خارطة طريق وطنية بين الضرورة الاقتصادية ومقتضيات الواقع
تاريخ النشر: 25th, November 2025 GMT
م / فهد حسن دهمش
لم يعد النظام الاقتصادي العالمي، خلال السنوات الأخيرة، يسير وفق الإيقاع المعتاد للاستقرار والنمو، بل دخل مرحلة اضطراب ممتد اتسم باضطراب سلاسل الإمداد، وارتفاع تكاليف الشحن والطاقة والسلع الأساسية إلى مستويات غير مسبوقة، في ظل تصاعد الصراعات الجيوسياسية واتساع النزعات الحمائية، ما أعاد تشكيل خريطة التجارة الدولية في بيئة يغلب عليها عدم اليقين والتقلب.
فاليمن يعتمد على الاستيراد لتغطية نحو80٪ من احتياجاته الغذائية، فيما تمثّل الواردات الغذائية ما يقارب 88٪ من إجمالي المعروض الغذائي في البلاد. وقد بلغت قيمة واردات السلع خلال عام 2024 نحو 4.35 مليار دولار أمريكي، ضمن نطاق تراوح بين 4.3 و4.5 مليار دولار خلال عامي 2023–2024.
وفي المقابل، لا تزال مساهمة القطاع الصناعي محدودة للغاية مقارنة بحجم الاقتصاد المنهك؛ إذ لم تتجاوز نسبته نحو 11.8 ٪ من الناتج المحلي الإجمالي في سنوات سابقة. وقد عمّق هذا الواقع فجوة الاعتماد على الخارج، ووسّع عجز الميزان التجاري، وفاقم هشاشة البنية الاقتصادية الوطنية.
ومع غياب بيانات رسمية مكتملة لعام 2025 حتى الآن، تؤكد مؤشرات وتقارير المنظمات الدولية استمرار اعتماد الاقتصاد اليمني على الواردات، ولا سيّما في الغذاء والوقود والسلع الأساسية، بالتوازي مع تراجع القدرة الإنتاجية المحلية، ما يبرز الحاجة الملحّة إلى إعادة الاعتبار لقيمة العمل والإنتاج، واستعادة قدر من السيادة الاقتصادية.
التوطين الصناعي… ضرورة لا خيار
لم يعد التوطين الصناعي في اليمن مجرد توجه اقتصادي أو شعار إعلامي، بل تحوّل إلى قضية وجودية تمس الأمن الاقتصادي والاجتماعي والإنساني على حدّ سواء. فالصناعة الوطنية لم تعد قطاعًا مكمّلًا للنشاط الاقتصادي، بل غدت أحد أهم أدوات الصمود، وخط الدفاع الإنتاجي الأول في مواجهة الانكشاف للسلع الخارجية والاعتماد المفرط على الاستيراد.
لقد اعتمد الاقتصاد اليمني لعقود على الواردات لتغطية معظم احتياجاته، في حين تراجع الإنتاج المحلي بفعل مجموعة من العوامل البنيوية، أبرزها: تدهور البنية التحتية، شح الطاقة والوقود، ضعف البيئة الاستثمارية، هجرة رأس المال والكفاءات، وتداعيات الحرب الممتدة والحصار المطبق. ومع تصاعد الأزمات العالمية، تحولت فاتورة الاستيراد إلى عبء ثقيل، وتراجع الدخل الحقيقي للأسر، واتسعت رقعة الفقر وانعدام الأمن الغذائي.
وفي هذا السياق، يصبح التوطين الصناعي مشروعًا وطنيًا استراتيجيًا يهدف إلى تقليص التبعية الخارجية، وتعظيم القيمة المضافة المحلية، وبناء قاعدة إنتاجية قادرة على الصمود والاستدامة.
مسار تراكمي من الدعم إلى التمكين
لا يتحقق التحول الصناعي بقرارات منفردة، بل من خلال مسار تراكمي متدرّج يقوم على أربع مراحل مترابطة:
1-مرحلة الدعم
تركّز على منح المنتج المحلي أولوية في المشتريات الحكومية، وتنفيذ حملات التوعية، وإقامة المعارض الصناعية، وتعزيز ثقة المستهلك بالمنتج الوطني.
2- مرحلة التعزيز
تشمل رفع الكفاءة الإنتاجية، وتحسين الجودة والمواصفات، وتأهيل الموارد البشرية، وتحديث خطوط الإنتاج، وتطوير أساليب الإدارة والتسويق.
3-مرحلة الحماية الذكية والمؤقتة
تعتمد على أدوات جمركية وتنظيمية مدروسة لحماية الصناعة المحلية من المنافسة غير العادلة، في إطار زمني واضح وموجّه لرفع القدرة التنافسية.
4-مرحلة التمكين
تنتقل فيها الصناعة إلى الاستقلالية والتنافس إقليميًا ودوليًا عبر توطين التكنولوجيا، وتكامل سلاسل القيمة، وربط التعليم بسوق العمل، وتوسيع القدرة التصديرية.
بين الطموح والواقع: مخاطر التسرّع
إن تبنّي سياسات توطين متعجّلة في بيئة غير مهيأة قد يؤدي إلى اختلالات خطيرة، تتمثل في نقص السلع، وارتفاع الأسعار، وظهور الاحتكار والسوق السوداء، وتدهور الخدمات الأساسية. وخاصة أن قطاع واسع من السكان يعاني من ضعف الدخل وانعدام الأمن الغذائي، فإن أي اضطراب بسيط في ميزان العرض والطلب قد يتحول إلى أزمة إنسانية شاملة. إن فشل إدارة هذا المسار قد يقوض الثقة بالسياسات الصناعية ويحوّل التوطين من أداة للنهوض إلى عامل من عوامل الانكماش، مما يجعل التدرّج والتخطيط العلمي المدروس وبناء القدرات المؤسسية شروطًا غير قابلة للتجاوز.
بين الطموح والمعوقات
تواجه عملية التوطين الصناعي في اليمن تحديات بنيوية عميقة، من أبرزها:
غياب استراتيجية صناعية وطنية واضحة، وضعف البنية التحتية (الطاقة، المياه، الطرق، والمناطق الصناعية)، ونقص الكفاءات الفنية، وصعوبة التمويل، وارتفاع تكاليف مدخلات الإنتاج، ومحدودية البحث والتطوير، والمنافسة غير العادلة للمنتجات المستوردة.
ومع ذلك، فإن هذه المعوقات تجعل من التوطين ضرورة أكثر إلحاحًا، وتفرض تبني مقاربة شاملة تقوم على إعادة بناء القاعدة الصناعية، وتنمية رأس المال البشري، وتحفيز القطاع الخاص، وتهيئة بيئة تشريعية واستثمارية جاذبة، وتعزيز الشراكات الوطنية والدولية في مجالات التدريب ونقل التكنولوجيا.
تكوين العناقيد الصناعية: حجر الزاوية في التوطين
تمثّل العناقيد الصناعية أحد أكثر النماذج فاعلية في تنظيم النشاط الصناعي وتعزيز القدرة التنافسية، إذ يقوم العنقود على منظومة إنتاجية مترابطة تضم منشآت صناعية، ومورّدين، ومقدّمي خدمات، ومؤسسات تدريب وبحث ضمن نطاق جغرافي محدد، بما يرفع الكفاءة، ويخفض التكاليف، ويحفّز الابتكار، ويُعمّق الروابط الأمامية والخلفية داخل سلاسل القيمة.
وانطلاقًا من التنوع المناخي والجغرافي الذي تتميز به اليمن، يمكن تطوير عناقيد صناعية متخصصة تراعي الميزة النسبية لكل منطقة صناعية، على النحو الآتي:
• المناطق الساحلية (البحر الأحمر – خليج عدن – بحر العرب): عناقيد للصناعات السمكية والغذائية، بالاعتماد على وفرة الثروة البحرية وإمكانات التصنيع والتعليب والتبريد والتصدير.
• المناطق الزراعية والمرتفعات الخصبة: عناقيد للصناعات التحويلية الزراعية كتصنيع البن والحبوب والبقوليات والفواكه المجففة والعسل، بما يعزز القيمة المضافة ويقلل الفاقد الزراعي.
• مناطق توافر المواد الخام: عناقيد لصناعات مواد البناء والإسمنت والسيراميك ومنتجات المحاجر، دعمًا لقطاع التشييد والبنية التحتية.
• المدن الكبرى ومراكز النقل والاستهلاك: عناقيد للصناعات الخفيفة والمتوسطة، والصناعات البلاستيكية والدوائية البسيطة، إلى جانب الخدمات الصناعية المساندة واللوجستيات.
• المناطق الصحراوية وشبه الصحراوية ذات الإشعاع العالي: عناقيد لصناعات الطاقة المتجددة، ولا سيما الطاقة الشمسية، المرتبطة بالأنشطة الصناعية والزراعية.
ويُسهم هذا التوزيع المكاني للعناقيد الصناعية في تحويل الصناعة من نشاط متشتّت إلى نظام إنتاجي متكامل، قادر على توليد فرص العمل، وتعظيم القيمة المضافة، وتحفيز الاستثمار، وتعزيز التنمية الإقليمية المتوازنة والاستقرار الاقتصادي عبر مختلف مناطق اليمن.
التوطين… طريق المستقبل
في ظل ما يعانيه اليمن من إنهاك اقتصادي وارتفاع مستوى الانكشاف أمام المتغيرات الخارجية، لم يعد التوطين الصناعي خيارًا مؤجلًا، بل أصبح ضرورة وطنية ومصيرية. فالدول لا تُبنى بالاستهلاك، بل بالإنتاج، ولا تُصان بالتبعية، بل بالاكتفاء وتعظيم القدرات الذاتية.
إن التوطين في اليمن ليس مجرد إنشاء مصانع، بل هو استعادة للكرامة الاقتصادية، وإحياء لقيمة العمل، وبناء مسار تنموي مستقل قادر على الصمود في وجه الأزمات.
صُنع في اليمن… منتج وطني يصنع النصر
ليس مجرد شعار، بل رؤية استراتيجية تعيد توجيه بوصلة الاقتصاد من التبعية إلى الإنتاج، ومن الاستهلاك إلى القيمة المضافة. فكل سلعة تُنتَج محليًا هي خطوة نحو تقليص العجز، وخلق الوظائف، وتعزيز الاستقرار الاجتماعي. ومع كل مصنع يعاود العمل، يُبنى أساس أكثر صلابة لاقتصاد وطني قادر على الصمود والمنافسة.
ففي زمن الأزمات، يصنع اليمنيون نصرهم بأيديهم… من خلال ما يُنتَج على أرضهم وبسواعدهم.
· وكيل مصلحة الضرائب والجمارك المساعد للقطاع المالي والإداري
المصدر: الثورة نت
إقرأ أيضاً:
مش تمثيل.. التضامن تستجيب لـكارثة طبيعية بـ 4 إجراءات على أرض الواقع
عندما أسدل الستار على الحلقة المثيرة من مسلسل "كارثة طبيعية"، التي امتد تأثيرها من الشاشات ليطرق أبواب وزارة التضامن الاجتماعي مباشرة، فبعد أن هزّ أداء الفنان محمد ممدوح في دور الوزير، فريق عمل الوزارة، قررت الدكتورة مايا مرسي، وزيرة التضامن الاجتماعي، أن تستغل هذا المشهد الدرامي لتشريح الواقع، وتحويله إلى حماية اجتماعية على الأرض.
في منشور تفصيلي جذاب عبر فيسبوك، ربطت الدكتورة مايا مرسي
بخطوات عملية بين مأساة الزوجين التلفزيونية "محمد وشروق" وبين مئات المآسي الحقيقية التي تتعامل معها الوزارة يوميا.
وكشفت وزيرة التضامن عن "السيناريو الواقعي للتدخل الحكومي"، موضحةً أن عملية الإنقاذ الحقيقية لا تقتصر على "توقيع ورقة" وإنما تتحول إلى خطة طوارئ شاملة من 4 خطوات فورية، هدفها تحويل أسرة منكوبة من حالة اليأس إلى الاستدامة والتمكين الاقتصادي، وذلك من خلال منشور عبر حسابها على موقع فيسبوك.
كيف تبدو "الخطة الدرامية" لوزارة التضامن الاجتماعي على أرض الواقع؟كتبت الوزيرة تحت عنوان: حين تلتقي الوزيرة بـ "محمد وشروق" في قلب الكارثة: وراء الكواليس الدرامية للإنقاذ!.
وتابعت الدكتورة مايا مرسي: منذ أن أسدل الستار على الحلقة المثيرة من مسلسل "كارثة طبيعية"، وأنا وفريق الوزارة نعيش حالة من الترقب والمراجعة. لا أنكر أن أداء الفنان محمد ممدوح الساحر في دور الوزير، رغم إطاره الكوميدي الذي جعله يغادر المشهد قبل توقيع ورقة إنقاذ الزوجين، قد أثار فينا جميعًا سؤالاً جوهريًا: ماذا لو كانت مأساة محمد وشروق حقيقية وصلت إلينا؟.. بالتأكيد، الكوميديا تكمن في المفارقة! لكن الحقيقة تكمن في أننا، كوزراء، نتعامل يوميًا مع مئات المآسي والنداءات المستحقة، التي تصل إلينا بسرعة الضوء بفضل منصات التواصل. المشهد هزّني وجعلني أحلل: كيف سيكون شكل الخطة الدرامية للتدخل الحكومي الحقيقي؟.
وزيرا الاتصالات والتضامن يشهدان توقيع بروتوكول تعاون بين إيتيدا وشركة دي إكس سي تكنولوجي
التضامن: مد فترة سداد رسوم حج الجمعيات الأهلية حتى 4 ديسمبر
وقالت الوزيرة: إليكم السيناريو الواقعي، المستوحى من برامجنا على أرض الواقع، وكيف نحول اليأس إلى أمل:
الفصل الأول: الحماية الاجتماعية العاجلة (الستارة ترفع على الأزمة) لن يكون الأمر مجرد توقيع ورقة! فمجرد وصول نداء محمد وشروق يعني إطلاق صفارات الإنذار في الوزارة:
عملية "إدارة حالة" فورية: يُفتح ملف عاجل، ويُكلف أخصائي اجتماعي ميداني بخطة تدخل مكتوبة وزيارة منزلية عاجلة. مهمته الأولى: رصد الاحتياجات العاجلة (حفاضات، ألبان، مستلزمات طبية) وتقديم الإرشاد الأولي الذي يوقف نزيف الأزمة.
الضربة النقدية السريعة (المساعدة الاستثنائية): لا وقت للروتين! تتدخل المؤسسة العامة للتكافل الاجتماعي بـمساعدة نقدية/عينية استثنائية عاجلة لتغطية الأساسيات في الأسابيع الأولى، خاصة بعد أن باع الزوجان كل ما يملكان.
دعم الإغاثة الطارئ: تفعيل الإدارة العامة للإغاثة لتوفير دعم عيني فوري (أغطية، مراتب، مستلزمات معيشة للأطفال) لإنقاذ الأسرة من العوز المادي التام.
"الألف يوم الأولى": غذاء وحماية: تُدرج شروق وأطفالها فورًا في برنامج "الألف يوم الأولى"، لضمان النمو الصحي للتوائم عبر سلات غذائية ودعم تغذوي مكثف، مع جلسات توعية لروتين الرعاية والتغذية الصحيحة.
مظلة "تكافل": يبدأ بحث إدراج الأسرة في برنامج الدعم النقدي "تكافل"، طالما الأم غير عاملة وغير مؤمن عليها، والأب بلا عمل.
الدعم النفسي والأسري (إعادة بناء الروح):
تدخل الهلال الأحمر المصري : فريق الدعم الطبي يدخل على الخط لتقديم الإسناد الفوري للزوجين المنهكين من الضغوط.
فريق إدارة الحالة : لتقديم الدعم النفسي للام والأب والمساندة
برنامج "مودة": لتفادي المزيد من الانهيار، تُعقد جلسات حوار إرشادية مكثفة بين محمد وشروق لمعالجة الخلافات الأسرية الجوهرية.
الفصل الثاني: التمكين الاقتصادي (بناء منصة النجاة)
بعد تأمين الحماية، ننتقل من الإغاثة إلى الاستدامة. الهدف: تحويل الأسرة من متلقية مساعدة إلى منتجة!
تفعيل أدوات التمويل: تُكلف فرق متخصصة من بنك ناصر الاجتماعي وإدارة التمكين الاقتصادي بدراسة حالة الزوجين. هل محمد يمتلك مهارة؟ هل شروق قادرة على العمل من المنزل؟ هذا طبعا يدرس بعد مرور فترة من الرعاية التوائم
خيارات متنوعة: تُقدم خيارات فورية: برامج تدريبية (من أجل التوظيف)، أو مشروعات متناهية الصغر، أو تمويل "مستورة" (لشروق متى كانت مستعدة)، مع متابعة لصيقة من الأخصائي لضمان نجاح المشروع.
الفصل الثالث: الدمج والنمو (من 3 إلى 6 أشهر)
في هذه المرحلة، نعمل على دمج الأسرة والمساهمة في بناء مستقبل الأطفال:
تنمية الطفولة المبكرة (العودة إلى الحياة): ربط الأطفال بأقرب حضانة مرخصة تحت إشراف برنامج تنمية الطفولة المبكرة، لتوفير رعاية آمنة عالية الجودة ودمج إن لزم الأمر.
التربية الأسرية الإيجابية: تنظيم جلسات لـ"برنامج التربية الأسرية الإيجابية" لتعليم الأبوين أفضل طرق التربية والتواصل مع التوائم.
الفصل الرابع والخامس: مسارات مستقبلية (ضمان الحقوق)
تكافؤ الفرص التعليمية: عند بلوغ الأطفال سن المدرسة، نضمن لهم "تكافؤ الفرص التعليمية" إذا ظلت الأسرة غير قادرة على التكاليف.
بطاقة الخدمات المتكاملة (إن لزم): إذا تبين وجود أي إعاقة للتوائم، يتم استخراج "بطاقة الخدمات المتكاملة" لضمان الحصول على كافة الحقوق والخدمات التأهيلية، وتوفير مراكز التأهيل والحضانات الدامجة.