جريدة الرؤية العمانية:
2025-11-17@18:53:14 GMT

تحويل المعرفة إلى قوة استراتيجية

تاريخ النشر: 17th, November 2025 GMT

تحويل المعرفة إلى قوة استراتيجية

 

 

 

عاطف بن محمد الزدجالي 

 

الدبلوماسية ليست مجرد بدلة رسمية تُرتدى في المؤتمرات، ولا حضورًا بروتوكوليًا في قاعات الاجتماعات؛ بل غدت علمًا مركّبًا وفنًا استراتيجيًا يُدار بعقلية مُتقدمة لإدارة السياسة والاقتصاد برؤية مترابطة.

وفي قلب هذا التحول برزت حوكمة التدريب الدبلوماسي بوصفها المحرك الصامت الذي يصوغ شخصية الدبلوماسي، ويحول المعرفة الأكاديمية إلى قوة فاعلة في ميدان السياسة الخارجية التي تنقل الدبلوماسية من كونها ممارسة تقليدية إلى صناعة متكاملة، يتطلب نجاحها إعدادًا عميقًا قائمًا على رؤية استراتيجية تدريبية، تُترجم الفكر إلى مهارة، والمعلومة إلى قرار؛ فالتدريب الدبلوماسي اليوم لم يعد ترفًا مؤسسيًا؛ بل هو استثمار وطني في رأس المال البشري، واستثمار في صناعة العقول التي تمثل الدولة وتدافع عن مصالحها على الطاولة الدولية.

حوكمة التدريب ليست فكرة إدارية جامدة؛ بل هي منظومة فكرية تُعيد تعريف كيفية وجوب تعلم الدبلوماسي؟ وكيف ينبغي أن يُبنى وعيه تجاه العالم من حوله؟ فالدبلوماسي الناجح لا يُقاس بعدد محاضراته ولا بشهاداته العلمية والمهنية؛ بل بقدرته على التحليل والتفاوض واتخاذ القرار تحت الضغط، وهي مهارات لا تُكتسب إلا عبر منظومة تدريبية محكومة بالشفافية، والمساءلة، والتجديد المستمر. ومن المؤسف أن العديد من الدول ما تزال حبيسة النماذج القديمة التي تكتفي بمحاضرات جامدة وتمارين شكلية لا تصنع دبلوماسيًا؛ بل تُخرّج موظفًا لا يملك الأدوات للتعامل مع العالم الخارجي، بينما المطلوب اليوم أن تتحول قاعات التدريب إلى مختبرات حية، تُحاكي الأزمات الدولية وتُدرّب على إدارة المواقف والتفكير النقدي وصياغة المبادرات، في بيئة تُشجّع على النقاش وتحفّز الإبداع وتربط بين العلم والممارسة.

حوكمة التدريب تُعيد صياغة العملية التعليمية برمتها؛ لتجعل منها خريطة عمل ذكية تتتبَّع أثر كل دورة، وتقيس نتائجها على الأداء الفعلي للدبلوماسي في ميدان التفاوض السياسي، وهنا تتقدم التكنولوجيا لتكون شريكًا فاعلًا؛ إذ تتيح أدوات الذكاء الاصطناعي تحليل المواقف، ومحاكاة المفاوضات، وبناء قدرات اتخاذ القرار على أسس علمية، بهذه الطريقة يصبح التدريب ليس مجرد إعدادٍ للنخب؛ بل منظومة وطنية لبناء القوة الناعمة الصلبة لإعداد جيل جديد من السفراء، مزودين برؤى استراتيجية وقدرات عملية تُمكنهم من توجيه القرار الدبلوماسي ومواجهة التحديات العالمية بذكاء وفاعلية.

التدريب المنهجي لم يعد هدفًا بحد ذاته؛ بل أصبح منصة انطلاق لرأس مال بشري مؤهل، قادر على التحليل السياسي، وإدارة الأزمات، وصنع القرار الاستراتيجي. وهنا تتجلى قوة الحوكمة كخريطة طريق ديناميكية تضمن أن كل دبلوماسي متخرج من برامج التدريب الدبلوماسية يمتلك المعرفة المتكاملة والمهارات العملية لتعزز تأثيره على الساحة الدولية؛ فهي الآلية الاستراتيجية التي تحول الجهود التدريبية من مجرد أنشطة نظرية إلى قوة عملية فاعلة، قادرة على دعم السياسة مع ترجمة الأهداف الدبلوماسية إلى واقع ملموس، في حين تظل كثير من الدول رهينة برامج محدودة بعيدة عن إشراك الدبلوماسي كشريك فاعل في التقييم والتطوير كمتلقٍ سلبي للمعلومة.

لذا من المفترض أن تتحول قاعات التدريب إلى مختبرات استراتيجية تجمع بين مهارات التفاوض، وفنون إدارة الأزمات، وقدرات التحليل العميق للمتغيرات الدولية إلى جانب فهم معمّق للتنوع الثقافي والتواصل العابر للحدود باعتبارها منظومة تضع الدبلوماسية في سياقها الحديث؛ باعتبارها علمًا وممارسة، واستثمارًا مستدامًا في رأس المال البشري، يترجم قوة الدول الناعمة إلى حضور مؤثر ومستدام على المسرح العالمي السياسي.

حوكمة التدريب الدبلوماسي تتمثل في التخطيط الاستراتيجي الذي يُعنى بربط برامج التدريب باحتياجات السياسة الخارجية؛ ففي هذا المعيار لا مكان للعشوائية في إعداد الكوادر الدبلوماسية من خلال وضع خطة شاملة تحدد مسارات التعلم، والمهارات المطلوبة، والمخرجات المتوقعة؛ لتتحول كل ساعة تدريبية إلى قيمة مضافة في الأداء الخارجي، واستثمار استراتيجي في رأس المال البشري عبر تحويل التدريب إلى أداة تنفيذية عبر صياغة معايير دقيقة للاعتماد وأهداف قابلة للقياس والمتابعة، لبناء قدرات عملية مرتبطة بالمشاريع الدبلوماسية والتحديات الدولية. والغاية ليست مجرد إكساب المتدرب معرفته بالبروتوكولات فقط؛ بل لصياغة حلول عملية للتعقيدات الخارجية، وتمكينه من إدارة البيانات الضخمة وصياغة قرارات تعكس كفاءة الأداء على أرض الواقع، وفهم التنوع الثقافي، وقراءة الاتجاهات العالمية مع القدرة على التخطيط الاستباقي لمواجهة السيناريوهات المعقدة قبل وقوعها.

والاستثمار في الحوكمة الدبلوماسية هو استثمار في قوة الدول؛ فهي ليست خيارًا ثانويًا، وليست مجرد رفاهية فكرية أو نظرية أكاديمية؛ بل صُنعت لخلق جسور بين المعرفة الأكاديمية والممارسة العملية؛ فهي المؤثرة الذكية في مجريات الأحداث على الساحة الدولية من خلال توظيف الابتكار والتقنيات التي حولت رأس المال البشري إلى قوة وطنية استراتيجية قادرة على حماية المصالح السياسية؛ لتتحول الدبلوماسية من أداء بروتوكولي إلى ركيزة أساسية في قوة الدول الناعمة وصلابتها الاستراتيجية؛ ليصبح كل دبلوماسي مجهزًا للقيادة، وكل دورة تدريبية منصة لتطوير القدرات المؤسسية، وكل مهارة مكتسبة أداة لتحقيق الأهداف.

ولأن الجودة لا تُقاس بالكمّ؛ فالعالم لا ينتظر، والمشهد الجيوسياسي يتغير باستمرار، ولتطبيق ما سبق يمكننا بناء بيئة تدريبية تجريبية لمدينة دبلوماسية، تضم سفارات افتراضية لدول حقيقية، تُدار من المتدربين، ويعيش فيها المتدرب كممثل للدولة وفق سيناريوهات واقعية بتكليفه بإدارة ملفات سياسية واقتصادية وثقافية مع ظهور مفاجئ لأزمات يتم توليدها عشوائيًا كأزمة سياسية، أو انهيار تفاوض، أو تسريب سياسي، أو نزاع حدودي، وتُصمَّم برامجها بأسلوب التعلّم بالممارسة المطبقة في مختبر للمحاكاة الدبلوماسية؛ لتدريبه على تحليل الملفات السياسية، وعلم النفس التفاوضي، والدراما الدبلوماسية للقدرة على قراءة المشهد الدولي، ومعرفة تحليل لغة الجسد، ونبرة الصوت، وأسلوب الخطاب أثناء التدريب، والاتصال عبر الثقافات؛ لفهم العلاقات المعقدة بين القوى الكبرى؛ لاكتشاف نقاط القوة والضعف في شخصية المتدرب بدقة، ولتصبح الدبلوماسية مزيجًا من العلوم لا علمًا واحدًا من خلال تقييم أدائهم مع ربط مسار الترقي الوظيفي بالتأهيل المهاري لا بالأقدمية. والترقية يجب أن تُمنح بناءً على كفاءة الدبلوماسي في إدارة الملفات الدولية، بحيث يتحول التدريب من مهمة أكاديمية إلى أداة لصناعة القرار الوطني.

وكل دبلوماسي مدرّب جيدًا يُعد مشروع نفوذ، وكل دورة نوعية هي خطوة نحو حضور دولي أكثر ثقة وتأثيرًا؛ فالحوكمة هنا تحول التدريب إلى مختبر وطني للذكاء الدبلوماسي، وتنقل الدبلوماسية من مجرد التمثيل إلى صناعة النفوذ الوطني الذكي؛ باعتبارها أداة وخريطة استراتيجية قادرة على تحويل المعرفة إلى نفوذ، والمهارة إلى قوة، والفكر إلى حضور ملموس على المسرح الدولي، وخيارًا استراتيجيًا للدول التي تدرك أن قوتها لن تُقاس بعدد جيوشها؛ بل بقدرة الدبلوماسيين على قيادة الحوار العالمي بعقل واعٍ ومهارة متجددة؛ فهي الهندسة الوطنية للقوة الناعمة، والصانعة للعقول التي ترسم ملامح المستقبل السياسي والاقتصادي للأمم.

** باحث دكتوراه في العلوم القانونية والاقتصادية

** الأمانة العامة لمجلس التعاون لدول الخليج العربية

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

سفراء اليمن يطلقون نداء استغاثة ويحذّرون من انهيار البعثات الدبلوماسية

وجّه عدد من سفراء الجمهورية اليمنية في الخارج رسالة عاجلة إلى رئيس مجلس القيادة الرئاسي رشاد محمد العليمي، ورئيس مجلس الوزراء ووزير المالية سالم صالح بن بريك، ووزير الخارجية وشؤون المغتربين د. شائع محسن الزنداني، محذرين من الوضع "الحرج والخطر" الذي وصلت إليه البعثات الدبلوماسية اليمنية نتيجة انقطاع المرتبات والموازنات التشغيلية منذ أشهر طويلة.

 

وأوضح السفراء في رسالتهم أن البعثات الدبلوماسية دخلت الشهر الثامن عشر بدون مرتبات للدبلوماسيين، والشهر الثاني عشر بدون رواتب للموظفين المحليين، إضافة إلى غياب الميزانيات التشغيلية لما يقارب ثلاثة أرباع العام، الأمر الذي أدى إلى تعطل العمل الدبلوماسي في عدد من السفارات، وإغلاق بعضها فعليًا، بينما تواجه أخرى قضايا قضائية بسبب عدم الوفاء بالتزاماتها تجاه الموظفين المحليين.

 

وأشار السفراء إلى أن بعض السفارات أصبحت عاجزة حتى عن تسديد فواتيرها الضرورية، وأن عددًا من الموظفين المحليين غادروا أعمالهم ولجأوا إلى رفع دعاوى في المحاكم أو إلى وزارات الخارجية في دول الاعتماد، مما تسبب في إحراج بالغ للدولة اليمنية وممثليها.

 

وأكدت الرسالة أن منتسبي السلك الدبلوماسي ظلوا يؤدون واجبهم الوطني "دفاعًا عن الشرعية والجمهورية"، رغم تأخر صرف مستحقاتهم منذ سنوات، مشيرين إلى أن رواتب الدبلوماسيين اليمنيين تعد "الأقل على مستوى العالم"، إلا أن تفاقم الأزمة المالية أصبح يهدد استمرار عمل البعثات ويمس بصورة اليمن في الخارج.

 

وشددت الرسالة على إدراك السفراء الكامل للتحديات المالية التي تمر بها البلاد، غير أنهم أكدوا أن العمل الدبلوماسي يمثل إحدى ركائز الدولة اليمنية ورافعة الشرعية في المحافل الدولية، ما يستدعي تحركًا عاجلًا لإنقاذ هذا القطاع الحيوي قبل أن تتفاقم تداعياته.

 

وختم السفراء رسالتهم بالتعبير عن ثقتهم الكبيرة في قيادة الدولة، وأملهم في سرعة الاستجابة لما تضمنته الرسالة من تنبيهات ومقترحات "صونًا لاسم اليمن وحفاظًا على حضورها الدولي".

 

وفي تعليقٍ على الوضع، قال خبير دبلوماسي يمني سابق إن استمرار الأزمة المالية بهذا الشكل يهدد بفقدان اليمن لقدراتها الدبلوماسية في الخارج، مشيرًا إلى أن "البعثات التي تتوقف عن أداء مهامها لفترة طويلة يصعب إعادة تشغيلها بالزخم ذاته، لأن العلاقات الدبلوماسية تقوم على التواصل المستمر والالتزامات المتبادلة".

 

وأضاف الخبير أن "تراكم القضايا المالية وعدم الوفاء بالمستحقات يضعف ثقة الدول المضيفة في مؤسسات الدولة اليمنية، ويؤثر على سمعة السلك الدبلوماسي الذي كان يمثل تاريخيًا واجهة اليمن السياسية والثقافية"، مؤكدًا أن "استعادة فاعلية البعثات بعد هذه الفترة الطويلة من الجمود ستكون مهمة شاقة تتطلب إرادة سياسية عاجلة ومعالجات مالية مدروسة"

مقالات مشابهة

  • غوتيرتش يدعو إلى تحويل وقف إطلاق النار بغزة سلام دائم
  • 25 دولة تستأنف عملها الدبلوماسي في طرابلس
  • الدبلوماسية الأردنية نحو الشرق: قراءة في أبعاد الجولة الملكية الآسيوية
  • في حضرة بائع الكتب
  • قمة المناخ الثلاثون: تحويل الوعود الخضراء إلى واقع
  • محمد كمال: نعمل على تعزيز دور الدبلوماسية لخدمة الاقتصاد
  • خبرٌ عن تحويل الأموال في لبنان.. ما الجديد؟
  • امتناع روسي صيني عن التصويت على قرار تمديد العقوبات الدولية ضد اليمن
  • سفراء اليمن يطلقون نداء استغاثة ويحذّرون من انهيار البعثات الدبلوماسية