عربي21:
2025-11-19@11:42:02 GMT

ركن الحج بين شرف الرفادة والتحول الطبقي

تاريخ النشر: 19th, November 2025 GMT

الحج، الركن الخامس من أركان الإسلام، هو رحلة إيمانية تهفو إليها قلوب أكثر من ملياري مسلم حول العالم. إنه ليس مجرد شعيرة، بل هو مؤتمر رباني سنوي تتجسد فيه معاني الوحدة والمساواة والتجرد من متاع الدنيا وزخرفها. تاريخيا، كانت خدمة الحجيج شرفا تتسابق إليه الدول والحكومات على مر العصور، انطلاقا من واجبها الديني.

وبحكم الجغرافيا، نالت المملكة العربية السعودية هذا الشرف وهذه المسؤولية الجسيمة بالإشراف على الحرمين الشريفين وتنظيم شؤون الحج والعمرة.

لكن في السنوات الأخيرة، بدأت تظهر ممارسات وتوجهات لا تثير القلق من تحويل الحج لنموذج أعمال فحسب، بل تكشف عن أبعاد جيوسياسية عميقة، تطرح سؤالا جوهريا: هل أصبح الحج عملا تجاريا أو أداة نفوذ أم كليهما؟

الحج كورقة سياسية وسلطة ناعمة

إن الإشراف الحصري على الحرمين الشريفين يمنح المملكة العربية السعودية مكانة فريدة و"قوة ناعمة" لا تضاهى في العالم الإسلامي. هذا الدور، الذي يُفترض أن يكون تشريفا خدميا، تحول بشكل متزايد إلى أداة سياسية. فمن خلال التحكم في تأشيرات الحج والعمرة وتحديد حصص الدول، تمتلك الرياض القدرة على مكافأة الحلفاء ومعاقبة الخصوم. وقد ظهر هذا جليا في عدة أزمات سياسية؛ فعلى سبيل المثال، خلال الأزمة مع قطر (2017-2021)، واجه المواطنون والمقيمون في قطر صعوبات بالغة في أداء المناسك، مما أثار اتهامات بتسييس الشعائر الدينية، كما أن العلاقات المتوترة مع دول مثل إيران وسوريا أثرت بشكل مباشر على ترتيبات الحج لمواطنيها في فترات مختلفة. هذا الاستخدام الانتقائي لمنح التأشيرات يحول الفريضة الدينية من حق لكل مسلم قادر، إلى امتياز يخضع للحسابات السياسية والعلاقات الدبلوماسية.

تحويل الحج من ركن وشعيرة إلى نموذج أعمال

بداية التحول كانت في فلسفة التكاليف؛ لم يعد الأمر يقتصر على رسوم منطقية لتغطية نفقات الخدمات، فقد شهدت تكاليف الحج ارتفاعا هائلا لتصل إلى أرقام فلكية تجعل أداء الفريضة حكرا على طبقة الأثرياء. ففي مصر على سبيل المثال، قفزت أسعار برامج الحج السياحي لموسم 2025 لتبدأ من حوالي 225 ألف جنيه للبري وتصل إلى 520 ألف جنيه لبرامج الخمس نجوم، وهذا لا يشمل سعر تذكرة الطيران.

هذا التضخم في الأسعار لا يعكس فقط تحسينا في الخدمات، بل يشير إلى عقلية استثمارية بحتة. فوفقا لـ"رؤية 2030"، تهدف المملكة إلى رفع الطاقة الاستيعابية للمعتمرين إلى 30 مليونا سنويا بحلول عام 2030. وتشير التوقعات إلى أن إيرادات الحج والعمرة قد تتجاوز 50 مليار ريال سعودي (حوالي 13.3 مليار دولار) سنويا مع تحقيق أهداف الرؤية. هذه الأرقام تحول الحاج من "ضيف للرحمن" إلى "مصدر للدخل القومي".
 
تتجلى العقلية التجارية الحديثة بأوضح صورها، وأكثرها إثارة للمفارقة، في المشهد العمراني المحيط بالحرم المكي. فبدلا من الحفاظ على الطابع التاريخي والروحي للمكان، تم إفساح المجال لأبراج شاهقة وفنادق عالمية فاخرة، في عملية محو ممنهج للذاكرة. تشير التقديرات إلى أن أكثر من 95 في المئة من المباني التاريخية في مكة قد تم هدمها لإفساح المجال لهذه المشاريع العملاقة.

وهنا تبرز مفارقة تاريخية مؤلمة؛ قبل الإسلام، كان سادة قريش، رغم وثنيتهم، يتنافسون على شرف خدمة الحجيج فيما عُرف بـ"الرفادة" (إطعام الحجاج) و"السقاية" (سقيهم الماء)، كانوا يعتبرون الإنفاق على ضيوف الرحمن من أموالهم الخاصة مصدر فخر ومكانة. لقد كانت خدمتهم للحجيج، على شركهم، قائمة على البذل والعطاء، لا على الأخذ والربح. أما اليوم، وفي ظل إدارة تدعي خدمة الحرمين، نرى منطقا معاكسا تماما، فمشاريع مثل "وجهة مسار مكة"، الذي تبلغ تكلفته حوالي 26 مليار دولار، لا تهدف إلى "رفادة" الحجيج، بل إلى استنزاف جيوبهم. هذه المشاريع العقارية الضخمة تخاطب نخبة قادرة على دفع آلاف الدولارات لليلة الواحدة، وتؤدي إلى طمس الهوية التاريخية لمكة وتحويل محيط الحرم إلى ما يشبه المراكز التجارية الفاخرة، في مشهد يكرس الطبقية ويتناقض مع جوهر الحج القائم على المساواة.

التعامل الأمني

ولعل أكثر ما يثير الاستياء هو طريقة التعامل الأمني مع ضيوف الرحمن. فبدلا من أن تكون العلاقة بين رجال الأمن والحجاج قائمة على الرفق واللين، بدت بعض الممارسات وكأنها مستعارة من منطق تأمين الفعاليات الكبرى. في كل موسم حج، يتم نشر عشرات الآلاف من أفراد قوات الأمن، وتُستخدم تقنيات مراقبة متطورة تشمل آلاف الكاميرات والذكاء الاصطناعي. ورغم أن الهدف المعلن هو "أمن الحجاج"، فإن المشاهد المتداولة لمشادات أو تعاملات فظة، مثل واقعة المعتمر المصري، ترسل رسالة مقلقة. هذا المنطق الأمني الصارم يعامل الحاج كـ"مشارك في فعالية" يجب أن يلتزم بتعليمات صارمة، وأي خروج عنها قد يقابل برد فعل غير متناسب، مما يفرغ الرحلة من جوهرها الروحي.

بين ضرورات التطوير وحفظ الجوهر

بطبيعة الحال، يقدّم المدافعون عن السياسات الحالية حجة أن زيادة أعداد الحجاج تتطلب تطويرا ضخما وبنية تحتية وأمنا على أعلى مستوى، وأن التكاليف المرتفعة هي "ضرورة حتمية" لتمويل هذا التوسع، لكن هذه الحجة تتجاهل جوهر المشكلة. فالتطوير لا يعني بالضرورة الاستبدال الطبقي (gentrification). كان من الممكن توسعة الخدمات دون هدم النسيج التاريخي وبناء أبراج تخدم النخبة فقط؛ التطوير الحقيقي هو الذي يخدم الجميع، لا الذي يخلق فجوة طبقية في أقدس البقاع. أما حجة "الأمن"، فلا أحد يجادل في أهميتها، لكن هناك فرق بين "تنظيم" الحشود لضمان سلامتها، و"عسكرة" الأجواء الروحانية، فالرفق واللين يجب أن يكونا هما الأساس، لا منطق القوة والسيطرة.

إن الإشراف على الحج ليس امتيازا تجاريا، بل هو أمانة ومسؤولية أمام الله والأمة الإسلامية جمعاء. إن تحويل هذه الشعيرة العظيمة إلى مشروع استثماري يهدف للربح المادي وتطبيق منطق "البيزنس" على ضيوف الرحمن، هو توجه خطير يهدد روحانية الركن الخامس ويجعله صعب المنال على غالبية المسلمين.

وعلى السلطات أن تدرك أن دورها ليس دور المستثمر أو منظم الفعاليات، بل هو التشرف بدور الخادم الأمين على أقدس بقاع الأرض. يجب أن تعود الأولوية لخدمة الحاج وتيسير رحلته الإيمانية، لا لتعظيم الأرباح أو الضغط السياسي. فالحج ملك للمسلمين كافة، وسيظل كذلك، مهما حاولت سياسات الخصخصة تغيير هويته.

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات قضايا وآراء كاريكاتير بورتريه قضايا وآراء الحج السعودية الحرمين المناسك السعودية الحج الحرمين مناسك قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء مقالات سياسة مقالات سياسة سياسة سياسة اقتصاد سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة

إقرأ أيضاً:

غوتيريش يحذر من الوضع الأمني في غرب أفريقيا والساحل

أطلق الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، الثلاثاء، تحذيرا بشأن الوضع الأمني في غرب أفريقيا ومنطقة الساحل الذي يزداد صعوبة، مؤكدا أن خطره يتجاوز النطاق الإقليمي ليصبح "تهديدا عالميا متصاعدا".

واعتبر غوتيريش خلال جلسة لمجلس الأمن حول تعزيز السلم والاستقرار في غرب أفريقيا، أن الاجتماع يعقد في لحظة "ملحة جدا".

اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2فيديو.. مساندة شعبية وقانونية للشيخ عكرمة صبري خلال محاكمتهlist 2 of 2مسؤولة أممية تعتبر الجوع والنزاعات تهديدا للأمن الدوليend of list

وقال الأمين العام لمنظمة الأمم المتحدة: "نواجه خطر تأثير الدومينو الكارثي عبر المنطقة بأسرها"، مضيفا أن العديد من البلدان "تترنح".

وشدد غوتيريش على أن الإرهاب في منطقة الساحل "ليس مجرد واقع مأساوي إقليمي، فالروابط المتنامية لجماعاته في أفريقيا وخارجها تجعله تهديدا عالميا متصاعدا".

كما سلط الضوء على التطورات في مالي بوصفها نموذجا لخطورة الوضع، وأشار إلى أن جماعة "نصرة الإسلام والمسلمين" وهي فرع تنظيم القاعدة في منطقة الساحل، عطلت إمدادات الوقود الحيوية إلى باماكو، مما أدى إلى شح في السلع والخدمات الأساسية وأجبر عمليات الأمم المتحدة المنقذة للحياة على تقليص خدماتها.

وحذّر غوتيريش من أنه إذا استمر هذا الوضع، فقد تكون العواقب وخيمة على الأشخاص الذين يعتمدون على هذه البرامج المنقذة للحياة.

وسجل المسؤول الأممي أن دول الساحل كانت قريبة من قاع مؤشر التنمية البشرية، حيث تعاني من مستويات فقر عالية، وضعف المؤسسات والآثار الكارثية لتغير المناخ، مبرزا أنه على خلفية هذه الأوضاع الهشة "تواصل الجماعات المسلحة والشبكات الإرهابية ممارسة الضغط على القوات الحكومية".

كما أشار غوتيريش إلى أن جماعات مثل تنظيم الدولة الإسلامية في الصحراء الكبرى وبوكو حرام، تواصل توسيع نفوذها واستغلال هشاشة الدول في منطقة الساحل.

وأكد الأمين العام على التزام منظمة الأمم المتحدة بالعمل مع دول الساحل، معربا عن ثقته بأنه عبر الجهود المنسقة والإرادة السياسية، يمكن تحقيق الأمن والاستقرار والفرص لسكان غرب أفريقيا ومنطقة الساحل.

إعلان

مقالات مشابهة

  • خبير روسي: الجيش الأوكراني ينقل حوالي نصف أفراده من المنطقة الحدودية لكوبيانسك
  • بمناسبة يوم الإحصاء الإفريقي… أفريقيا تمثل حوالي خمس سكان العالم لعام 2025
  • غوتيريش يحذر من الوضع الأمني في غرب أفريقيا والساحل
  • محافظ بني سويف: تعزيز الوعي المجتمعي والتحول الرقمي خط الدفاع الأول لمكافحة الفساد
  • وزير الزراعة : سعر تنكة زيت الزيتون المستورد حوالي 80 إلى 85 دينار
  • الداخلية تعزز الانتشار الأمني في طرابلس لضمان الاستقرار
  • الخليج العربي للنفط تبحث مع NESR توسيع التعاون التقني لتعزيز الإنتاج والتحول الرقمي
  • بعد حوالي عام على سقوطه.. تداول صورة معلقة لبشار الأسد بمكتب تعليمي في حلب
  • بروتوكول تعاون بين «الغرف التجارية» و «iscore» لدعم جهود الدولة في الشمول المالي والتحول الرقمي