَ المآلات والنتائج على ظرف اللحظة الراهنة، وقدّمت ميزان العقل على مجرّد الانفعال العاطفي، وفقه الصلح على منطق اندلاع الحرب.

وقد حقّق رسول الله ﷺ من خلال هذا الصلح مكاسبَ عظيمة؛ فتحالف مع قبائل جديدة، وانطلق بدعوة الإسلام بين الناس بقدر أكبر من الحرّية، وتفرّغ لجبهات أخرى من أعدائه، وحيّد قوّة معتبرة في الجزيرة، واشتغل بالبناء السياسي والاقتصادي والعسكري والقِيَمي، بما مهّد الطريق لاحقًا لفتح مكة.

إنّ صلح الحديبية يمدّ القادة السياسيّين بتجربة ثريّة في باب السياسة الشرعيّة القائمة على مبدأ تحقيق المصلحة ومنع المفسدة. وإذا تعارضت المصالح بعضها مع بعض، أو المفاسد فيما بينها، أو تعارضت المصالح والمفاسد معًا؛ كان الواجب إعمال فقه الموازنات بينها.

ويقوم فقه الموازنات على جملةٍ من المعايير التي يجب مراعاتها، من أبرزها:

1 ـ تفويت أدنى المصلحتين لتحصيل أعلاهما.
2 ـ ارتكاب أخفّ الضررين لدفع أشدّهما.
3 ـ تحمّل الضرر الخاص لدفع الضرر العام.
4 ـ اعتبار درء المفسدة مقدّمًا على جلب المصلحة.
5 ـ التضحية بالمصلحة الشكليّة من أجل المصلحة الجوهريّة، وبالمصلحة الطارئة لتحصيل المصلحة الدائمة، وبالمصلحة التي تخصّ عدداً محدوداً من الناس من أجل المصلحة التي تعود على جمهورٍ أوسع.

ولهذا رأينا رسول الله ﷺ يقبل بعض مطالب المشركين؛ فقبل أن تُكتب في صدر الوثيقة عبارة: «بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ» بدل «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ»، وقَبِل أن تُحذف كلمة «رسول الله» ويُكتب بدلها «محمد بن عبد الله». وبهذا علّم الأمّةَ كيف توازن وتقود المفاوضات، وتقدّم جوهر المصلحة على ظاهر العبارات.

وقد ذهب الإمام ابن القيم ـ رحمه الله ـ إلى أنّ مصالحة المشركين على بعض ما فيه ضيمٌ على المسلمين جائزةٌ للمصلحة الراجحة ودفع ما هو شرّ منه؛ ففيها دفعٌ لأعلى المفسدتين باحتمال أدناهما، كما ذكر ذلك في كتابه زاد المعاد. وقد بُحثت في صلح الحديبية فوائدُ فقهيّةٌ كثيرة، والحديث عنها يطول، ويمكن الرجوع إلى مصادرها ومراجعها لمن أراد التوسّع.

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي أفكار كتب الذاكرة السياسية تقارير سوريا السياسة الرأي سوريا سياسة رأي توجهات أفكار أفكار أفكار سياسة سياسة أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الاستراتیجی ـ کما یوسف علیه السلام هذه الورقة ـ رسول الله ﷺ بین الثوابت ة والدولی ة القدرة على السیاسی ة السوری ة من زاویة فی إطار ة التی قبل أن ی إطار التی ت

إقرأ أيضاً:

هل توزع دية الميت كميراث وما هي الطريقة الشرعية للتقسيم؟.. الإفتاء تجيب

ورد سؤال إلى دار الإفتاء المصرية عبر صفحتها الرسمية يقول السائل هل دية الميت توزع كميراث وكيف يكون التقسيم الشرعي للدية لها.

وأجابت دار الإفتاء قائلة إن دية القتيل توزع على ورثته وفق أنصبتهم الشرعية تمامًا كما توزع تركته، وأن عفو أحد الورثة عن نصيبه لا يلغي حقوق بقية الورثة في أنصبتهم المستحقة، حيث يحصل كل منهم على حقه بحسب سهمه الوارد في الميراث.

وأوضحت أن رجلا توفي في حادث وقضت المحكمة بدفع الدية لأهله، فإن زوجته ترث الثمن فرضًا لقوله تعالى فإن كان لكم ولد فلهن الثمن مما تركتم من بعد وصية توصون بها أو دين، ولكل واحد من والديه السدس فرضًا لقوله تعالى ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد، وما بقي بعد فرض الزوجة والأبوين يقسم بين الأبناء تعصيبا للذكر منهم ضعف نصيب الأنثى لقوله تعالى يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين، وإذا كان الأبناء إناثا فقط فلهن الثلثان فرضا وتعول التركة من أربعة وعشرين إلى سبعة وعشرين، وإذا كان أحد الورثة متسببا في القتل فلا يرث من الدية ويرث من غيرها.

هل يرث القاتل في المقتول ؟

وتابعت أنه لا يرث القاتل من المقتول إذا كان قتله عمدًا عدوانًا، وكذلك من قتل خطأ وأوجب عليه الدية أو الكفارة فإنه لا يرث للحديث ليس للقاتل من الميراث شيء، وأجمع العلماء على أن القاتل لا يرث من المقتول إذا كان قتلا مضمونا ولو عفا الأب، لكن إن سمح الورثة الباقون له بالمشاركة وكانوا راشدين فلا حرج عليهم، أما إن كان الوارث الأب أبا المقتول وأبا القاتل وسمح بمشاركته في الإرث فالحق له إذا كان القاتل له إرث.

جوائز تصل إلى3.5 مليون جنيه..انطلاق مسابقة دولة التلاوة لاكتشاف المواهب القرآنيةالأزهر يُدين جريمة إحراق مسجد بالضفة الغربية.. ويطالب بتحرك عاجل لوقف الإرهابأفضل دعاء للفرج وفك الكرب.. كلمات بسيطة رددها بعد التسليم من الصلاةالإفتاء تؤكد وسطية الإسلام وتدعو لترسيخ ثقافة التسامح ونشر الوعي المجتمعي

وأوضحت أن من قتل خطأ فعليه الدية والكفارة بصيام شهرين متتابعين لقول الله تعالى وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا، وأن الدية لا تسقط حتى لو كان القتيل هو المخطئ، وقيمتها خمسة وثلاثون كيلو جراما وسبعمائة جرام من الفضة الخام تقوّم بسعر السوق وقت الأداء، ويجوز تقسيطها لثلاث سنوات إلا إذا شاءت العاقلة تعجيلها، فإن لم تستطع فالقاتل، وإن لم يستطع فيجوز دفعها من الزكاة.

وأضافت أن دية القتل العمد تكون إذا تنازل أولياء الدم عن القصاص وقدرها سبعة وأربعون كيلو جراما وستمائة جرام من الفضة، ويمكن لهم العفو عن القصاص والدية، وإن عفا أحدهم فلا قصاص ولو رفض الباقون، بينما توزع الدية بينهم بحسب أنصبتهم الشرعية دون إسقاط حق أحد بعفو الآخر.

وأشارت دار الإفتاء إلى أقوال العلماء في كفارة القتل الخطأ، فالكفارة عتق رقبة مؤمنة فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، واختلف الفقهاء فيمن عجز عن الصيام، فالجمهور على أنه لا إطعام عليه، وقول عند الشافعية يوجب الإطعام قياسا على غيره، والصواب التفصيل بين العاجز عجزا أبديًا فعليه الإطعام، والعاجز عجزا مؤقتا ينتظر قدرته، قياسا على أحكام صوم رمضان.

طباعة شارك تقسيم الدية دار الإفتاء الحكم الشرعي التقسيم الشرعي للدية

مقالات مشابهة

  • هل الخطيئة تورث من جيل إلى جيل؟.. علي جمعة يوضح
  • تحذيرات الشرع تهزّ المشهد.. هل تنجح سوريا في محاربة الفساد؟
  • لبنان وسيادته المنقوصة
  • عندما يصمت العقل
  • هل توزع دية الميت كميراث وما هي الطريقة الشرعية للتقسيم؟.. الإفتاء تجيب
  • إتجاهات زيارة الوفد السعودي: فصل السياسة عن الاقتصاد
  • صناديق الاقتراع ودهاليز السياسة.. العراقيون بين اليأس والأمل!
  • الممدانية وتجديد السياسة في العالم
  • تقرير صحافي: إسرائيل تتحضّر لعمل عسكري ضد حزب الله في بيروت والبقاع.. ومخاوف من التطورات في سوريا