جريدة الرؤية العمانية:
2025-11-16@19:05:34 GMT

عندما يصمت العقل

تاريخ النشر: 16th, November 2025 GMT

عندما يصمت العقل

 

 

 

محمد بن علي بن ضعين البادي

في عالم يزدحم بالضوضاء حتى غدت الحقيقة همسًا بالكاد يسمعه العقل، تقف المنصات الرقمية كوحوش إعلامية ضخمة تصنع للأمم ما يجب أن تنشغل به، وتمنح الناس ما يجب أن يفكروا فيه، ولو كان سرابًا. لم يعد الخطر في كثرة الأخبار؛ بل في مَن يتحكم ببوابة العقول، وفي مَن يدير هذا السيل الجارف من الرسائل التي تهز مشاعر الناس كل يوم، بينما تسرق منهم قدرتهم على التمييز شيئًا فشيئًا.

لقد أصبحت كثير من المواقع ليست منصات للمعلومة؛ بل ساحات كبرى لتوجيه الوعي الجمعي، وإغراق المجتمعات في دوامة مستمرة من الجدل، وتصعيد القضايا الصغيرة حتى تبدو وكأنها قدر محتوم، بينما القضايا الحقيقية تُدفع بعيدًا إلى آخر الصف، كأنها لا تستحق الضوء ولا السؤال. وهكذا، يتحول الإنسان من باحث عن المعرفة إلى متلقٍّ تُدار بوصلته من الخارج دون أن يشعر.

وفي خضم هذا الزحام، برز بعض المغرّدين الذين لا يزالون يكتبون عن أفكار تجاوزها الزمن، أفكار تركتها الأجيال منذ قرون لأنها لا تشبه واقعنا ولا تتناسب مع حياة اليوم. ومع ذلك، تتلقّف المنصات هذه التغريدات العتيقة كأنها اكتشاف جديد، وتدفعها إلى الواجهة بما تملكه من قوة الانتشار، فتزيد من ارتباك الوعي وتفتح أبواب الفتنة على مصاريعها.

والمواطن البسيط حين يقرأ مثل هذه الآراء التي لا تعكس واقعًا ولا تعالج مشكلة، يشعر بالتحفّظ ثم الضيق، ثم يتحول ذلك الضيق إلى حقد على الوطن والمسؤولين، ظنًا منه أن تلك الكلمات تمثل الحقيقة أو تكشف خللًا لم يُعالج، بينما هي في حقيقتها مجرد أصوات ماضوية أُعيد إحياؤها بلا وعي وبلا فهم.

والأدهى من ذلك أن صاحب تلك التغريدة لو طُلب منه أن يطبّق ما ينادي به على نفسه وعلى حياته ومعاملاته، لما قبل به لحظة واحدة، ولعرف أن ما يقوله لا يصلح لزمنه ولا يناسب واقعًا يتغير كل يوم. ولكن المنصات، في سعيها للجدل لا للحكمة، تجعل من هذه الأصوات الهشّة معاركَ رأي عام، وتدفع الناس لصراع لا يخدم إلا مَن أراد أن يبقى المجتمع مشغولًا بما لا يفيد.

في زمن أصبح فيه الخبر يسبق الواقع، والضجة تطغى على الحقيقة، تحولت المنصات الرقمية إلى مصانع للانشغال لا مصانع للوعي. لم تعد تلك المواقع تهتم بما يحدث فعلًا؛ بل بما يشغل الجمهور ويشعل النقاش ويثير الانفعال. تكبر التوافه حتى تبدو قضايا كبرى، وتختفي القضايا الكبرى تحت غبار التوافه.

إن أخطر ما تفعله هذه المنصات أنها لا تسرق وقت الإنسان فقط؛ بل تسرق اتجاهه. تدفعه ليتابع ما لا ينفع، وينشغل بما لا يضيف، ويغرق في تفاصيل صغيرة بينما تمر القضايا العميقة من أمامه كأنها لا تعنيه. إنها تصنع من اللاشيء معارك، ومن المعارك فتنًا، ومن الفتن انشغالًا جماعيًا يغرق فيه الجميع دون وعي.

المنصات التي تدرك قوة تأثيرها لا تعمل على رفع مستوى الناس؛ بل على رفع مستوى التفاعل. تعرف أن التفكير يقلل التعلّق، وأن الانفعال يزيده، ولذلك تُبقي المتابع في دائرة لا تنتهي من الغضب أو الفضول أو الخوف. وهكذا يصبح الإنسان مستهلكًا للضوضاء، لا باحثًا عن الحقيقة.

وعندما يتعود المجتمع على الأخذ دون تدقيق، وعلى التلقّي دون بحث، يصبح الطريق مفتوحًا أمام من يريد أن يصنع له وعيًا جديدًا لا يشبه واقعه ولا يخدم قضاياه.

إن الوعي اليوم لم يعد ترفًا؛ بل ضرورة للبقاء. وأعظم ما يمكن للإنسان فعله وسط هذا الصخب هو أن يحمي عقله من التشويش: أن يختار ما يسمعه، ويزن الأخبار بميزان الحكمة، وأن يدرك أن كثيرًا مما يمر أمامه ليس إلا دخانًا مقصودًا لإرباكه وصرفه عن الأسئلة الكبيرة.

وفي ختام هذا المشهد الصاخب، لا بُدّ أن نقولها بوضوح صارخ: إن هذه المنصات ليست مجرد مصادر خبر؛ بل مصانع أمراض. إنها تزرع القلق في صدور الناس، وتسكب السم في الوعي، وتدفع العقول إلى حافة الانهيار تحت وطأة السلبية والتحريض والتشويه. كل دقيقة يقضيها الإنسان بين تلك الصفحات السوداء هي دقيقة تُنتزع من صفاء روحه ومن استقراره الداخلي.

هذه المنصات لا تريد لك أن تفهم؛ بل تريدك أن تنفعل. لا تريدك أن ترى الحقيقة؛ بل تريدك أن ترى ما يصنع ضجّة. إنها تمتص طاقة الإنسان حتى آخر قطرة، ثم تتركه فارغًا، غاضبًا، حاقدًا، يائسًا، متلبّسًا بأوهام لا وجود لها إلا في غرف التحرير الملوّثة التي تصنع المحتوى لتشويه المجتمعات لا لبنائها.

ولذلك، فإن الحذر منها لم يعد خيارًا؛ بل ضرورة لحفظ كرامة العقل قبل صحة الجسد. الابتعاد عنها ليس انسحابًا؛ بل انتصارًا للنفس، والنجاة منها ليست هروبًا؛ بل صونًا للوعي وحماية للسلام الداخلي. فمَن أراد السلام، فليغلق باب هذه المستنقعات الرقمية، وليعرف أن من يترك نفسه لها خاضعًا، فإنه يقدم روحه قربانًا لمن لا يريد له خيرًا ولا استقرارًا.

إن أخطر ما ينتظرك خلف هذه الشاشات ليس خبرًا مزيفًا… بل نفسك حين تفقدها.

 

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

تهجير منظم.. رحلة غامضة من غزة تشعل غضب المنصات

أثار وصول 153 فلسطينيا إلى جنوب أفريقيا عبر رحلة غامضة موجة من الجدل والغضب على منصات التواصل الاجتماعي، وسط اتهامات بأن ما حدث يمثل جزءا من مخطط تهجير ممنهج لسكان قطاع غزة.

ووجد الفلسطينيون أنفسهم فجأة في مطار أور تامبو بجوهانسبرغ عاصمة جنوب أفريقيا، بعدما سجلوا للخروج من غزة عبر منصة مجهولة تدعى "المجد" دفعوا لها ما بين 1400 و2000 دولار للشخص الواحد، في صفقة تحولت إلى كابوس بالنسبة للكثيرين.

وتشير تقارير إسرائيلية إلى أن الرحلة انطلقت من رفح باتجاه معبر كرم أبو سالم، ثم نُقل الركاب بحافلات إلى مطار رامون بالقرب من إيلات جنوب إسرائيل، من دون أي معلومات واضحة عن الوجهة النهائية أو حتى موعد المغادرة إلا قبل 24 ساعة فقط.

وطُلب من المسافرين عدم إحضار أي حقائب سفر، قبل أن يصعدوا طائرة اتجهت بهم إلى العاصمة الكينية نيروبي دون أن تُختم جوازات سفرهم بالدخول أو الخروج من إسرائيل، في إجراءات غير اعتيادية أثارت الشكوك حول طبيعة هذه الرحلة.

ثم نُقل الفلسطينيون بعد ذلك إلى جوهانسبرغ عاصمة جنوب أفريقيا التي كانت محطتهم الأخيرة، حيث واجهوا مفاجأة صادمة عند الوصول لم يكونوا مستعدين لها، مما وضعهم في موقف قانوني معقد وغير واضح.

وحين وصلوا إلى جنوب أفريقيا، رفضت سلطات الحدود دخولهم لأن جوازات سفرهم لا تحمل الأختام المطلوبة، واضطروا للانتظار ساعات طويلة حتى مُنح 130 شخصا منهم الإذن بالدخول لمدة 90 يوما، فيما توجه 23 شخصا إلى وجهات أخرى كانت لديهم تأشيرات إليها.

وفتحت السلطات الجنوب أفريقية تحقيقا بشأن حيثيات هذه الرحلة المشبوهة، في محاولة لكشف الجهات التي نظمتها والأطراف المتورطة فيها، وسط تكهنات بأن هناك أجندات خفية وراء تسهيل هذا النوع من السفر للفلسطينيين.

وبعد السماح لهم بالدخول إلى جنوب أفريقيا، ظهرت مشاهد لاحتفال الفلسطينيين وفرحتهم بالوصول، وسط احتفاء من الناس بهم، رغم الظروف الغامضة التي أحاطت برحلتهم وما تعرضوا له من مشقة ومعاناة في المطار.

إعلان

وتحدث رئيس جنوب أفريقيا سيريل رامافوزا عما جرى، قائلا إن "هؤلاء الناس من غزة وبطريقة غريبة وُضعوا داخل طائرة مرت عبر نيروبي ثم جاءت إلى هنا"، مضيفا أنه قرر عدم إعادتهم إلى غزة بعد استشارة وزير الداخلية.

من جهتها، أكدت السفارة الفلسطينية في جنوب أفريقيا أن الفلسطينيين وصلوا دون إشعار أو تنسيق مسبق، وأن منظمة غير مسجلة استغلت الظروف الإنسانية وجمعت الأموال وسهّلت السفر بطريقة غير مسؤولة، ثم تنصلت من المسؤولية عند ظهور التعقيدات.

ورصد برنامج شبكات (2025/11/16) جانبا من التعليقات على وصول الفلسطينيين إلى جنوب أفريقيا بهذه الطريقة، حيث كتب ميشيل متهما إسرائيل بالوقوف خلف هذه العملية:

الحركة دي وراها إسرائيل، كل فترة هتعملها شركة تسفر ناس بمقابل وهتفرغ غزة من سكانها خلال كام سنة

بدورها، عبرت حلا عن استيائها مما وصفته بالخداع والفساد العلني، فغردت:

والله حرام اللي بيحصل في العالم المزيف الغادر ده، أصبح التعامل مع الخداع علنا بين الدول، أصبحنا نتعامل مع غير أمناء هما اللي مسيطرين، استسلام تام للفساد علنا

أما أبو أحمد فتساءل عن كيفية خروج الفلسطينيين من غزة، محذرا من السماح بتهجير الناس، فكتب:

كيف طلعتوا من غزة؟ نحن مع حق السفر ولكن يجب ألا نسمح بتهجير الناس، لأنه هذا مخطط

وحملت زهرة المسؤولية على من أرسل الفلسطينيين دون أوراق رسمية، مشيرة إلى أن هذا يخدم أهداف الاحتلال، فغردت:

اللي أرسلهم بدون أوراق رسمية للدخول ودون تنسيق أراد لهم الترحيل من وطنهم ودون رجعة، وهذا الشيء يسعى له الاحتلال

وذكرت وسائل إعلام إسرائيلية أن الحكومة سمحت لهؤلاء بالمغادرة بعد حصولهم على تأشيرة لدولة ثالثة، في تصريحات تحاول تبرير ما حدث وإضفاء الشرعية على هذه الرحلات الغامضة التي تثير الكثير من التساؤلات.

وليست هذه المرة الأولى، إذ وصلت قبل أسابيع رحلة مماثلة إلى جنوب أفريقيا بها 170 فلسطينيا، فيما تقول وسائل إعلام إن إسرائيل وافقت على أكثر من 95% من طلبات مغادرة سكان غزة، وهو ما يعزز المخاوف من وجود مخطط ممنهج لتفريغ القطاع من سكانه.

مقالات مشابهة

  • مكانة الكلمة وخطورتها
  • د. عادل القليعي يكتب: الذكاء الاصطناعي.. وحقوق الملكية الفكرية!
  • تهجير منظم.. رحلة غامضة من غزة تشعل غضب المنصات
  • لماذا يصمت السيسي عن تدخل الإمارات وحفتر في السودان وتهديد أمن مصر القومي
  • هل تشفي سورة الفاتحة من الأمراض؟.. دينا أبو الخير توضح الحقيقة| فيديو
  • الحقيقة في زمن الخوارزميات.. الإنسان بين الوعي والأتمتة.. قراءة في كتاب
  • العراق بعد أصوات الشعب: لحظة الحقيقة بين فوز السياسيين وتعب الناس
  • متى سيبقى عطرك عالقا بالأذهان؟
  • توضيح من المكتب الإعلامي في مشيخة العقل.. هذه تفاصيله