د. نزار قبيلات يكتب: مِن آداب المجلِس إلى ثَقافة السّرعة
تاريخ النشر: 3rd, December 2025 GMT
قادني الدّرس الألسني الحديث مؤخراً إلى دراسة الأنا والآخر وفق محايثات تستند إلى واقعية جديدة، وحداثة سائلة لا تعتبر ثالوث النظرية الاتّصالية المتعلق بالمرسل والرّسالة والمستقبل، فالنّظريات الاتصالية الحداثية وما بعدها كانت قد أسالت النظرية ذاتها وراحت توسّع من أفق التّوقع وتحطّم القيود نحو فلسفة جديدة مثاليّتها تَكمُن في جدّتها وحداثتهِا، فاليوم مثلاً ينتقل المجتمع وتنتقل معه أدبيات التحاور من الشكل الهرمي الكلاسيكي إلى الشكل الشبكي المتعدد الآفاق والحدود، والذي يتجاوز بدوره ويقفز على قيم صلبة واعتبارات تمّ التخلي عنها اليوم بسهولة، فثقافة العصر وبفضل ما يتيحه الذكاء الاصطناعي ثقافة تركن إلى السّرعة التي تتجاوز القيمة ولا تقف عندها برويّة، ما يجعل مسؤولية الحفاظ على هذه القيمة رهيناً للأصيل والأخلاقي والقيمي، إذ الدّفة اليوم تقودها الآلة الصمّاء التي تُثبت كل يوم أنها مهما تعالت وتطورت، فإنها تبقى بحاجة لمَن يوجّهها ويصوّب مساراتها غير المتوقعة.
لقد اطلعت مؤخراً على كتاب بلاغة الجسد الرقمية لمؤلفته الأميركية «اريكا داون» وأعددت مطالعة مقتضبة حوله ستنشر في مجلة قراءات التي تصدر في جامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية، فقد أدهشني في ذلك الكتاب اعتناء المؤلّفة بالحيثيات والتفاصيل التي تعيّن بوضوح حدود نجاح التواصل بين المتخاطبين رغم بُعد المسافات وغياب التواصل الحسّي، فقد اعتنت الكاتبة بلون الحروف وحجمها وبعلامات الترقيم وطول الجملة وقصرها في التواصل الذي يتم عبر وسائط كمنصة X والواتساب والفيسبوك وغيرها... فالكاتبة «داون» ترى أن ثمّة إشارات غير لغوية وعلامات صورية تؤدي أثراً أبلغ من ملامح الجسد ولغته حينَ التواصل الحسّي، لكنها في ذات الوقت تحاول تبيان السُّبل المناسبة لدرء سوء الفهم والالتباس والعنف اللغوي.
غير أن هذا الأثر تجلّى بوضوح حين عملتُ على وضع دراسة متكاملة همُّها ربط البلاغة الجَدّة ببلاغة السرعة اليوم، محاولاً بذاك تقعيد أسس التأثر والتأثير بين المتخاطبين الرقميين وتحديد المناطق التي يتماسّ معها المتخاطب في حدود الاستجابة العادية والبليغة ومحاذير الوقوع في فَقد الاتصال والعنف وسوء الفهم أو إساءته، وعلى ذلك وجدت أنني أعوم في ثلاثة سياقات هي سياق المجلس والورقة، وأخيراً سياق الشاشة الذي ألغى بدوره كافة الاعتبارات السابقة وساوى بين الجميع في لحظة تزامنية جعلت صغير العائلة أكثر المتواصلين والمتداخلين في «جروب العائلة» بعد أن كان آخر من يسمح له بالتحدث في المجلس التقليدي، ما يعني أننا أمام استحقاق جديد مفادُه أخلاق رقميّة يلزم أن تبقى متّصلة بجذرها العتيق مهما ابتعدنا جسدياً وتقاربنا رقمياً.
*أستاذ بجامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية أخبار ذات صلة
المصدر: صحيفة الاتحاد
كلمات دلالية: نزار قبيلات
إقرأ أيضاً:
محمد مندور يكتب: عمان واستثمارات المستقبل
تشهد سلطنة عمان مرحلة مهمة في مسارها التنموي تترجم رؤيتها نحو الاستثمار كقيمة إستراتيجية ومحرك مستقبلي للاقتصاد.
بالتزامن مع احتفالات سلطنة عمان باليوم الوطني أعلنت تدشين ستة مشاريع صناعية كبرى لتؤكد أن التنمية ليست شعارا بل مسارا مستداما يتجدد كل عام.
هذه الخطوة في تقديري تحمل رسائل مهمة للمستثمرين وللمشهد الاقتصادي الإقليمي والدولي، حيث ترسخ عمان نفسها كوجهة جاذبة للاستثمار. فلم تعد السلطنة تعتمد على موقعها الجغرافي فقط كميزة تنافسية بل صارت نحو بناء منظومة متكاملة من المدن الصناعية والمناطق الحرة والاقتصادية القادرة على استقطاب صناعات المستقبل.
فالمشاريع الجديدة التي أعلنت عنها.. من البولي سيليكون إلى الصناعات الكيميائية.. جميعها تنتمي لقطاعات عالية القيمة. وهو ما يعكس انتقالا لافتا من الصناعات التقليدية إلى صناعات متقدمة ترتبط بالطاقة المتجددة والتقنيات الصناعية الحديثة.
ما نقرأه أيضا من وراء الاستثمارات العمانية رسالة أخرى ان الاقتصاد الوطني العماني يستعد لمرحلة توسع حقيقية وهو ما يمنح الشركات المحلية فرصا أوسع للدخول في سلاسل استثمار عالمية.
وعلى سبيل المثال ، افتتاح مجمع الغيث للصناعات الكيميائية في منطقة صور الصناعية يطرح نموذجا واضحا للتكامل الصناعي. فهو يدعم قطاعات النفط والغاز والطاقة الشمسية عبر منتجات كيميائية متخصصة، ويعزز أمن سلاسل الإمداد وهو بالتالي يحقق واحدا من المعايير لجذب الاستثمار.
أما الاتجاه إلى الاستثمار في إنتاج البولي سيليكون فهو بمثابة حجر زاوية في تحول عمان نحو اقتصاد الطاقة النظيفة.. كما أنه يضع سلطنة عمان ضمن الدول القليلة القادرة على تصنيع المواد الأساسية للخلايا الشمسية.
ما وراء المشهد الاقتصادي في عمان يعد في الحقيقة فرصة ذهبية للمستثمرين.. فالاستثمار العالمي حاليا لا يقوم فقط على رأس المال بل على البيئة التي تحتضنه. وفي عمان تتشكل بيئة استثمارية جاذبة تقوم على
وجود مدن اقتصادية متطورة وقوانين مرنة واستثمارات حكومية واسعة في البنية الأساسية، فضلا عن وجود استقرار سياسي ومالي يدعم نمو الأعمال.
الحقيقة ان سلطنة عمان في يومها الوطني تهدي شعبها مشروعات تنموية من أجل مستقبل أفضل .. فهي تقدم نموذجا يحتفي بالهوية الوطنية والطموح نحو المستقبل.