الجزيرة:
2025-11-19@10:46:00 GMT

السلطة الفلسطينية في امتحانها الثاني

تاريخ النشر: 19th, November 2025 GMT

السلطة الفلسطينية في امتحانها الثاني

لم يعد يُؤتى على ذكر السلطة الفلسطينية من دون استدراكات تتصل حصرا بـ"الإصلاح"، ولم يعد إصلاح السلطة شأنا وطنيا فلسطينيا خالصا، بل بات متطلبا دوليا، مدعوما بكتلة عربية وإسلامية، أو بلغة أخرى، لقد تم "تدويل" قضية الإصلاح و"تعريبها" و"أسلمتها"، ما يدفع بالسلطة إلى تقديم "أولوية الإصلاح" على ما عداها من أولويات تحفل بها أجندتها.

ولسنا نأتي بجديد، إن نحن قلنا إن إصلاح السلطة احتل مكان الصدارة في أولويات الشعب الفلسطيني وقواه الوطنية والمدنية منذ نشأتها قبل أزيد من ثلاثين عاما، واشتدت الحاجة الوطنية لإنجاز هذا الملف المُستعصي في السنوات الأخيرة، بعد أن تفشت مظاهر الفساد والإفساد في أوساطها، وأخذت تُضعف دورها وأداءها، وتهدد مكانتها المتآكلة أصلا بفعل الصلف الإسرائيلي، وبعد أن بات ملف "التوريث" و"الخلافة" حاضرا بقوة في مختلف الأروقة ذات الصلة خلال الأعوام القليلة الفائتة.

بين إصلاح وطني، وآخر دولي

بين إصلاح وطني، مطلوب من قبل قاعدة واسعة من الشعب الفلسطيني بكل مكوناته وكياناته، وآخر محكوم بـ"دفتر شروط" أميركية-إسرائيلية، ثمة بون شاسع.

هذا لا يشبه ذاك، وكل منهما يضع القضية والمشروع الوطنيين الفلسطينيين في اتجاهين مختلفين، وعلى سكتين متعاكستين.. السلطة رفضت الأول برغم النداءات والمطالبات المتكررة، بيد أنها اليوم، تغذ الخطى لإنجاز أجندة الثاني وعناوينه، كارهة أم طائعة، لا فرق، فالملف برمته، لم يعد بيدها، وكل خطوة تخطوها، باتت تخضع لرقابة دولية لصيقة وكثيفة.

بين إصلاحين

ليس كل "إصلاح" يجري الحديث عنه إصلاحا. بعض حديث الإصلاح، ظاهره فيه الرحمة، وباطنه فيه الخراب.

البرنامج الوطني للإصلاح يضع نصب عينيه، وفي صدارة أولوياته، إعادة بعث وتجديد منظمة التحرير الفلسطينية بوصفها الممثل الشرعي لشعب فلسطين، على أسس وطنية- ديمقراطية، تعددية، تمثيلية، تجمع الكل ولا تستثني أحدا، وبصورة عابرة لحدود الجغرافيا، والأيديولوجيات، والأجيال، والانتماءات السياسية، ودائما على قاعدة وحدة الشعب والأرض والقضية ووحدانية التمثيل.

إعلان

البرنامج الدولي للإصلاح لا يرى سوى السلطة، ويستبدلها بالمنظمة، هي المبتدأ وهي الخبر، حتى وإن لم يُنص على ذلك صراحة، مختزلا الشعب الفلسطيني في مختلف أماكن تواجده، في "شعب الضفة وغزة"، أو من تبقى منه، ناجيا من مؤامرة التهجير والتفريغ، التي وإن تعثرت، إلا أنها لم تُهزم بعد.

البرنامج الوطني للإصلاح يضع في صدارة أهدافه، تعزيز صمود الفلسطينيين على أرضهم وفوق ترابهم الوطني، بوصفهم كتلة فاعلة في مقاومة الاحتلال والاستيطان والفصل العنصري، وعقلية الإلغاء والإبادة، فيما البرنامج المفروض دوليا، يسعى في إعادة إنتاج وتعميم مشروع "الإنسان الفلسطيني الجديد" للثنائي توني بلير والجنرال كيت دايتون، أو "الإنسان ذي البعد الواحد"، الذي لا يرى مستقبلا خاصا لنفسه بعيدا عن التبعية الذيلية والذليلة لكيان الاحتلال، الإنسان الذي يرى في عدوه مشروع حليف، وفي "ابن جلدته" مشروع تهديد.

البرنامج الوطني للإصلاح يريد للنظام الفلسطيني أن يتجدد ويتشبب، ولشرعيته أن تُستعاد عبر صناديق الاقتراع، في الداخل وكل مكان في الخارج أمكن فيه لهذه الصناديق أن تستقبل أصواته وأوراقه.

أما البرنامج الآخر، فلا مطرح للانتخابات على رزنامته، إلا إذا ضمن اللاعبون الكبار والصغار بأنها ستأتي بمن هم على صورة السلطة اليوم وشاكلتها.

وأما حديث أركان السلطة عن انتخابات بعد عام من وقف الحرب على غزة، فلم يُقنع غالبية الفلسطينيين بجديته وجدواه، ورأت فيه ذرا للرماد في العيون، وتوطئة لتحويل "المؤقت" من ترتيبات انتقال السلطة إلى "دائم"، ما دامت "القوانين بمراسيم"، تضمن استمرار مسار "التكيف" مع الإملاءات الأميركية، وتستجيب لمقتضيات ما يمكن وصفه بـ"الوكالة الفرنسية" لبرنامج الإصلاح ومشروع "الدستور الجديد".

البرنامج الوطني للإصلاح يسعى في بناء "اقتصاد صمود- مقاوم"، يعزز من جهة هدف إبقاء الفلسطينيين فوق ترابهم الوطني، ويعزز روح انتمائهم لأرضهم وزيتونهم وقراهم.

فيما البرنامج الدولي للإصلاح، يسعى في إقامة أنماط اقتصادية استهلاكية تابعة، كفيلة بإخضاع جيل من الفلسطينيين لعبودية المصارف والأقساط والكمبيالات، حتى لا يخرج من بينهم من يفكر بقذف الاحتلال بحجر.

تلكم هي الخلاصة التي توصل إليها بلير-دايتون من تجربة ما بعد الانتفاضة الثانية، وقبل ظهور "جيل زد" من أبناء الضفة الغربية وبناتها.

البرنامج الوطني للإصلاح يضع في صدارة أولوياته، صون الرواية التاريخية للشعب الفلسطيني وضمان تفوق "سرديته"، كما حصل بفعل الطوفان، وينشئ ما يكفي من المؤسسات، ويخصص ما يلزم من موازنات، لتحقيق هذه المهمة.

فيما البرنامج الدولي للإصلاح، يضع في صدارة أولوياته، تفريغ الذاكرة، وإعادة صوغ الرواية الفلسطينية، والاعتداء على كِتابنا المدرسي وأهازيج أمهاتنا، ودائما بذريعة مكافحة خطاب الكراهية والتحريض على العنف.

وإذا كان شهداء الشعب الفلسطيني وأسراه، هم أعمدة السردية الفلسطينية، ومفاتيح الذاكرة الجمعية لشعب فلسطين، واستحقوا لذلك مكانة مرموقة في عقول وقلوب وضمائر أبناء شعبهم وبناته، فإن البرنامج الدولي للإصلاح، يخصص أولوية متقدمة لحملات شيطنتهم، ووسمهم بالإرهاب، وإسقاطهم من ذاكرة شعبهم ووجدانه، بل وجعلهم "عبرة لمن اعتبر".

بين إصلاح وطني مطلوب، وآخر محكوم بدفتر شروط دولي، تمضي السلطة في طريق لا يشبه طموحات شعبها، بل يعيد إنتاج أزماتها

تجريب المُجرب

السلطة رفضت الاستجابة للنداءات الوطنية والشعبية للإصلاح، وأدارت ظهرها لكل من نادى بها، بل وسعت إلى شيطنة هؤلاء ونعتهم بشتى الأوصاف والاتهامات.

إعلان

وبدل الشروع في ترجمة أجندة مستحقة وطنيا، تسارع اليوم للاستجابة إلى مندرجات برنامج دولي للإصلاح، تنظر غالبية شعبها إليه نظرة شك وريبة واتهام.

والمؤسف أن السلطة اليوم، تكرر ما فعلته بالأمس دون جدوى، فقد سبق لها أن خضعت لبرنامج مماثل بعد اغتيال أول رئيس لها: ياسر عرفات، ومرت بمخاض شبيه، وبقيادة نفس الوجوه والشخصيات الدولية، أو من هم على صورتهم وشاكلتهم. قدمت كل شيء في سنوات ما بعد الانتفاضة، ولم تحصل على شيء في المقابل، سوى تآكل "سلطتها" و"مكانتها"، وعودة الفساد للتفشي في أوساطها، وانفضاض حاضنتها الشعبية من حولها.

قبل عشرين عاما، مرت السلطة بالمخاضات ذاتها، وسط موقف دولي وإقليمي أفضل، وقبل أن يأتي ترامب في ولايتيه: الأولى والثانية، ليقلب المشهد رأسا على عقب، وقبل أن تتمكن الفاشية من الإمساك بتلابيب الدولة والمجتمع الإسرائيليين. ومع ذلك، لم تفضِ الإصلاحات المفروضة من الخارج إلى تحقيق الحلم بالانتقال من السلطة إلى الدولة.

صحيح أن طوفان الأقصى استحدث زخما دوليا مواتيا لفلسطين وحقوق شعبها وروايتها، بيد أن الصحيح كذلك، أن لا واشنطن ولا تل أبيب، بوارد الاتساق مع هذه الانقلابات في المشهد الدولي.. فيما الوضع العربي، يزداد ضعفا وخذلانا، فما الذي يجعل السلطة تعتقد أن حظوظها هذه المرة، ستكون أفضل بكثير من حظها في الجولة السابقة؟

وهل تكفي جملة ملتبسة في مبادرة ترامب وقرار مجلس الأمن الأخير، حول مسار لدولة وتقرير المصير، حتى يجري التبشير بأن الدولة باتت على مبعدة عامين أو ثلاثة، وأن مزيدا من التكيف والتساوق مع الإملاءات الدولية، من شأنه تسريع الولادة؟

أخطر ما في المقاربة الرسمية الفلسطينية (والعربية عموما)، أنها تشف عن استعداد لتقديم الأثمان مقدما وبالجملة، قبل التأكد من جدية الطرف الآخر في "تسليم البضاعة".. لقد باعونا البضاعة الكاسدة ذاتها، مرات ومرات، وقبضوا الثمن، دون أن يتقدموا خطوة جدية واحدة على طريق التسلم والتسليم.

اليوم، يجري تسويق محاولات تجريد الشعب من مقاومته، والمقاومة من أسنانها وأنيابها، وإسقاط الحواجز في وجه تطبيع الوجود الإسرائيلي في المنطقة، نظير "وعد ترامب" بأن يأخذ بعين العطف تطلعات الفلسطينيين للدولة وتقرير المصير.

في أزمنة كان فيها الموقف الأميركي أكثر وضوحا لجهة القبول بالدولة، وقبلها "ورقة كلينتون غير الرسمية"، ومعاييره لحل قضايا الوضع النهائي، بما فيها قضية القدس واللاجئين، وفي زمن أُجبر فيه نتنياهو شخصيا على الاعتراف بـ"حل الدولتين" في خطاب "بار إيلان"، وبعد ذلك في خريطة الطريق والرباعية الدولية، وقبل انطلاق مسار التطبيع الأبراهامي.. في تلك الأزمنة، لم يفِ هؤلاء جميعا بوعدهم، بتمكين الشعب الفلسطيني من دولته، فلماذا الاعتقاد بأنهم سيفعلون ذلك هذه المرة؟ أهو خيار اليائسين، أم بداية طريق التساوق والقبول بمخرجات الحل الإسرائيلي للقضية الفلسطينية؟

رفضت السلطة البرنامج الوطني للإصلاح، لتجد نفسها مرغمة على الانصياع لبرنامج دولي للإصلاح والوصاية الدولية، وليجد شعبها نفسه من جديد، في مواجهة مع "انتداب أميركي"، لن تكون نتائجه أحسن حالا من حصاد الانتداب البريطاني قبل ثمانية عقود.

ولو أنها اختارت طريق تقديم التنازلات لشعبها، لما وجدت نفسها مضطرة على تقديمها لخصومه وأعدائه، ولكانت، وكان الفلسطينيون، قد تجنبوا العواقب الخطيرة لعهد الوصاية الأميركية وقرار مجلس الأمن الأخير.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

aj-logo

aj-logo

aj-logo إعلان من نحنمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطبيان إمكانية الوصولخريطة الموقعتواصل معناتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتناشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتناقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2025 شبكة الجزيرة الاعلامية

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: دراسات شفافية غوث حريات الشعب الفلسطینی فی صدارة

إقرأ أيضاً:

بعد قرار مجلس الأمن.. كيف تبدو الدولة الفلسطينية المستقبلية؟

في أعقاب إقرار مجلس الأمن الدولي مشروع قرار أميركي يؤيد خطة واشنطن لإنهاء حرب غزة، كشفت صحيفة "إسرائيل هيوم"، الثلاثاء، تفاصيل بشأن ملامح الدولة الفلسطينية المستقبلية، التي يمهد لها القرار.

وأثار القرار جدلا واسعا في إسرائيل، لأنه يشير إلى إمكان قيام دولة فلسطينية في المستقبل.

وينص القرار، إلى جانب بنود أخرى، على أن "الظروف قد تتهيأ في نهاية المطاف لمسار جاد نحو تقرير المصير الفلسطيني وإقامة دولة، بمجرد أن تنفذ السلطة الفلسطينية برنامجا إصلاحيا، ويشهد ملف إعادة تنمية قطاع غزة تقدما".

وجاء في القرار: "ستؤسس الولايات المتحدة لحوار بين إسرائيل والفلسطينيين، للاتفاق على أفق سياسي لتعايش سلمي ومزدهر".

وحسب "إسرائيل هيوم"، فإن مبادئ الدولة الفلسطينية المفترضة ستكون متوافقة مع "صفقة القرن" التي تعود إلى عام 2020، بناء على محادثات الرئيس الأميركي دونالد ترامب ووزير خارجيته ماركو روبيو وصهره جاريد كوشنر، مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الشؤون الاستراتيجية الإسرائيلي السابق رون ديرمر.

ويعني ذلك أن الدولة الفلسطينية ستقام فقط في الضفة الغربية التي تحتلها إسرائيل، وستكون مقسمة إلى قطاعات منزوعة السلاح بالكامل.

إضافة إلى ذلك، لن يحرز أي تقدم نحو هذه الدولة إلا بعد "إصلاحات شاملة في السلطة الفلسطينية، ومحاربة التطرف، وتغييرات في برامج التعليم، ووقف التحويلات المالية للإرهابيين وعائلاتهم بشكل كامل"، وفق الصحيفة الإسرائيلية.

كما أشارت "إسرائيل هيوم" إلى ضرورة صدور إعلان فلسطيني بالتخلي عن "حق العودة".

والأحد قال نتنياهو، تحت ضغط من الأحزاب اليمينية في حكومته، إن إسرائيل لا تزال تعارض قيام دولة فلسطينية".

وعلى مدار أشهر، كرر قادة إسرائيل تصريحات يرون فيها أن "مجرد الاتفاق على دولة فلسطينية يعني تقديم مكافأة لحماس".

وأشار مصدر إسرائيلي لـ"إسرائيل هيوم"، إلى أن "سلوك السلطة الفلسطينية ككيان غير مستقر وغير موثوق"، معتبرا أنها "لا تتمتع بدعم كاف في الشارع الفلسطيني للتصديق على الاتفاق وتنفيذه".

مقالات مشابهة

  • دعم أممي عارم لحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره
  • الخارجية تعقب على اعتماد قرار الأمم المتحدة بشأن الشعب الفلسطيني
  • بعد رفض حماس.. أول تعليق للسلطة الفلسطينية على قرار مجلس الأمن بشأن غزة
  • بعد قرار مجلس الأمن.. كيف تبدو الدولة الفلسطينية المستقبلية؟
  • الرئاسة الفلسطينية: تصريحات «بن غفير» تحريض على القتل
  • المتطرف بن غفير يطلب من نتنياهو اعتقال محمود عباس.. والخارجية الفلسطينية تعلق
  • الرئاسة الفلسطينية تدين دعوة بن غفير لاعتقال عباس بالإضافة لتصريحاته التحريضية ضد مسؤولي السلطة
  • الطائرة السعودية الـ73 لإغاثة الشعب الفلسطيني في غزة تصل مطار العريش
  • وصول الطائرة السعودية الـ 73 لإغاثة الشعب الفلسطيني في قطاع غزة