في حضرة بائع الكتب
تاريخ النشر: 16th, November 2025 GMT
عاش على الورق ومات في زمن «الشيخ جوجل»
د. مجدي العفيفي
(1)
لحظة شجن ودمعة ساخنة سقطت على صوت وصورة رجل بسيط باع المعرفة واشترى الحزن
كأنها تنهيدة من قلب؛ حيث تتقاطع الذكرى مع الملامح الباهتة على شاشة، ورجفة الحنين تشق صمت الليل في صورة رجل لم يكن يعلم أنه سيصير وجعًا نقيًا كهذا.
مساءٌ تُضيئه دمعة.
رأيتهُ فجأة، رجلًا لا يزاحم الصور في الواجهة، لا يطلب من الحياة أكثر من ظلّ حائط ومنديلٍ نظيف.
لكن صوته؟
كأنّ فيه خشوع الحكايا، كأنّ فيه من دفء الأمهات حين يتعب الكون.
كان يبتسم، ابتسامة واهنة، كأنها تعتذر عن الفقر، وتُبرّر التعب، وتُقاوم الرحيل...
وأنا، من زاويتي البعيدة، لم أملك إلا دمعة، سقطت على صورته، فغسلت عنها الغبار وعلّمتني أن العظمة لا تصرخ، بل تهمس.
رجلٌ بسيط، لكن مروره في حياتي لحظة... وكل اللحظات بعده شبيهة بالعدم.
(2)
في زاوية منسية من المدينة، جلس رجلٌ عجوز، لا يحمل لافتة ولا يصرخ بنداءات تجارية، بل يحمل قصيدة... قصيدة تشبه قلبه، وتكاد تبكي إن قرأتها بصمت.
هو ليس مجرد بائع كتب، بل آخر القلعة.
ذلك الذي ظلّ واقفًا في متجرٍ من ورق وهو يرى جدران المعرفة تتداعى أمام مدّ الميديا العاصفة، والمارة يركضون خلف وهم السرعة، تاركين وراءهم الزمن الجميل مطويًا بين دفّتي كتاب.
هذا المشهد الذي التقطته كاميرتي، لم يكن صورةً عادية... لمهنةٍ حملت الفكر على أكتافها، ورجل عاش عمره يطعم أسرته من بيع الكتب، وها هو الآن يجلس أمامها وكأنها أيتام فقدوا أهلهم، ينظر إليها كما ينظر الأب لطفله المريض، ويكتب بدمعته لا بقلمه:
"مَنْ يَشْتَرِي مِنِّي تُرَاثَ المَعْرِفَة
سَأَبِيعُها حَقًّا بِأَدْنَى تَكْلِفَةٌ"
كلمات تتقطّر وجعًا، لا لأنه يريد أن يبيع، بل لأنه يُجبر على البيع، لا لأنه ملّ من الكتب، بل لأن الحياة ملّت من القرّاء.. القصيدة: نعيٌ لا للكتب فقط، بل لزمنٍ بأكمله:
مَنْ يَشْتَرِي مِنِّي تُرَاثَ المَعْرِفَة
سَأَبِيعُها حَقًّا بِأَدْنَى تَكْلِفَةٌ
فَلَقَدْ مَضَى أَهْلُ المَعَارِفِ وَانْتَهَوْا
وَسَيْمَتُ مِنْ نَفْسِي عَلَى هُذِي الصَّفَةُ
الجيل مُتَّجه إلى ما قد أتى
عَنْ شَيْخِ عَصْرِ اللكْتُرُونِ وَمَوْقِفَهُ
هُوَ (جُوجُلٌ ) شَيْخُ الزَّمَانِ وَمَنْ لَهُ
أَثَرٌ عَلَى جِيلِ الثَّقَافَةِ وَالسَّفَه
كُتُبِي تَرَاكَمَتِ العَناكِبُ حَوْلَها
وَتَحَلَّلَتْ وَرَقاً كَمِثْلِ الْأَغْلِفَة
وَغَدَوْتُ أَبْحَثُ عَنْ حَصِيفٍ رَاغِبٍ
يَأْتِي إِليَّ مُسَلِّما كَيْ أُنْحِفَهُ
خذ صورتي فَلَعَلَّ مَنْ يَدْرِي بِمَا
تَحْوِيهِ مَكْتَبَنِي فَيُثْنِي مِعْطَفَهُ
وَيَمُدَّ لِي كَفاَّ بِمَالٍ يَشْتَرِي
كُتُبِي.. فأنقذ أسرة متعففة
(3)
هذا ليس مجرد نص.. هذا وجع يُتلى كما تتلى الفاتحة على مهنة تحتضر..
وهذا الرجل؟ هو آخر الجنود في معركة خاسرة، حامل لواءٍ مُمزق، فوق أرضٍ لم تعد تُصغي لنداء الحبر ولا لأنين الورق.
فلنكتب لمشهد بائع الكتب الحزين وقصيدته تحليلاً لا يخون دمعته... ولا يخذل صوته المخنوق، الذي صاغه الشاعر الحبيب أبو بكر العدني ابن علي المشهور
في لقطة واحدة، تتكثف مآسي الحبر كلّها.. رجلٌ فقير، يبيع الكتب منذ صباه، لا يعرف من الدنيا إلا حروفًا نائمة على رفوف، كان يحلم أن يكون جسرًا يعبر عليه الناس نحو النور، فصار جالسًا على أطلال مملكته الورقية، ينعي عصرًا أدار له الجميع الظهر.
إنّه "بائع الكتاب" لا مجرد بائع، بل آخر الحالمين، من يؤمن أن الكلمة ليست تجارة، بل حياة، وأن الورقة ليست سلعة، بل جسد لروح مؤلفٍ بكى ليكتب.
قصيدته تنزف بأسى شفاف، ينهار فيه التاجر والمثقف والإنسان في آن.
يقول بصوت يتهدّج تحت وطأة القهر:
"مَنْ يَشْتَرِي مِنِّي تُرَاثَ المَعْرِفَة
سَأَبِيعُها حَقًّا بِأَدْنَى تَكْلِفَةٌ"
هو لا يساوم على قيمة، بل يتنازل عنها.. لأن الجوع أقسى من الكرامة، ولأن أطفاله لا يفهمون ما يعنيه أن تحتضن مكتبتك آلاف الكتب ولا تجد رغيفًا.
ثم تلك الصرخة المهزومة:
"فَلَقَدْ مَضَى أَهْلُ المَعَارِفِ وَانْتَهَوْا"
يا لهذا السطر… كأنه مرثية لجيل بأكمله.
انتهى زمن "أهل المعارف" وكأنهم قبيلة عريقة انقرضت،
وتركوا خلفهم هذا الشيخ البائع يناجي ظلالهم.
ثم ينعطف على جرحه الأكبر… التكنولوجيا:
"الجيل مُتَّجه إلى ما قد أتى عَنْ شَيْخِ عَصْرِ اللكْتُرُونِ وَمَوْقِفَهُ
هُوَ (جُوجُلٌ) شَيْخُ الزَّمَانِ وَمَنْ لَهُ
أَثَرٌ عَلَى جِيلِ الثَّقَافَةِ وَالسَّفَة"
يا له من توصيف لاذع.. فـ"جوجل" صار "شيخ الزمان"، مرجع هذا الجيل في كل شيء، بكل سرعة، بلا ذاكرة، بلا صبر، بلا عشق لصفحةٍ تُقلب.
وكأن القصيدة تصرخ: من هذا الشيخ الرقمي الذي خطف أولادي من كُتبي؟ من هذا الذي علّمهم أن المعرفة ليست رحلة، بل نقرة واحدة على محرك بحث؟"
هُوَ (جُوجُلٌ) شَيْخُ الزَّمَانِ وَمَنْ لَهُ"
هذا ليس مجرد وصف عابر، بل استعارة محمّلة بكل السخرية، والحسرة، والدهشة من الزمن الجديد.
في السابق، كان «الشيخ» هو صاحب العلم، صاحب المرجعية، الحكيم الذي يُقصَد، ويُوقّر، ويُجلّ.
واليوم؟ صار «جوجل» هو الشيخ..
شيخ بلا لحية، بلا مذهب، بلا قلب.
شيخ يعرف كل شيء، ويُعطيك الجواب دون أن يسألك عن نيتك، أو يطالبك بالسعي، أو يحثك على الفهم.
يعطيك الجواب فقط... لا المعرفة.
بل لاحظ الدهشة المضمَرة في قوله:
«وَمَوْقِفَهُ... هُوَ جُوجُلٌ شَيْخُ الزَّمَانِ وَمَنْ لَهُ؟»
«ومَن له؟»
أي من يستطيع أن ينافسه؟ من يقف في وجهه؟
كأنه يقول: استسلم الناس لشيخه، وبايعوه، وانتهى زمننا نحن.
(4)
هذا البائع يرى أن جوجل انتصر.
لا لأنه الأفضل، بل لأنه الأسرع.
بينما كتبه، المكدسة في الزاوية، كانت تتطلّب جهدًا، عشقًا، وقتًا، وأدبًا في الطلب..
أما شيخ الزمان الإلكتروني؟ فهو مجرد سؤال يُرمى في الفراغ، وجواب يُرمى في الدماغ، ثم يُنسى.
ويا لروعة المفارقة، ووجعها، حين تأتي من رجل لا يعرف التسويق ولا الخوارزميات،
لكنه يعرف أن الكتب تُهان، والذاكرة تُختصر، والشيخوخة لم تعد تُحترم... إلا إن كانت اسمها «جوجل».
أما المشهد الأكثر مرارة:
"كُتُبِي تَرَاكَمَتِ العَناكِبُ حَوْلَها
وَتَحَلَّلَتْ وَرَقاً كَمِثْلِ الْأَغْلِفَة"
ما أقسى هذا التصوير...
كأن الزمن انتقم من الكتب، تركها تنهار ببطء، في عزلة، تحت غبار الخيبة، لا أحد يمد يده ليمسح عنها الغبار… أو ليقرأها حتى.
(5)
وفي النهاية، كرامته تأبى أن يتسوّل، لكنه يصرخ بإباء مكسور:
"خذ صورتي فَلَعَلَّ مَنْ يَدْرِي بِمَا
تَحْوِيهِ مَكْتَبَنِي فَيُثْنِي مِعْطَفَهُ"
كأن الصورة آخر رجاء له.. صورة رجل لا يريد صدقة، بل صفقة عادلة:
اشتروا كتبي.. أنقذوا أسرتي.. واحترموا ما كتبه هؤلاء الموتى الذين يسكنون رفوفي.
في قصيدته، يصرخ الرجل بصوت جيل من المنسيين،
من كل بائع كتب في الأزقة القديمة، من كل مكتبة أُغلقت، من كل مؤلف مات ولم يُقرأ.
إنه يكتب لا ليُباع، بل ليُفهم، يئنّ لا ليُعطف عليه، بل ليُحترم.
قصيدته مرآة زمن تغيّر، وصوت حيّ لم يمت بعد.
صوت علينا أن نُبقيه حيًا.. ولو بكلمة.!!.
ترى.. ماذا تبقى لنا؟
قصيدة بائع الكتب ليست مجرد كلمات حزينة.. إنها صفعة لضميرٍ ثقافي نائم، وجرس إنذار لنا جميعًا.
هل ما زلنا نؤمن بالكتاب؟
هل نرى في الورقة شيئًا يستحق الحفظ والتقدير؟
أم أننا رضينا أن تكون الذاكرة «سحابية»، والعلم «مختصرًا»، والثقافة «مفلترة» حسب «الترند»؟
ذلك البائع هو المرآة.
وفي مرآته نرى أنفسنا، نرى السؤال: ماذا سنفعل حين تختفي آخر مكتبة صغيرة؟
من سيكتب القصائد حين لا يجد من يقرؤها؟
ومن سيشتري الكتب.. إن لم نعد نحب أن نلمسها؟
إنها ليست قصيدة رجلٍ حزين فقط، بل قصيدة مرحلة كاملة تنهار تحت عجلات السرعة، مرحلة كانت المعرفة فيها تُطلب في المكتبات، لا في محركات البحث.
وقد حان الوقت... أن نمدّ لهذا البائع يدًا لا تشترى فقط، بل تُعيد الإيمان بأن الحبر ما زال حيًا، وأن الورق لم يمت بعد.
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
بابا الفاتيكان يستقبل نجوما من هوليوود
استقبل البابا ليو الرابع عشر، بابا الفاتيكان، اليوم السبت، مجموعة من كبار الممثلين وصناع السينما في هوليوود.
وقال البابا إن دُور السينما تواجه صعوبات في البقاء، مؤكدا ضرورة بذل مزيد من الجهود لحمايتها والحفاظ على تجربة المشاهدة المشتركة للأفلام.
وأضاف ليو الرابع عشر، وهو أول بابا أميركي، أن السينما "ورشة عمل حيوية للأمل" في وقت يتسم بعدم اليقين العالمي وبضغط رقمي زائد. وتابع "تشهد دور السينما تراجعا مقلقا، حيث يتم إزالة العديد منها من المدن والأحياء".
وأضاف "يقول البعض إن فن السينما والتجربة السينمائية في خطر. أحث المؤسسات على عدم الاستسلام، بل على التعاون في تأكيد القيمة الاجتماعية والثقافية لهذا النشاط".
ولا تزال إيرادات شباك التذاكر في العديد من الدول أقل بكثير من مستويات ما قبل جائحة كوفيد-19، إذ شهدت دور العرض في الولايات المتحدة وكندا أسوأ موسم صيفي منذ عام 1981، مع استثناء احتساب فترة الإغلاق خلال الجائحة.
وقال ليو إن السينما، التي تحتفل هذا العام بمرور 130 عاما على نشأتها، تطورت من مجرد لعبة بين الضوء والظل إلى فن قادر على الكشف عن أعمق أسئلة الإنسانية.
وأضاف "السينما ليست مجرد صور متحركة، بل هي إحياء للأمل"، مشيرا إلى أن دخول قاعة العرض "أشبه بعبور عتبة جديدة"، حيث يتسع الخيال ويصبح حتى الألم قادرا على اكتساب معنى مختلف.
كما شجع البابا الفنانين على التحلي بالصدق والنزاهة لدى تناولهم لقضايا العنف والحروب والفقر والوحدة قائلا إن السينما الجيدة "لا تستغل الألم، بل تقر به وتسعى لاستكشافه".